بقلم ; عضيد جواد الخميسي
هو أبو ريحان محمد بن أحمد البيروني ولد سنة 362هـ/ 973 م وتوفي سنة 440 هـ /1048 م بغزنة (كابل ـ افغانستان) له عدّة مؤلّفات ترجمت أغلبها إلى أهمّ اللّغات العالمية ولعلّ أهمّها: كتاب(الآثار الباقية عن القرون الخالية) وكتاب (المسعودي في الهيئة والنجوم) وخصّ الهند بكتابين مطبوعين هما كتاب (تحقيق ما للهند من مقولة في العقل أو مرذولة) وكتاب ( راشيكان الهند) الذي طبع في حيدر آباد الدكن بالهند سنة .1948.
تناول البيروني بالتحليل والنقد مناهج المسلمين في دراسة الأديان وما تعلّق بها من طقوس وتقاليد، وصنّف هذه المناهج إلى ثلاثة ضروب : السماع بما هو مشافهة، والكتابة بما هي تدوين، والمعاينة بما هي ملاحظة وتفكّر.ولئن فضّل أبو ريحان المصادر المكتوبة على المصادر الشفوية في مادة الأديان فإنّه جعل كليهما في مقام دون المعاينة.ويبدو أنّه كان على يقين بأنّ المكتوب كان في البدء شفويًا واختلط فيه لحظة التدوين الأسطوري بالواقعية، ولعبت فيه الذاكرة الدينية الجماعية دورًا في رسم معالم الرأي الآخر الذي يخالفنا المعتقد.
إنّ الأخبار المدوَّنة تظلّ ـ عند البيروني ـ رافدًا مهمًّا في معرفة بقية الحضارات والديانات ـــــ فمن أين لنا العلم بأخبار الأمم لولا خوالد آثار القلم؟ ــــ ولذلك رأى أنّ الكتابة نوع من أنواعه يكاد أن يكون أصدق من غيره، ولكنّ هذا الرّافد المعرفي محدود الآفاق ومليء بالتناقضات وذلك من منظورين : فهو من جهة يجمع صحيح الأخبار وفاسدها ويمزج بين الواقع والخيال، ومن جهة ثانية لا يستجيب إلى تطوّر الزمن وتغيّر المنظومات. فالظواهر الدينية متغيّرة ومتطوّرة ولذلك أقرّ البيروني بأنّه [ لولا لواحق آفاتٍ بالخبر لكانت فضيلته تبين على العيان]…وعلى هذا الأساس نظّر صاحب ( الاثار الباقية عن القرون الخالية ) لمنهج يقوم أساسًا على المعاينة فاستهلّ مقدّمته بقوله(,إنّما صدق قول القائل ليس الخبر كالعيان)..ويبدو أنّ اعتماد قول قائل يميّز بين الخبر والمعاينة يعني أنّ هذا المنهج ليس من ابتكار البيروني بل هو وجه من وجوه الثقافة العربية الإسلامية، ولكنّه وجه خافت لا يكاد صوته يُسمع أمام هيمنة ثقافة السّماع ومنهج المأثور. ولو دقّقنا النّظر في تعريف البيروني للعيان لأدركنا أهمية هذا المنهج في دراسة الأديان وآية ذلك أنّ [ العيان هو إدراك عين الناظر عين المنظور إليه في زمان وجوده وفي مكان حصوله ] ..
لقد أثار البيروني وهو يتحدّث عن منهج الحكاية في نقل أخبار الأمم ومعتقداتهم إشكالية الصدق في القول، ورأى أنّ (المجانب للكذب المتمسّك بالصدق هو المحمود الممدوح) وهذا يعني أنّ دراسة الآخر عقيدة وثقافة وعمرانًا رسالة نبيلة تتطلّب إخلاصًا للعلم وصرامة في مناهجه. والمدقّق في هذا الموقف يلاحظ أنّ صاحب التحقيق يوجّه انتقادًا ضمنيًا لمن سبقه أو عاصره من العلماء المسلمين وخاصة من أصحاب كتب المقالات الذين تبحّروا في ذكر أخبار الملل والنحل من خلال السماع والرواية لا المعاينة والدراية.
