حرص النظام السوري منذ البداية على تسخيف طروحات المعارضة، كما فعل طوال 50 سنة. فما الحرية أمام الأمن، وكأنهما لا يتلازمان. وما العدل أمام السلامة، وما القانون أمام مواجهة إسرائيل! وأشاع الحزب الحاكم، بافتخار شديد، أن سوريا بلد غير مدين، في الداخل أو الخارج. ولم يقل مرة إن عدم الاستدانة لا يعني مطلقا الاكتفاء. فالنرويج أيضا مدينة، ودخل الفرد فيها سوف يتجاوز هذا العام 90 ألف دولار، مقابل نحو أربعة آلاف للسوري. أما الفارق في مستوى المعيشة بين دولة كثيرة الديون مثل أميركا أو فرنسا، وسوريا قبل الانفجار، فلا مجال للنظر فيه.
حاول النظام تسخيف جميع طروحات الثورة بجميع الوسائل، ومنها تزوير وتركيب الصور والأحداث المزعومة. وتحدث وزير الخارجية، وليد المعلم، عن قيام المعارضة بعمليات تعذيب وشنق تبين أنها مأخوذة من عملية همجية ضد مصريين في قرية لبنانية. الأمثال كثيرة لدرجة لم تعد تستحق التكذيب، لكن النظام لم يعد في حاجة إلى شيء من هذا، منذ أن ظهرت «داعش» و«جبهة النصرة» وبعض الفرق الأخرى، وراحت تنشر في المدن والقرى مفهومها للحرية والقانون والعدل والعمل والكفاية.
تحولت صورة الثورة تماما من ظلامة بلا حدود إلى ظلم كافر، ومن مجموعة أساتذة ومثقفين وأدباء وفنانين وأكثرية صامتة، إلى مذابح وخطف وتنكيل وخوات وسرقات ونهب. وبينما سيطرت في البدايات همجيات الشبيحة وفظاعاتهم حيال المدنيين، فاقت ارتكابات الأجنحة العنفية الصور الماضية، أو كادت.
صار هذا الجزء من «الثورة» عدوها الأول وحليف النظام الأكبر. نسيت الناس أدوار الإيرانيين وفجاجة الروس في تدمير سوريا، ولم يعد ظاهرا في الصورة سوى هزائم «النصرة» و«داعش» أمام النظام وحزب الله و«عصائب الحق»، وانتصاراتها على الأهالي والسكان والهاربين والبائسين.
اختفت أصوات إسطنبول وأصدقاء سوريا، وأصوات باريس ولندن والمجالس، وصارت الصورة وكأن النظام يواجه فقط الإرهاب و«التكفيريين» وليس شتات الشعب السوري ومآسيه. لا نعرف كم هو مدبّر من هذا الارتكاب، وكم هو تلقائي يعبر فعلا عن طبيعة أصحابه، لكنه شراكة معلنة في محاولات النظام المستمرة في تشويه آلام السوريين وتسخيف المطالب التي خرجوا بها بعد 50 سنة. وهي البداهات التي تعمل بها دول القانون المألوفة، وليس «دولة القانون»، القائمة على التهريج الدموي، وتغذية التحلل الوطني، ونسف مفاهيم الحياة المدنية، وتدمير آفاق الشعوب، وتحطيم آمالها، واحتلال نفوسها بالخوف والرعب وأشباح الموت والعويل.
نقلا عن الشرق الاوسط