كتب الزميل فؤاد مطر الخميس الماضي عرضا لرؤساء لبنان قبل وبعد الاستقلال لعله استخلصه من كتابه عن رؤساء الدولة. يشرح الزميل العزيز في عرضه لرؤساء ما قبل الاستقلال أن الانتداب الفرنسي، ويستدرك موضحا، أي الاستعمار، هو الذي سمى الرؤساء. وإذ نقرأ اللائحة اسما اسما نجد ظاهرة مرعبة. وهي أن جميع السادة المنتقين من الاستعمار كانوا أنقياء نظفاء بلا أدنى سمعة فساد. وكانوا جميعا تحت سقف القانون والعدالة والنزاهة. ومعظمهم كان ذوي كفاءات علمية وثقافية عالية جدا، سواء بالنسبة إلى تلك الأيام، أو إلى هذه، التي كثر فيها المتعلمون، وقل فيها الأخلاقيون إلى شبه الانقراض.
جميع رؤساء «الاستعمار» ماتوا فقراء، يقابلهم في الزمن الاستقلالي رجل واحد هو فؤاد شهاب. وأحدهم، الفرد نقاش، كان يذهب إلى السينما من أجل تكييف الهواء. وجميعهم لم يورثوا ابنا أو صهرا، ولم يشركوا في قرارات الدولة عائلاتهم وأصدقاءها وشركاءها التجاريين. ولم يذكر عن أحد منهم أنه فرض رأيا أو فتح سجنا أو ظهر في مكان عام بمظهر غير لائق أو صدرت عنه كلمة نابية.
محزن القول إن كل ذلك تغير بعد الاستقلال. لم تعد السيرة الذاتية مهمة كثيرا. ولم يعد المؤهل أخلاقيا ومعرفة، هو الذي يربح الرئاسة دائما. وعندما حدث الخلل في رأس الهرم، امتد إلى سائر الأعضاء. وأصبح الوزير المؤهل والنائب المستحق والموظف الكفي، هم الشواذ، لا القاعدة. وحطت المقاييس، أو ألغيت في كل مكان وفي جميع المستويات، إلا النادر.
قال الزميل مأمون فندي في رثاء فاتن حمامة إن جيل الكبار في مصر نشأ زمن العهد الملكي منفتحا على ثقافات العالم. والجيل اللبناني الذي نفتقد كباره اليوم، نشأ معظمه في زمن الانتداب، الذي ازدهرت خلاله عدالة المحاكم، وألمعية المحامين، والجامعات والمؤسسات الفكرية، وأقيمت أسس الدولة الحديثة.
لم تصمد تلك الدولة في وجه تيارات الفساد والمحسوبيات إلا بضع سنين، ثم بدأت بالاهتراء. ومن خلال تفسخ المجتمع، تسرب الهلاك الخارجي بشتى أنواعه. ومن العيب أن يفكر المرء في الحنين إلى أيام الانتداب والأغراب، لكنها مجرد مقارنة استدعاها عرض فؤاد مطر لمرحلة تاريخية، أصبحت الآن شاهدا على ما كنا وعلى ما أصبحنا. ترك لنا الفرنسيون دستورا مشابها لدستورهم بعد التشاور مع وجهاء العمل الوطني. وبعدها استعانت الكويت بأهم خبير دستوري عربي لوضع دستورها. وبالطريقة الحضارية نفسها، يدك الحوثيون قصر الرئاسة من أجل أن يفرضوا الدستور الذي يريدون. ما حاجتكم به؟ ابحثوا عن شحنة مدافع جديدة.
نقلا عن الشرق الاوسط