والبيروني يذكر لنا في ,, الاثار الباقية عن القرون الخالية,, عن ديانة الصابئة او المندائية حصراً ، والتي اخذت حيزاً اكبر دون الديانات الاخرى في هذا الكتاب ، حين قال [[ ,, القول على تواريخ المتنبئين واممهم المخدوعين عليهم لعنة رب العالمين ، ونقول على تاريخ المتنبئين فقد خرج فيما بين مااوردناه من الانبياء والملوك نفر من المتنبئين ، يقصر الكتاب عن تعدادهم ، والإبانة عن اخبارهم ، فمنهم من هلك غير متبع ، ولم يبقى إلا الذكر بعده فقط ، ومنهم من اتبعه أمة، وبقيت نواميسه عندها ، وهم مستعملون تاريخه ، فمن الواجب ان نذكر تواريخ المشهورين منهم ، فان ذلك منفعة في علم احوالهم ايضاً ، وأول المذكورين منهم بوذاسف ، وقد ظهر عن مضي سنة من ملك طهمورث بارض الهند واتى بالكتابة الفارسية ودعا الى ملة الصابئين ، فاتبعه خلق كثير ، وكانت ملوك البيشداذية ، وبعض الكيانية ممن كان يستوطن بلخ (نهر البليخ احد تفرعات نهر الفرات الواقع في جنوب تركيا )يعظمون النيرين والكواكب ، وكليات العناصر ويقدسونها الى وقت ظهور زرادشت، عن مضي ثلاثين سنة من ملك بشتاسف ، وبقايا اولئك الصابئة بحرّان(*) ينسبون الى موضعهم ،فيقال لهم الحرانية ، وقد قيل انها نسبة الى هاران بن ترح اخي ابراهيم عليه السلام، وانه كان من بين رؤوسائهم ، اوغلهم في الدين ، واشدهم تمسكا به، وحكى عنه ابن سنكلا النصراني في كتابه الذي قصد فيه نقض نحلتهم، فحشاه بالكذب والاباطيل ، انهم يقولون ان ابراهيم عليه السلام ،انما خرج عن جملتهم ، لانه ظهر في قلفته برص ، وان من كان به ذلك فهو نجس لايخالطونه ، فقطع قلفته بذلك السبب ، يعني اختتن ، ودخل الى بيت من بيوت الاصنام ، فسمع صوتا من الصنم يقول له -;- يا ابراهيم خرجت من عندنا بعيب واحد ، وجئتنا بعيبين اخرج ولا تعاود المجيء الينا ، فحمله الغيظ على ان جعلها جذاذاً ، وخرج من جملتهم ، ثم انه ندم بعد مافعله، واراد ذبح ابنه لكوكب المشتري على عادتهم في ذبح اولادهم ، زعم ، فلما علم كوكب المشتري صدق توبته فداه بكبش .
وكذلك حكى عبد المسيح بن اسحق الكندي النصراني عنهم ، في جوابه عن كتاب عبد الله بن اسماعيل الهاشمي ، انهم يعرفون بذبح الناس ، ولكن ذلك لايمكنهم اليوم جهراً .
ونحن (والكلام للبيروني) لانعلم منهم إلاّ اناس يوحدون الله وينزهونه عن القبائح، ويصفونه بالسلب لا بالايجاب ، كقولهم ، لايُحد ولايُرى ،ولايظلم، ولا يجور، ويسمونه بالاسماء الحسنى مجازاَ ، اذ ليس عندهم صفة بالحقيقة، وينسبون التدبير الى الفلك واجرامه ، ويقولون بحياتهم ونطقها وسمعها ، ويعظمون الانوار ، ومن آثارهم القبة التي فوق المحراب عند المقصورة في جامع دمشق(**) وكان مُصلاهم ايام كان اليونانيون والروم على دينهم ، ثم صارت في ايدي اليهود فعملوها كنيستهم ، ثم تغلب عليها النصارى فصيروها بيعة ، الى ان جاء الاسلام واهله فاتخذوها مسجداً ..
