تميزت المرحلة السياسية التي عاشتها سورية بعد الاستقلال بعدم الانتظام والاضطراب بشقيه السياسي والاقتصادي، وبدا الرئيس شكري القوتلي عاجزا عن ضبط الأمور السياسية في البلاد، وجاءت نكبة فلسطين عام 1948 لتزيد الوضع سوءا حيث عمت الفوضى السياسية والمظاهرات و توجت الأحداث باستقالة حكومة جميل مردم في الأول من كانون الأول عام 1948، الأمر الذي فتح الباب على مصراعيه للتدخل العسكري المباشر في شؤون الحكم ،حيث عمد قائد الجيش آنذاك حسني الزعيم وفي الثالث من كانون الأول عام 1948 إلى التدخل العسكري المباشر لوضع ” حد للاضطرابات الواسعة، وأخضع الصحافة لرقابة قاسية ونجح خالد العظم بتشكيل حكومة حكمت تحت مظلة الجيش حتى أواخر 1949..
وفي صباح 30 آذار 1949 قام الزعيم حسني الزعيم بتسلم زمام الأمور في سوريا، فعمد في 3 نيسان لنفس السنة إلى حل المجلس النيابي رسمياً ،وفي7 نيسان، قام بإعلان إقالة كل من شكري القوتلي وخالد العظم ووضعهما في سجن المزة. شكل الزعيم في 17 نيسان 1949 حكومة وترأسها بنفسه ثم انتخب رئيساً للجمهورية بالإجماع ثم شكل حكومة رأسها محسن البرازي .
لم تستتب الأمور طويلا لمصلحة حسني الزعيم إذ عاجله سامي الحناوي في 13 آب بإنقلاب عسكري أطاح بالزعيم، وبعد يومين على الانقلاب سلّم سامي الحناوي السلطة رسمياً إلى هاشم الأتاسي ، وفي 19 كانون الأول 1949 قام العقيد أديب الشيشكلي بالتحرك عسكرياً واحتجز اللواء سامي الحناوي وأعلم الرئيس الأتاسي بالأمر، وطلب منه تشكيل حكومة جديدة ، وعندما لم ينجح بذلك ، قام خالد العظم بتشكيل حكومة جديدة وأدى الرئيس الأتاسي القسم الدستوري .
لكن الخلافات لم تحل المشكلة وبدت الحكومات عاجزة ومترهلة لا تقوى على النهوض بنفسها حيث تغيرت عدة حكومات في هذا العهد، فبعد حكومة خالد العظم، قام ناظم القدسي بتشكيل حكومتين متتاليتين وكان الجيش ممثلاً بوزير الدفاع فوزي سلو ، ثم عاد خالد العظم وشكل وزارة جديدة في آذار عام 1951، وفي شهر تموز قدم استقالته ليقوم حسن الحكيم بتشكيل حكومة جديدة بموجب المرسوم التشريعي رقم 1191 بتاريخ 9- 8-1951،، لكن لم يكتب لهذه الحكومة العيش مطولا نتيجة الخلاف المستمر مع البرلمان الذي كان يرأسه ناظم القدسي ونائبه سعيد اسحق، حيث قدم السيد حسن الحكيم استقالة حكومته التي استمرت قرابة الثلاثة أشهر , بعد ذلك دخلت البلاد في أزمة وزارية لمده 19 يوما تم على أثرها تكليف السيد معروف الدواليبي بترؤس الحكومة، فشكل حكومته بتاريخ 28 /11 /1951 ،ولكنها اصطدمت برفض الجيش لها ،مما دفع الجيش للتدخل عسكريا بعد يوم واحد فقط من إعلان الحكومة أي في 29 – 11 – 1951، واستلم الجيش زمام الأمور وتم اعتقال رئيس الوزراء معروف الدواليبي وناظم القدسي رئيس مجلس النواب كما تم إعتقال بعض الوزراء والنواب الآخرين , وقدم الدواليبي ( شفهيا ) استقالة حكومته لرئيس الجمهورية هاشم الاتاسي بتاريخ 1 كانون الأول 1951 من سجن المزة , وبتاريخ 2 كانون الأول قدم رئيس الجمهورية هاشم الاتاسي استقالته الى سعيد اسحق النائب الأول لرئيس مجلس النواب ،كون رئيس المجلس ناظم القدسي رهن الاعتقال وسجلت هذه الاستقالة في ديوان مجلس النواب برقم 177 تاريخ 1951/12/2، وفي نفس اليوم ( 2 كانون الثاني ) صدر المرسوم رقم ( 1) عن رئيس الأركان العامة رئيس المجلس العسكري الأعلى العقيد أديب الشيشكلي هذا نصه :
[ إن المجلس العسكري الأعلى بناء على استقالة فخامة رئيس الجمهورية السورية وعدم وجود حكومة في البلاد تتولى شؤونها، يأمر بما يلي:
1- يتولى رئيس الأركان العامة (فوزي سلو) رئيس المجلس العسكري الأعلى مهام رئاسة الدولة ، ويتمتع بكافة الصلاحيات الممنوحة للسلطة التنفيذية.
