لا تتوقف سلطات الاحتلال الإسرائيلي عن استهداف الأطفال الفلسطينيين قصداً وعمداً، قتلاً وإصابةً، واعتقالاً ومحاكمة، فهي تستهدفهم بنيةٍ مسبقةٍ، ومنهجٍ مدروس، وتقليدٍ متبع، وعاداتٍ موروثةٍ، وتقصد إيذاءهم وإلحاق الضرر بهم، وتتعمد قتلهم وفجيعة الأهل بهم، والحسرة والندامة عليهم، فهم يرون الأطفال أعداءً لهم، يهددون مشروعهم، ويستهدفون وجودهم، ويحملون معهم بذور الثورة والقوة، والعنفوان والشباب، ويعتقدون أن مستقبلهم الواعد المسكون بالثورة والموعود بالثأر والانتقام، يحمل معه لشعب إسرائيل السم الناقع والموت الزؤام وبذور الفناء، فهذا ما ورثوه وحفظوه عن آبائهم وأجدادهم، وما سطرته كتبهم ونقله حاخاماتهم، وهو ما يؤمنون به ويخافون منه، ولا يملكون إزاءه إلا تأخيره وتعطيله، بالقتل أحياناً وبالاعتقال والإصابة أحايين أخرى، ولكنهم على يقينٍ بالخاتمة والوعد المكتوب عليهم.
لا تجد سلطات الاحتلال الإسرائيلي مبرراتٍ ومسوغاتٍ لما تقوم به تجاه الأطفال الفلسطينيين، فهي لا تجد صعوبةً في إخراجهم عن دائرة الطفولة، ونفي صفة الطفولة البريئة عنهم، وحرمانهم من حقهم الإنساني والطبيعي بعيشها والتمتع بها، ذلك أن المشرع الإسرائيلي والحكومة لا يعترفون بالتعريف العالمي للطفولة، بأنهم كل من هو دون سن الثامنة عشر من عمره، بل يصفون كل فلسطيني أياً كان عمره بالإرهاب ولو كان في العاشرة من عمره، طالما أنه كان عربياً أو فلسطينياً على وجه الخصوص، كما لا يعترفون بالعهود والمواثيق الدولية المتعلقة بالأطفال، الأمر الذي من شأنه أن يزيح ويلغي العقبة القانونية المحلية من أمامهم، والتي يكون من مفاعيلها عدم إدانة الجندي القاتل، وتبرئته من تهمة قتل الأطفال، إذ لا جرم لجريمةٍ غير موصوفة.
أما العقبة الأخلاقية والقيمية فهي غير موجودة لدى العدو الصهيوني، وإن ادعى أنه وجيشه الأكثر مناقبية عسكرية في العالم، فهو لا يخفي أبداً كرهه للفلسطينيين وأطفالهم، ولا ينكر أنه يستهدفهم ويحاربهم، فهو بما يقوم به من جريمة ضدهم منسجمٌ مع أخلاقه، ومتوافقٌ مع ذاته، فلا يرتكب جرماً يؤنبه عليه ضميره، أو تحاسبه عليه نفسه، بل إن العكس من ذلك هو الحادث، إذ يؤنبه ضميره إن قصر في قتلهم، أو تأخر في اعتقالهم، أو خالج قلبه رحمةٌ أو شفقةٌ عليهم، أو حاول مساعدتهم والتخفيف عنهم، فهذا مما لا تغفره نفسه، ومما يخالفه ويعارضه شعبه، وقد يتهم مرتكبه بالإهمال، ويحاسب ويعاقب بتهمة التقصير ومخالفة الأوامر.
أما مبررات الاعتقال والإدانة والمحاكمة فهي كثيرةٌ جداً، وأكثر مما تعد وتحصى، أقلها نظرات الطفل وعيونه الحادة، ومخايل الذكاء التي تبدو عليه، وتقاسيم وجهه الغاضبة، والثورة التي في قلبه ساكنة، وحركته القوية واندفاعه اللافت، وغير ذلك مما يثير غضب الجنود من شكل الأطفال وهيأتهم وحضورهم المميز، فضلاً عن كلماتهم الجرئية وتعبيراتهم الجسورة وردودهم القوية، وإجاباتهم الحاضرة، ويقينهم الواثق، وإيمانهم الراسخ، وانتمائهم العميق، وارتباطهم الأصيل بقراهم وبلداتهم القديمة، التي سمعوا عنها ولم يزوروها، وعرفوها من آبائهم وأجدادهم دون أن يشاهدوها أو يعيشوا فيها، فهذه كلها في العرف الإسرائيلي مبرراتٌ قوية للقتل والاعتقال، وتجيز للجنود إطلاق النار على الأطفال الفلسطينيين بحجة الدفاع عن أنفسهم ودرء الخطر عنهم.