وكانت لهم هياكل واصنام بأسماء الشمس معلومة الاشكال كما ذكرها ابو معشر البلخي في كتابه في بيوت العبادات ، مثل هيكل بعلبك كان لصنم الشمس ، وحرّان فانها منسوبة الى القمر وبناؤها على صورته كالطيلسان ، وبقربها قرية تسمى سلمسين، واسمها القديم صنم سين،اي صنم القمر،وقرية اخرى تسمى ترع عوز، اي باب الزهرة ، ويذكرون ان الكعبة وأصنامها كانت لهم ، وعبدتها كانوا من جملتهم ، وان اللات كان باسم زحل ، والعزى باسم الزهرة، ولهم انبياء كثيرة ، واكثرهم فلاسفة يونان كهرمس المصري ، وأغاذيمون ،وواليس ، وفيثاغورس ، ويابا ، وسوار جد أفلاطون من جهة امه ، وامثالهم .
ومنهم من حرّم عليه السمك خوفا ان يكون زغادة ، والفرخ لانه ابدا محموم ، والثوم لانه مصدع محرق للدم او المِنى ، الذي منه قوام العالم والباقلاء فانه يغلظ الذهن ويفسده ، وانه في اول مرة انما نبت في جمجمة انسان ، ولهم صلوات ثلاث مكتوبات أولها عند طلوع الشمس ثماني ركعات ، والثانية قبل زوال الشمس عن وسط السماء خمس ركعات ، والثالثة عند غروب الشمس خمس ركعات ، وفي كل ركعة في صلاتهم ثلاث سجدات ، ويتنقلون بصلاة في الساعة الثانية من النهار ،واخرى في التاسعة من النهار ، وثالثة في الساعة الثالثة من الليل ويصلّون على طهر ووضوء ، ويغتسلون من الجنابة ، ولا يختتنون اذ لم يؤمروا بذلك زعموا ، واكثر احكامهم في المناكح والحدود مثل احكام المسلمين ، وفي التنجس عند مس الموتى ، وامثال ذلك ، شبيهة بالتوراة ولهم قوانين متعلقة بالكواكب واصنامها وهياكلها وذبائح يتولاها كهنتهم وفاتنوهم ، ويستخرجون من ذلك علم ما عسى يكون الٌمقرِبْ وجواب ما يسأل عنه .(يبدو هناك مرة اخرى خلطاً بين طقوس ومراسيم وتقاليد وعادات لديانات اخرى وحشرها عنوة في معتقدات الصابئة ، سواء الحرانيين منهم او اهل البطائح) .
