د. اكرم هواس- اكاديمي عراقي- الدنمارك
في منطقة الشرق الأوسط تحدث أشياء كثيرة …. متناقضة متسارعة … ترسم أحلاما لدى الكثيرون لكنها سرعان تتحول الى احباط و توتر و قلق… ينبري الكثير من المحللين لرسم سيناريوهات لكنها تنتها بسرعة مع واقع التطورات المتسارعة و مساراتها المتلاطمة… الجماعات الاسلامية تتمدد و تبرز قوة مهيمنة ليس بمستوى عنفها و إنما أيضاً بمستوى علاقاتها مع القوى الكبرى… ثم للحظة يبدو ان التصورات تتعارض مع تغييرات جوهرية … أنظمة سياسية انهارت.. او كانت على وشك الانهيار.. ثم لم تلبث ان عادت الى حيويتها… و ربما أخذت ترسم ملامح وجه “جميل” للنظام التقليدي القبيح….
بين كل هذه المتناقضات … اعتقد ان عاملا مشتركا يبقى قائما… و هو ان اغلب هذه القوى التي تقود التغييرات… ان لم نقل كلها… تستند في منهجها الفكري و السياسي على مفهوم دولة المنتصرين…
هذا المصلح … كنت قد طرحته في مقالة سابقة بعنوان…. اشكالية المفاهيم المؤسسة للثقافة العراقية… و قد شرحت المفهوم بشكل عام و اود هنا أن أضع هذا المصطلح في إطار أوسع فيما يتعلق بالتطور الاجتماعي السياسي و الاقتصادي في المجتمعات العربية منذ إنشاء الدولة الحديثة..
و لكي أكثر دقة في اختيار العناصر المكونة لهذا لابد المصطلح لابد أن نبدأ ببعض الملاحظات المهمة… أولا…. أننا اخترنا الدولة الحديثة لانها هي مرحلة الدولة التي مبدئيا بنيت على أساس المواطنة و التي تعني المساواة بين المواطنين و المجموعات البشرية بغض النظر عن الأسس التي يمكن وضعها في إطار ما يسمى بال… ما قبلية… مثل الإثنية و العشائرية و الدينية و غيرها مما لا تلعب دورا في تحديد قيمة المواطن و موقعه الاجتماعي في إطار القانون… أما الأنماط الاخرى للدولة قبل بناء الدولة الحديثة فقد كانت اغلبها مبنية على القوة و بذلك فإنها بشكل او بآخر كانت دولة منتصرين.. و بالنسبة الى العالم العربية فالأمر لا يحتاج الى دراسات عميقة حتى نكتشف أساس دولة المنتصرين فيها… فالتاريخ الذي يدرس في جميع المراحل الدراسية في المدارس و الجامعات و غيرها يؤكد أن دولة المدينة و دولة الراشدين و كذلك الدولة الأموية و الدولة العباسية و الدولتين الصفوية و العثمانية و جميع الإمارات الإسلامية كلها بنيت على سيطرة هذه المجموعة او تلك على السلطة بقوة السلاح و القتل و الدمار ضد القوى المنافسة… دولة المدينة او دولة النبي محمد ترسخت بفتح مكة و كل الدول الأخرى في النظام الإسلامي كانت نتاجا للفتح الإسلامي…. و في كل هذه الحالات فان العرب … او المسلمون… كانوا يوسعون إمبراطورياتهم على حساب الواقع الاجتماعي و التاريخي و الإثني و الديني للأقوام الأخرى … و كل ذلك جرى بقوة السلاح حتى و أن دخل بعض الجماعات الإسلام بشكل سلمي فالسلاح كان دائماً هو القانون و أن السلطة التي أقيمت كانت تستند الى قوة السلاح في حين كانت المنظومة الأخلاقية داعمة للتحول الاجتماعي في ظل هيمنة قوة السلاح…
هذا ينطبق أيضاً على كل الأشكال الأخرى للدولة و الامبراطوريات التاريخية في الشرق و الغرب و كل بقاع الأرض …. سواء تلك التي سبقت قيام الدولة الإسلامية او تلك التي جاورتها في مناطق أخرى .
على هذا الأساس يمكن انه اذا كنا نريد أن نبني وطنا للجميع لابد أن ننظر الى الأشياء بشكل واقعي و نبدئ استعدادا لانتقاد تاريخنا بنهج علمي يحترم الجميع و لا يجرح أحدا… لابد أن نظهر استعدادا نفسيا و عمليا لإزالة الفكر الامبراطوري الذي يعشعش في دواخلنا… لابد أن ننتقد حتى اعز الامبراطوريات الى قلوبنا… لابد أن نفهم و نقتنع أولا و قبل كل شيء أن جميع الامبراطوريات بنيت على الظلم و الاضطهاد و الإجحاف بحق الفقراء و المساكين و الضعفاء من الناس… لابد أن نعرف أن ما نطلق علية تسمية المجموعات المهمشة و الطبقات المنبوذة و المظلومين …و غيرهم من المساكين و الصامتين على الظلم و الفقر…. كل هؤلاء إنما هم بعض نتاجات انتصارات الامبراطوريات التي نحبها… لابد أن نعرف ان الذل الذي أصاب و ما يزال يصيب الكثيرين منا هو الوجه الآخر للعملة التي يشرق منها وجه ما اعتدنا أن نسميهم أبطالنا الميامين و المقدسين..
