رأي في موضوع: “هجرة المسيحيين: قرع أجراس الخطر”!
المطران يوسف توما
كان موقف الكنيسة في العراق من هجرة مسيحيي العراق إلى الخارج يتأرجح بين التذبذب والازدواجية، فيشعر أبسط الناس أن هناك فرقا بين ما يُقال وما يُعمل، وبقيت أسئلة كثيرة عالقة، تعود اليوم بشكل أقوى لعل أهمّها: “لماذا لا يقوم البابا بتسفير المسيحيين إلى خارج العراق، ألا يستطيع ذلك؟”. كيف يمكننا أن نتعامل مع هذه التساؤلات في ظل الوضع الراهن في بلادنا؟ خصوصا وأن هنالك الجديد الذي يظهر مع تحوّلات عميقة في الكنيسة: على رأسها جاء البابا فرنسيس مختلفا منحازا إلى جانب الفقراء، وعلى رأس الكنيسة الكلدانية جاء بطريرك، أقل ما يقال عنه إنه يختلف عن أسلافه، وهذا الاختلاف يضعه في موضع تساؤل في مواقفه، خصوصا ما يخص الهجرة، فأغلب أتباع كنيسته أمسوا خارج الرقعة الجغرافية التي كانت في الماضي، من هنا جاءت رسالته الأخيرة (يوم 26 نيسان 2014) مثيرة للشجون والحيرة والتساؤل. أحاول في هذه الأسطر أن أنقل الموضوع من مجال الانفعال الذي سببته صرخة غبطته (خصوصا جملته: “نحن كنيسة منكوبة”!) إلى مجال آخر بتنا في أمس الحاجة إليه الآن، ونحن على أبواب منعطف كبير في تاريخ العراق المعاصر، بعد الانتخابات البرلمانية ليوم 30 نيسان الأخيرة.
الهجرة موضوع عالمي واسع وقديم تعرّضت وتتعرّض إليه شعوب عديدة، تعدّدت أسبابه ونتائجه، لذا قامت منظمات محلية وأجنبية تعنى بالهجرة، كالتي في الأمم المتحدة واستحدثت بلادنا وزارات الهجرة والمهجّرين، وارتبط الموضوع بحقوق الإنسان وبالمشاكل الاقتصادية والمالية في العالم. لكنّه اتخذ في كل زمان ومكان أشكالا جديدة وأبعادًا عكست مشاكل زمكانيّة كبيرة. فالهجرة ترتبط بما يحدث من تقلبات وتحوّلات وويلات، وعلينا أيضًا أن نقول: إن هجرة مسيحيي العراق والشرق الأوسط عمومًا اليوم ليست سوى جزء من مشكلة أكبر تعصف بهذه البلاد، وقد طالت الهجرة شرائح أخرى من مجتمعنا (قيل إن مجموع من هاجر من العراق في العقود الأخيرة يتجاوز 12% من السكان، وتجاوز عدد المهاجرين منذ عام 2003 المليونين). هاجر كل من تعرّض للاضطهاد والتنغيص ووقع في صراعات دينية أو قومية أو ذهب ضحية العصابات والإرهاب المتفشي الذي يعدّ علامة مميّزة لعصرنا، ويشبّه امتداد الإرهاب بالعولمة فلم تسلم منه دولة ولا مجتمع وننتظر ممن يكتبون التاريخ المعاصر، أن يلملموا الخيوط والملابسات الحقيقية فيطلعونا على ما يفيد ويوضح الصورة.
عمليا ينبغي أن نلاحظ أن الهجرة نوعان: واحدة إلى خارج البلاد، وهي التي تشكل الزعزعة الكبرى، والتحوّل الجذري للعائلة والمجتمع وتحدث التغيير العميق في بنية المجتمع. وهناك هجرة أخرى داخل البلاد نفسها (أو إلى دول مجاورة لديها نفس اللغة والعادات)، لكن هذه الهجرة لا تقل أهمية عن الأولى بل يقول الباحثون إنها تشكل 90% من مجموع الهجرات. وإن كان ممكنا إحصاء أرقام الهجرة إلى الخارج البعيد، إلا أن أرقام الهجرة الداخلية (والقريبة) أصعب تحديدًا.