وقد يسمى هرمس بـ إدريس الذي ذكر في التوراة أخنوخ ، وبعضهم زعم ان بوذاسف هو هرمس ، وقد قيل ان هؤلاء الحرانية ليسوا هم الصابئة بالحقيقة بل هم المسمون في الكتب بالحنفاء والوثنية ، فان الصابئة هم الذين تخلفوا ببابل من جملة الاسباط الناهضة في ايام كورش ، وايام ارطحشست الى بيت المقدس ، ومالوا الى شرائع المجوس فصبوا الى دين بختنصر ، فذهبوا مذهبا ممتزجا من المجوسية واليهودية كالسامرة بالشام قد يوجد اكثرهم بواسط,, جنوب بغداد ,, وسواد العراق ، بناحية جعفر والجامدة ، ونهري الصلة ,, القرنة ملتقى دجلة والفرات ,, منتمين الى أنوش بن شيث ، ومخالفين للحرانية ، عائبين مذاهبهم لايوافقونهم ، الا في اشياء قليلة ، حتى انهم يتوجهون في الصلاة الى جهة القطب الشمالي ، والحرانية الى الجنوبي ، وزعم اهل الكتاب انه كان لتوشالح ابن غير ذلك يسمى صابي ، وان الصابئة سُموا به ، وكان الناس قبل ظهور الشرائع وخروج بوذاشف شمنيين سكان الجانب الشرقي من الارض وكانوا عبدة اوثان ،وبقاياهم الان بالهند والصين والتغزغز ، ويسميهم اهل خراسان شمنان ، واثارهم وبهارات اصنامهم وفرخاراتهم ظاهرة في ثغور خراسان المتصلة بالهند ، ويقولون بقدم الدهر ، وتناسخ الارواح ،وهوي الفلك في خلاه غير متناه ، ولذلك يتحرك على استداره ، فان الشيء المدور اذا ازيل ينزل مع دوران زعموا ، ومنهم من اقر بحدوث العالم ، وزعم ان مدته الف الف سنة مقسومة باربعة اقسام ، اولها اربعمائة الف ، وهو زمان الصلاح والخير، فيجتمع له ثلاثة الاف واربعمائة وسبعة وخمسون، ونظن انهم يلاحوننا فيما نورده من معنى نجومي لاشتراكنا معهم في علمه ، فاذن ليس لاعتلال المعتل وتأويل المتأول معنى بوجه من الوجوه ، هذا الذي ذكرناه من امر القسمة يشهد لاهل مصر في امر الحدود ، فان مدة حد الزهرة في الحوت اربعمائة سنة على قولهم ومائتان وستة وستون على قول بطليموس ، وقد قدمنا ان المدة التي بين الاسكندر واردشير تجاوز الاربعمائة سنة ، واجتهدنا في تصحيح ذلك ..]] انتهى الاقتباس .
(*) هذه القصة رواها كل من المسعودي ، النديم ، القاضي الهمذاني، والشهرستاني ،والمقصود هنا التبشير بالديانة البوذية على يد مؤسسها بوذاسف ، ويبدو هناك خلطا بين الديانتين البوذية والمندائية ومن اثر التناقل اصبح الخطأ صوابا .
(**) المقصود هنا الجامع الاموي وسط دمشق وفيه قبر النبي يحيى بن زكريا او يهيا يهانا او يوحنا المعمدان ، والصابئة المندائيون يتبعونه ويؤمنون به ،ولهم كتاب بتعاليمه يدعونه ,, دراشا اد يهيا ,, اي كتاب يحيى ، كما يوجد الى جانب القبر ثلاثة هياكل من الخشب وبالحجم الكبير للرمز المندائي (الدرفش) وهو راية النور والسلام والحياة ،
وهو عبارة عن صليب وعليه قطعة قماش بيضاء مع أغصان صغيرة من شجر الآس على منتصف الصليب في منطقة التقاطع. عادة يصنع الدرفش من أغصان القصب ، كما ان تلك الهياكل مركونة في احدى زوايا مكان القبر بالشكل المقلوب ومهملة تماما ،لجهل القائمين على المكان ،بالاهمية الدينية والتاريخية لهذه الهياكل .
المصادر
ــــــــــــــــــــــــــــــ
الكافية في الجدل ـ ابو المعالي الجويني ـ ، دار الكتب العلمية بيروت،1999 ، تحقيق: خليل المنصور
منتهى الوصول والأمل في علمي الأصول والجدل ــ ابن الحاجب (جمال الدين عثمان )تـ 646 هـ ، دار الكتب العلمية، 1985
كتاب الجدل والمغالطة ( جزء 6 و 7)، دار الفكر اللبناني، بيروت، 1992،ط1، تحقيق: جيرار جيهامي
علم الجذل في علم الجدل ــ نجم الدين الطوفي ــ منشورات المعهد الألماني للأبحاث، بيروت، 1987.
الاثار الباقية عن القرون الخالية ــــ ابي الريحان محمد بن احمد البيروني ــــ ص205 ،ص206 ،ص 318 ــــ طبعة لبنان