2- تصدر المراسيم اعتبارا من 2 كانون الأول 1951 عن رئيس الأركان العامة رئيس المجلس العسكري الأعلى.
3- ينشر هذا الأمر العسكري ويبلغ من يلزم لتنفيذ أحكامه ].
وكان أول مرسوم يصدر عن الشيشكلي بصفته رئيس المجلس العسكري الأعلى هو مرسوم حل مجلس النواب في 2/12 / 1951 ،علماً أن هذه المراسيم نشرت بتاريخ 3 كانون الثاني في الجريدة الرسمية بالعدد رقم ( 55 )، وهذا يعني من حيث الضرورة وجود شاغر دستوري في الفترة الواقعة بين الثاني من كانون الأول تاريخ صدور المراسيم وبين الثالث منه تاريخ نشرها لتصبح نافذة قانونا، لذلك كان لا بد عمليا من العودة إلى النصوص الدستورية لمعرفة من قام بمهام رئيس الجمهورية في هذه الساعات الـ 24 تقريبا ؟ حيث أنه حدث فراغاً دستورياً نتيجة استقالة رئيس الوزراء السيد معروف الدواليبي وإيداع رئيس مجلس النواب ناظم القدسي قيد الاعتقال وقيام رئيس الجمهورية السيد هاشم الأتاسي بتقديم استقالته إلى نائب رئيس مجلس النواب السيد سعيد اسحق لذلك وطبقا للدستور القائم آنذاك في مادته السابعة والثمانين :
” يمارس رئيس مجلس النواب صلاحيات رئيس الجمهورية حين لا يمكنه القيام بها، وفي حالتي الوفاة والاستقالة يجتمع مجلس النواب لانتخاب رئيس جمهورية جديد، أما إذا كان مجلس النواب منحلاً أو بقي لانتهاء ولايته اقل من شهرين فان رئيس المجلس يستمر في ممارسة الصلاحيات المذكورة “
وعليه يصبح السيد( سعيد اسحق ) من الناحية الدستورية رئيسا للجمهورية العربية السورية بالوكالة ولمدة 24 ساعة تقريبا، أي لحين نشر المراسيم التشريعية التي أصدرها المجلس العسكري الأعلى بالجريدة الرسمية ،وهنا لا بد من تقديم نبذة عن حياة سعيد اسحق و المفارقة الدستورية التي حصلت بتوليه لرئاسة الجمهورية بالوكالة :
ولد سعيد اسحق في مدينة ماردين من عائلة ” مسيحية ” وأتقن اللغتين العربية والسريانية، وألمّ باللغة التركية ثم انتقل وهو شاب مع الكثير من بني قومه إلى بلدة “عامودا” في الجزيرة السورية اثر رسم الحدود بين تركيا وسورية وإلحاق منطقة “ماردين” وتوابعها بالدولة التركية عام 1928 ،حيث دخل مجال العمل السياسي حين انتخب رئيسا للمجلس البلدي في مدينه عامودا رغماً عن إرادة الفرنسيين .
شكل عام 1932 منعطفاً هاماً في حياة سعيد اسحق حيث خاض غمار أول تجربة برلمانية له، حيث انتخب نائباً عن “الجزيرة” في مجلس النواب السوري، كما تم انتخابه أمينا لسر المجلس النيابي، وتوالى انتخابه نائباً عن الجزيرة خمس دورات انتخابية، حيث نجح في انتخابات عام 1936 عن منطقة الجزيرة , وأيضا كان عضوا في مجلس عام 1943 وفاز بمنصب المراقب وذلك في آب من عام 1943, وعام 1949فاز عن قضاء القامشلي وانتخب بتاريخ 12 كانون الأول 1949 مراقبا للجمعية التأسيسية والتي تحولت إلى مجلس النواب وانتخب بتاريخ 1-10 -1951 نائبا لرئيس مجلس النواب قبل أن يتولى رئاسة الجمهورية بالوكالة .
وبالطبع فإن المفارقة الدستورية تكمن هنا في كونه ” مسيحيا ” في الوقت الذي يذهب فيه الدستور السوري إلى اشتراط الإسلام دينا لرئيس الجمهورية وهنا نذهب إلى رأي احد المحللين السياسيين، في قوله ” أن ذلك ممكن في إطار تفسير النص الدستوري، على أنه يشترط شرط الإسلام في المرشح الذي يخضع لانتخابات أو استفتاء شعبي، أما الرئيس المكلف فإنه لا يشترط فيه شرط الإسلام، لأنه لا تتوافر فيه صفة المرشح التي تتطلب هذا الشرط” .
وبذلك يكون السيد سعيد اسحق دستوريا، رئيسا للجمهورية العربية السورية بالوكالة في سابقة دستورية هي الأولى من نوعها في البلاد .