لا يمكن في تحليلنا أن نركز على هجرة المسيحيين العراقيين فقط، لنعطي صورة واضحة عن المشكلة، بالرغم من كون قلة عددهم في العراق يثير القلق والشعور بأننا كنيسة منكوبة كما قال البطريرك ساكو: “أقرع أجراس الخطر، وأعلن اننا كنيسة منكوبة. وإن استمر الوضع على هذا المنوال فسوف لن يكون عددنا بعد عشر سنوات سوى بضعة آلاف!”، أي إنهم بالتالي الأكثر تضررًا في العراق من الهجرة، هذا إلى جانب كونهم عنصرًا فاعلا وعريقا في قوة انتمائهم إلى هذا الوطن وتجذرهم العميق والقديم.
مع ذلك، تبقى كل هجرة أيا كانت خطيرة، لأنها تشبه نقل نبتة من مكان إلى آخر، قد تحيا النبتة أو تموت، قد يكون ذلك مفيدًا وقد لا يكون، فتجذّر المهاجر في أرض جديدة ليس مضمونًا ولا ناجحًا على الدوام. وإن كانت الهجرة تبدو للوهلة الأولى حلا سهلا، وهذا ما تشجعه بعض الجمعيات والدول (لأسباب عديدة منها حاجتها إلى دماء جديدة أو خداما نشيطين أو حملة شهادات لا تتعب بهم…)، لكن إذا فكرنا أبعد من الحل السهل والحصول على تأشيرة واكتشاف بلد جديد (وللجديد لذة!)، سوف نرى أن المسالة أكثر تعقيدًا، إذ سرعان ما يكتشف المهاجر أنه قلّ من يُعنى باستقراره في بلده الجديد! وأن تلك المنظمات والمؤسسات التي ساعدته لا تعود تهتم به! وأن الضمانات التي يعطونها له لا تتجاوز المعيشة، أما نجاحه كمهاجر في تلك البلاد فليس مضمونًا، هذا إن لم يجد نفسه في أسفل السلم الاجتماعي، يصارع ليتعلم كل شيء من الصفر في ثقافة قد تكون بالغة التعقيد وبعيدة كل البعد عما عرفه في بلاده.
من جهة أخرى، هناك مسألة قد تغيب عن ذهن أغلب المهاجرين، بأن قرار الهجرة يجب أن يرافقه “وعي”، فمسألة الوعي جوهرية، وهذا يعدّ من أكبر منجزات القرن العشرين (خصوصًا بعد الحرب العالمية الثانية)، فقد وعت الدول التي عانت من الموت بالجملة، ليس أن الفرد “هش” وسريع العطب وقابل للموت فقط، وإنما الجنس البشري كله. لكن ما يميز الأجيال الأولى من المهاجرين هو فقد التوازن والوعي لأنهم يضيعون سنوات طويلة من حياتهم في تعلم اللغة والتكيّف للبلد الجديد، وبذلك يصبحون مستهلكين وغير فاعلين، في حين كانوا في بلادهم في المقدمة الأولى قادرين على أن يغيّروها لو بذلوا الجهد نفسه الذي يبذله المهاجر في تكيّفه واستقراره.
المسألة إذن تكمن في الوعي، لكن الوعي أشكال: هناك وعي ضيق جدًا، أي اهتمام بالأنا وانغلاق على مسائل صغيرة لا فائدة منها ولا خير للآخرين فيها، وهذا سبب مآسي أغلب الناس، وخراب البلاد والعباد. من هنا نفهم أن الكل ينتقد الآخرين، لكنه لا يرى نفسه، فيبقى يراوح أجيالا في مكانه، والكل ينادي بالتغيير (كما في شعارات الانتخابات الأخيرة)، لكنه يقصد أن يتغير الآخرون وهو لا يفكر في تغيير نفسه.
