الشرق الاوسط
احتفل لبنان في مطلع أغسطس (آب) الجاري بـ«يوم الجيش»، وجرى خلال احتفال رسمي تخريج جيل جديد من الضباط.
في سماء المدرسة الحربية، المطلة على بيروت، حلقت هليكوبترات عسكرية حاملة الأعلام الوطنية. وتحتها في الساحة الكبرى للمدرسة سارت طوابير العرض، وقطع رمزية من الأسلحة والأفواج خلف راياتها، وفي المنصة الرئيسة تابع الاحتفال أركان الدولة من كبار الرسميين.
شكليا كانت «الدولة» حاضرة.
الرؤساء من شتى الأصناف والمسميات كانوا هناك.. «الحالي» منهم و«الدائم» و«المستقيل» و«المكلف». وربما، على مقربة منهم، كان هناك أيضا رئيس «مقبل»… من يدري؟
حتى الخطاب التقليدي لرئيس الجمهورية ميشال سليمان جاء خطاب رجل دولة حقيقي يعيش هاجس السيادة… الحاضرة مظهرا والمغيبة مضمونا. لكن تداعيات الخطاب، في ضوء مضمونه الجريء حول حصرية السلاح ومفهوم التوافق الوطني ومعنى «الشهادة» – وفق الواقع اللبناني السوري المزري – لم تنتظر طويلا.
ردات الفعل جاءت سريعة، لكن الأهم كان الرسائل الصاروخية وخطاب السيد حسن نصر الله بمناسبة «يوم القدس» وما أثاره من لغط، وكذلك تفاقم أعمال الخطف الطائفي المتبادل، والقصف الجوي السوري للمناطق الحدودية القريبة من بلدة عرسال، وكلها تعكس مدى انهيار الدولة بكل مضامينها.
لبنان اليوم، بمعزل عن عبثية اللبنانيين المزمنة في الهروب من الوقوع، يعيش عدا عكسيا باتجاه الانهيار. إذ ما عادت هناك أي نقاط تلاق وطني… بينما تنهار مؤسسات الدولة الواحدة تلو الأخرى أمام خلفيات عشائرية – فئوية ونفسيات مريضة وزعامات محلية متخلفة وضيقة الأفق وسقيمة المنطق.
الأمثال أكثر من أن تعد أو تحصى، ولكن أبرزها التعايش العجيب المفروض بالقوة بين «دولة» ضعيفة و«دويلة» قوية. هنا «الدولة» سلاحها مخصص لضمان الأمن الداخلي لا أكثر، لكنه غير مؤهل لقتال العدو، كما لمح بالأمس قائد سابق للجيش اسمه ميشال عون، في سياق تأكيده تأييد احتفاظ حزب الله بسلاحه.
تأييد عون، النائب في البرلمان، تكرارا لوجود سلاح خاص أقوى من سلاح الجيش لا بد أن يثير علامات استفهام في أي بلد يحترم نفسه. ثم إن هذا «السلاح الخاص» غير متاح لجميع اللبنانيين لأن الحزب الذي يملكه حزب ديني، وقراره السياسي والعسكري خارج صلاحيات الدولة اللبنانية المفترض أن يتساوى المواطنون جميعا تحت سقفها… ابتداء من الاستشهاد في سبيل حماية تراب الوطن… وانتهاء بدفع الضرائب والجمارك والحصول على تعويضات البطالة ونهاية الخدمة!
أيضا هذا الجيش، الذي يعد إلى جانب القضاء آخر حصون «الشرعية» الهشة في البلاد، مجبر بحكم ميزان القوى المختل بين «الدولة» و«الدويلة»… على ممارسة المهام الموكلة إليه بانتقائية. فما يتاح له فعله في ضواحي مدينة صيدا وفي محيط عرسال يعجز عن فعله، بل من غير الوارد أن يفعله، في «مربعات أمنية» محظورة عليه بحجة تفرغها لمهام «المقاومة». ولذا لا يكترث ساسة من نوعية عون بكونهم يؤذون صدقية الجيش ويهددون هيبته ويفقدونه ثقة المواطنين بحياديته عندما يفرطون بدعمه كلاميا إبان أو بعد عمليات تتعلق بمناطق جغرافية ومذهبية معين… دون مناطق أخرى.