أما إن وجد مع الأطفال في حقائبهم المدرسية، أو في جيوبهم أو تحت ثيابهم أو مكتوباً في دفاترهم أو على صفحات كتبهم، بعض الشعارات الوطنية والكلمات الثورية، أو العبارات العدائية وكلمات التحريض ودعوات الثأر والانتقام، أو وصايا مكتوبة، وكلمات وداعية منظومة، أو صورٌ للشهداء أو المعتقلين من منفذي عمليات الطعن، أو غير ذلك مما يصنفه العدو بأنه تبييت للنية، وعزمٌ وقصدٌ على الفعل، وأنها محاولاتٌ جادة للقيام بأعمالٍ عدائية، وتحضيرٌ للنفس لتنفيذ عمليات طعنٍ أو اعتداءٍ على الجنود والمستوطنين، وما يجده العدو مع الأطفال الفلسطينيين متلبسين فيه بخط أيديهم، أو معترفين به في حقائبهم الخاصة، فإنه يعتبر عندهم أدلة قطعية ومسوغاتٍ قانونية واضحة وصريحة ولا غموض فيها، تبرر القتل أو الاعتقال لا فرق.
أما المحاكم العسكرية فإنها لا تقل تطرفاً وجوراً عن الجنود والعناصر الأمنية، إذ تأخذ المحكمة بشهادة الجنود، وتصدق روايتهم، وتتبنى محضرهم بكل ما جاء فيه، وتعتبر الأدلة التي يقدمونها أدلةً قانونية يستندون عليها في أحكامهم، ولهذا فإن أحكام القضاة يكون غالباً بالإدانة، حيث يصدرون ضد الأطفال الفلسطينيين أحكاماً عالية، ويغرمون أهلهم مبالغ طائلة، كما يفرضون عليهم وعلى أطفالهم أحكاماً بالإقامة الجبرية داخل بيوتهم، أو في مربعاتٍ صغيرة داخل مناطق سكنهم، كما قد يحكمون على بعضهم، خاصة سكان مدينة القدس بالطرد منها والإبعاد عنها.
أما الأدلة القطعية التي لا تحتمل الغموض أو التفسير، والتي تستوجب حلاً واحداً ومعاملة أكيدة، حاسمة وجازمة، تنفذ فوراً ضد الأطفال من قبل الجنود مباشرةً وبدون إذنٍ مسبقٍ من الضباط، وذلك بإطلاق النار على الرأس حتى الموت، أو على الجسد مراتٍ كثيرة حتى التأكد من الموت، فهي في حال حمل الطفل لسكينٍ أو أداةٍ حادةٍ بيده، أو محاولته الوصول إلى الجنود أو المستوطنين، حتى ولو لم يكن بعضهم يحمل في يده شيئاً، فإنهم يقومون بقتل الأطفال، ويتركونهم على الأرض لساعاتٍ، ويضعون أمامهم وبالقرب منهم السكاكين التي يدعون وجودها، أو الأدوات الحادة التي كانت بحوزتهم أو قاموا باستخدامها.
العدو الإسرائيلي الكاره لنا والحاقد علينا، والمغتصب لحقنا والمحتل لأرضنا، ليس في حاجةٍ إلى أدلةٍ أو شواهدَ تبرر جريمته، وتبيح فعلته البشعة، بل يكفي أن يكون الطفل عربياً فلسطينياً حتى يقتل أو يعتقل ويحاكم، فهذه تهمة عندهم كبيرة وخطيرة، وهي تهدد وجودهم حاضراً ومستقبلاً، لهذا كثر الشهداء الأطفال، وتضاعفت أعداد الأسرى منهم، وما زال العدو ماضٍ في مخططه، ومصرٌ على جريمته، طالما أنه لا أحدَ يحاسبه ولا قوة ترغمه، ولا قانوناً يمنعه.
الحمامات/تونس في 20/4/2016