من جهة أخرى، التاريخ أيضًا يحتاج إلى وعي خاص، وتجاهله يعيدنا إلى ارتكاب الأخطاء نفسها. ماذا نقرأ في التأريخ القريب منا؟ لقد عبرنا من فرض آيديولوجيات شتى فلسفية أو قومية أو اشتراكية، إلى الأسلوب نفسه بفرض آيديولوجيات دينية ومذهبية، هذا الفرض يستسهله بعض المنظرين السياسيين (ومسيسي الدين) باعتبار أن المسألة سهلة تكمن في مجرد التطبيق: أي إنها مثاليات فوقية (إلهية) أو أفقية (قانونية) أو نموذجية (مستوردة جملة وتفصيلا)، وهنا يقع الجميع في اعتبار أن هنالك أنموذجًا كاملا مكملا يجب فقط تطبيقه! مثل هذه الأفكار سادت العالم وأدت إلى قيام نظم قاتلة ومذابح جماعية، وإزاحة أناس “على الهوية” واعتبار أن لا مكان لمن لا يفكر مثلنا ولا يدين بديننا ومذهبنا ورؤيتنا. أفكار كهذه لم ولا يسلم منها شعب، وأقول لجميع مهاجرينا: أنظروا حواليكم جيدا وسترون أن كثيرين من جيرانكم يحملونها ضدّكم حيثما حللتم، وإنكم إن لم تكتشفوا ذلك بعد فاعلموا أنكم نيام!
يقول بعضهم عن إمكانيّة تدخل البابا في “تسفير المسيحيين العراقيين إلى الخارج”، لكن سؤالي هو: هل البابا معني بهذا، أو ليس الأحرى به بصفته أبًا للكل أن يعنى بعلاج أسباب الهجرة، لا هجرة المسيحيين فقط؟ والحال نرى في تصريح كل البابَوات الأخيرين وخصوصًا البابا الحالي فرنسيس، اهتمامًا بكل المتضررين والمتألمين والفقراء والمساكين. فالمسألة لديهم ليست في إنقاذ شريحة من المجتمع – وإن كانوا مسيحيين – ولكن إنقاذ الكل، لأن المسيح ليس مخلص المسيحيين فقط، بل كل البشر! وإن كنا اليوم نشهد ظاهرة انكفاء طائفية ومذهبية ومحاصصة قوميّة لدى الكثيرين، إن هذا ما يؤسف عيله، ولا أحد يريد أن يقع فيه البابا أو البطريرك. وإن كانت السياسات قد أصيبت بهذا الداء، إلا أن الصحيح هو إذكاء الشعور بأن على المسيحيين أن يبقوا أمينين لوطنهم ومخلصين لوحدة ترابه وإرثه، وأنهم يتمنون، برغم قلة عددهم، إنقاذ هذا البلد [1]. فالمسيحيون بفضل ثقافتهم وأصالتهم يمكنهم أن يقوموا بهذا الدور في بلادنا ويساعدوا إخوتهم بقية المواطنين، فمن يتألم ليس فقط شريحة ولا جماعة بل الكل يعاني ويحتاج إلينا كجسر مع الحضارات والثقافات الأخرى.
يستطيع المسيحي العراقي في تأصله وتجذّره في هذا البلد أن يُفهم الآخرين بأن بلادنا، كانت ولم تزل، نبعًا للحياة الروحية والفكرية، وإن كان العراق في ما مضى يعيش – كما قال الأب جان فييه الدومنيكي (1914 – 1995) (اختصاصي تاريخ المسيحية في العراق) كان المسيحيون في العراق (بين القرنين 5 – 12 م) يشكلون غالبية سكانه، وثلثهم يعيش حياة صوفية وروحية أو رهبانية، ودليل ذلك آلاف القلايات والأديرة والكنائس من شمال بلادنا وحتى الجنوب. لذا عظام أولئك الإخوة الأبكار وآثارهم وكتبهم تنادينا وتقول لنا: “أنقذوا بلادنا من التصحّر الذي تحدثه الهجرة، أنقذوها من الضياع والتشتت، ومن البكاء على الأطلال، وتطلعوا إلى مستقبل أفضل لكم ولأبنائكم بإسهامكم في بنائه”.