هذا يجر إلى إثارة نقطة قد لا تهم غير اللبنانيين هي الأزمة التي أثيرت حول تمديد مدة خدمة قائد الجيش ورئيس الأركان.
قبل بضعة أشهر، عندما بلغ اللواء أشرف ريفي قائد قوى الأمن الداخلي (سني من مدينة طرابلس) سن التقاعد أصر تكتل «8 آذار»، المكون من «الثنائي الشيعي» (حزب الله وحركة أمل) وتوابعه من شراذم وتنظيمات، على رفض تمديد خدمته. وفعلا أحيل ريفي، المحسوب على تيار «المستقبل»، على التقاعد.
ولكن بالأمس مع اقتراب كل من قائد الجيش جان قهوجي (ماروني) ورئيس الأركان وليد سلمان (درزي) من سن التقاعد، ارتبك الوضع وتنادى الجميع للعمل على التمديد لهما. وحقا أيد «الثنائي الشيعي» التمديد في حين جاءت المعارضة الوحيدة من عون.
إلى هذا الحد تبدو الأمور طبيعية بالنسبة لعون الذي كان أصلا ضد التمديد لريفي، ومجددا انسجم مع نفسه فعارض التمديد لقهوجي وسلمان. غير أن باطن الأمور يختلف عن ظاهرها.
في الأصل كان تعيين قادة الأجهزة الأمنية (الجيش والأمن الداخلي والأمن العام وأمن الدولة) يرضخ لتفاهمات عريضة تنطلق من تمتع القائد المرشح بترشيح قوي من الزعامة النافذة للطائفة التي ينتمي إليها… ثم تكتمل عملية التعيين بموافقة الآخرين. إلا أن وجود السلاح في يد تنظيم طائفي واحد غير عناصر المعادلة كلها. وبالتالي، بات تيار «المستقبل» الذي يمتلك غالبية التمثيل النيابي السني عاجزا عن فرض مرشحه المفضل أو – كما في حالة ريفي – الدفاع عنه والتمديد له. والأمر نفسه ينطبق على وليد جنبلاط الذي مورس «الفيتو» غير مرة ضد مرشحه المفضل لرئاسة الأركان.
في حالة قهوجي فإنه حظي بترشيح عون – مدعوما من «الثنائي الشيعي» طبعا – ورضا رئيس الجمهورية. ويومذاك كان ثمة مصلحة في تعيين قهوجي وفق حسابات عون… وأطراف مسيحية أخرى. لكن الأمر يختلف الآن في ظل الشلل الكامل للمؤسسات السياسية الذي يتجلى في تعذر تشكيل حكومة، فقد يعني التجديد لقهوجي جعله المرشح المفضل لرئاسة الجمهورية، كما حصل مع سلفه ميشال سليمان قبل بضع سنوات.
هذا الاحتمال مرفوض تماما عند عون الذي يرى أن لديه ثلاثة مرشحين لرئاسة الجمهورية، هم شخصه (مع أنه يقترب من سن الثمانين)، بالإضافة إلى زوجي ابنتيه العميد شامل روكز قائد فوج المغاوير (القوات الخاصة) والوزير جبران باسيل.
عون ما زال يطمع بالرئاسة… ومن أجلها لا يمانع بأي فراغ. أما حزب الله فمشروعه أكبر بكثير، وبعد قتاله في سوريا فإنه الآن عبر التجنيس الطائفي في مناطق بعينها من سوريا… منهمك بضبط رسم خريطة سوريا المقسمة.