ثانيا… ان الدولة الحديثة التي أقيمت بتخطيط و دعم مباشر من القوى الاستعمارية أصبحت رهينة لمجموعة القيم و النظم الإدارية و السياسية و الى حد كبير أيضاً المنهجية و الأيديولوجية التي أورثها الحكم الاستعماري و منها الأسس الأولية في العلاقة بين الدولة و المجتمع. … و رغم المحاولات الكثيرة التي قامت ما سميت بالأنظمة الوطنية التي جهرت بعدائها للاستعمار فان اي من الأنظمة الحاكمة لم تستطع إيجاد منظومة بديلة للمنظومة الموروثة من الحكم الاستعماري…
الان قد يتساءل البعض و هذا تساؤل شرعي… اذا كان الامر كذلك فكيف يمكن ان نفهم التناقض بين الأنظمة الديمقراطية في الدولة المستعمرة و هي دول غربية في عمومها و الأنظمة الدكتاتورية أو النخبوية في البلدان التي تم تأسيس أنظمة حديثة ما بعد الاستعمار فيها… ثم كيف يمكن ربط ذلك بمفهوم دولة المنتصرين ..؟؟…
لكي نفهم ذلك لابد من الرجوع الى الوراء قليلا… الى اللحظات التاريخية لفك الارتباط بالمستعمر و بناء الدولة الوطنية…. هنا نتذكر ليس فقط افتقاد القوى التي حلت محل الحكم الاستعماري الى القدرات و المفاهيم و التكنيكية و القانوية و المؤسساتية لبناء دولة حديثة … بل لابد ان نتذكر ان تلك القوى التي استلمت الحكم جاءت اما عن طريق نضال مسلح او تم اختيارها من قبل المستعمر نفسه… في كلا الحالتين فإننا نتحدث عن قوى تمت له السيطرة على أمور البلد اما بقوتها الذاتية …. غالبا مع مساعدة خارجية… او بقوة الحكم الاستعماري… و في كلا الحالتين نصل الى نتيجة الى الوصول الى الحكم لم يكن اختياريا… اي ان الناس اجتمعت و اختارت مجموعة من الأفراد لإدارة البلد… و إنما كان نتيجة امر واقع بفعل القوة الذاتية آلة قوة المستعمر… و في كلا الحالتين… النتيجة كانت بناء دولة منتصرين…
هناك عامل اخر يدعم هذا الاستنتاج و كذلك يربطه بقضية التناقض بين الديمقراطية و الدكتاتورية هنا… هذا العامل مرتبط بالاسس الاجتماعية للقوى السياسية سواء تلك ناضلت و قاتلت للوصول الى الحكم مباشرة بعد جلاء الاستعمار او فيما بعد عن طريق انقلابات عسكرية و غيرها… و كذلك تلك التي هيأها الاستعمار لتكون خليفة له… كل هذه الأنظمة المختلفة في توجهاتها و أهدافها تنتمي بالضرورة الى النظام الاجتماعي التقليدي و هو نظام عشائري و قبلي بهذه الدرجة او تلك … درجة الانتماء الوعيوي للأسس العشائرية و القبلية قد تختلف بين أهل المدن و أهل القرى و الأرياف او اعتمادا على حجم و قوة و سطوة هذه العشيرة او تلك القبيلة…
هذه الحقيقة تنطبق أيضاً على النخب المتعلمة التي هيأ الاستعمار بعضها لخلافته بينما ناضل بعضها الاخر سياسيا او ثقافيا ضد الاستعمار… هذه القوى ظلت أيضاً رهينة أسسها الاجتماعية التقليدية سواء بشكل اختياري او قسري لان استلام السلطة اجبرها على العودة آلى النظام الاجتماعي التقليدي العشائري و القبلي طلبا للشرعية في إدارة البلد … خاصة اذا اخذنا بنظر الاعتبار ان المدة القصيرة التي أمضاها الاستعمار الحديث قبل جلائه لم تسمح لبناء أسس اجتماعية جديدة منفصلة ثقافيا عن الأسس التقليدية …
كل هذا دفع بالقوى الاستعمارية الى دعم السلطة في الدولة الحديثة رغم فقدانها الى الأسس الديمقراطية التي تحكم مجتمعاتها هي… هذا بشكل مبدئي… لكن هناك عوامل اخرى ساهمت في هذا الدعم و منها مصالح القوى المستعمرة الاقتصادية و السياسية و ضرورة الإبقاء على ربط التطور في هذه المجتمعات بعجلة الاستعمار..
في المقالة التالية سنبحث ما يعني مفهوم دولة المنتصرين في التطورات الحالية في الشرق الأسط… حبي و احترامي للجميع..