لو استطعنا إذن إلقاء نظرة صحيحة على الماضي، لاستطعنا إعدادًا أفضل للمستقبل وذلك بقوة إرادة تجذّر حقيقية، وتمكنا من فهم ما يجري في عراق اليوم. أليس هذا ما دعا إليه يونان النبي أهل نينوى؟ فالدرس لم يكن لأهل نينوى بقدر ما كان درسًا للنبي يونان نفسه، فتعلم هو عن حقيقة الله الذي قال: “أشفقتَ أنت على الخروعة … أفلا أشفق أنا على نينوى المدينة العظيمة التي فيها أكثر من إثنتي عشرة ربوة (الربوة: عشرة آلاف) من أناس لا يعرفون يمينهم من شِمالهم، ما عدا بهائم كثيرة” (يونان 4/10). هؤلاء هم “شعب الأطفال” الذين علينا أن نفكر بهم قبل كل شيء، لا أطفال جماعتنا فقط، بل أطفال العراق قاطبة.
إن المرء لا يولد مسيحيا، بل يصبح ذلك، عندما يعي أنه أخ لكل إنسان وخصوصا الفقير والمتألم، والمسيحي لا يهتم من بعد بالانتماءات الأخرى، وهذا صعب، لذا يتدرب عليه كل يوم عندما يصلي: “أبانا الذي في السماوات…”. فإذا توسّع مدى النظر لديه أغنى بلادنا بهذه العودة إلى الحب ولاستطاع رؤية أمور أخرى وقراءة مختلفة عن السائد والمعروف، أي عليه أن يسير عكس تيار التخاذل والتعصب والخوف من الآخر والمجافاة والعنف والهرب. ويتذكر حيث ما ذهب أنه في حاجة إلى هذا الصراع. ألم يقل يسوع: “أرسلكم كالخراف بين الذئاب” (متى10/16)، ولا أخفي أن الصورة مرعبة، لكن يسوع يدرك تمامًا ما يقول، ويدعونا إليه ليس تخديرًا لمخاوفنا بل بالعكس شهادة على أن الذئب الذي يجب مقاومته هو في داخلنا، وعندما ننتصر عليه سيتغير العالم فنبقى معه في الحظيرة نفسها.
هل هذا ممكن؟ يبدو أن يسوع قد طلب المستحيل، وأعطى بموته عربونًا وثمنًا لهذه الحقيقة، أي إن لديه أمل بتحويل الذئب إلى خروف، ولولا ذلك لما كان من معنى في سرّ التجسد. لكنّه بقوة هذه الصورة يُفهم المسيحي رسالته الحقيقية، ولهذا يرسله ليتجسّد بين الذئاب، لا كي تصيبه العدوى منهم أو ليهرب منهم أو ليصير مثلهم، بل ليشفى ويشفيهم.
إن دعوة البطريرك لويس ساكو إذن هي دعوة إلى الشجاعة والرجاء وعدم اليأس، وهذا قد يعدّه البعض ضربًا من الجنون، لكن لا يهمّ، ففي هذا فقط تكمن عظمة المسيحيّة وروعة قديسيها، باتباع يسوع، وبهذا فقط سيشهدون له بحياة فاعلة متفائلة إيجابية سعيدة معطاءة، فالهرب ليس “نصف المرجلة”، بل بالوقوف في الصف الأمامي في المجتمع لنكون خميرًا ونورا وملحًا، ونعطي صحراءنا القاحلة خصوبة ونحذف من قاموس بلدنا مفردات الهدم والدمار، ونكتب من جديد عن الحب والخير والعطاء والبقاء.
المطران يوسف توما
رئيس أساقفة كركوك والسليمانية للكلدان
كركوك 1 أيار 2014
_____________________
[1] في يوم 30 نيسان، يوم الانتخابات، ظهرت على القناة الشرقية مقابلة للخبير الاقتصادي باسم جميل أنطون المقيم في بغداد، وعندما وصل إلى ما آل إليه العراق، لم يتمالك نفسه فبكى أمام الكامرة’ فكان لدمعاته تلك تأثير أبلغ من كل خطابات المرشحين المتنافسين الذين بلغوا أكثر من عشرة آلاف، في حين هو لم يرشح نفسه بل بحكمة وقوة أعطى مقترحات عملية يمكن أن تخرج بلدنا من عنق الزجاجة.