دستور مصر الجديد
محمد البدري
ليس صعبا وضع دستور محترم، فما اسهل ان يجلس الجميع ويتفقوا علي تقديم المشترك بينهم واستبعاد ما يجعلهم متفرقين. فجميعهم تضمهم ارضا واحدا وهذا الشرط الاول والوحيد في بناء صيغة يتوافق فيها الجميع ويتساوا امام بعضهم البعض. فاين تكمن اشكالية وضع دستور لمصر؟
المشكلة مسكوت عنها ولا يقدر احدا من الاطراف علي البوح بها لانها عورة المصريين منذ فجر التاريخ. فجميع شعوب الارض لها عورات ظهرت وتبدت في سلوكها السياسي الحاكم للداخل او المتعامل مع الخارج. بل هناك عورات شعبية يحملها كل فرد من مواطنيها ولا يدرك كيف يراه الاخرين عبرها. الدستور المحترم لا يحمل عورة من عورات السلطة او عورات الشعب. لكن عبر التاريخ كانت السلطة تحافظ علي عورة الشعب لامساكه متلبسا بها واتهامه بانه اما خائن او كافر ام متمرد. اهم عورات الشعب هو السكوت الطويل علي حالة الفقر والتي تدفعه لاعمال غير عقلانية عندما يصبح الفقر غير محتمل وصولا الي اليأس، هنا تقف له السلطة المتخمة بالثروات المنهوبة حكما علي افعاله. فقبوله بالنهب العلني والسكوت حتي يقضي الله امرا كان مفعولا او تقديم الرجاء والمشيئة والدعاء برفع الغمة هي عورة اخري لها مصدر ديني في عقائد الشعب التي يغذيها وينميها الحاكم اللص والمستبد. فالسؤال الثاني كيف يكون الحاكم المروج للدين هو اكبر لص لثروة الشعب وعورة الاوطان عامة.
مصر هي الوطن الاول في تاريخ النهب والسرقة، وهي موطن جميع الاديان. ودستورها ينبغي له وضع هذه القضية في اولوية مبادئه. ولان مصر لم تعرف الدساتير الا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر فقد بدا الانتعاش بها مبكرا عن باقي دول المنطقة لانه ولاول مرة توضع علاقة بين الحاكم والمحكوم، اي الحد من قدرة الحاكم علي النهب والسرقة دون ضوابط.
بعد ثورة 25 يناير سقط الدستور القديم الذي سمح لحاكم مصر المخلوع ان ينهب بلا حدود وفي نفس الوقت لم تشهد مصر مدا دينيا اسلاميا عبر كل الوسائل المتاحة يروجه الحاكم ويدافع عنه ويتبناه في كل مناسبة مثلما شهدت في زمن مبارك. فمن التعليم الالزامي الي الاعلام المرئي والمسموع والمقروء شكل الدين الاسلامي علي وجه الخصوص اكثر من 60% من المادة المعرفية المطلوب زراعتها في عقول الاجيال الجديد. كان الدستور امتداد لدستور ثورة 1919 بعد عده تعديلات وصلت بالحاكم ليكون وكانه يحكم شعب من مقره في مغارة علي بابا والاربعين حرامي.
فهل كان الشعب حاضرا في الدستور ام انه كان حاضرا وبالدستور بنودا تلغي وجوده؟ أضاف الرئيس انور السادات مع توليه السلطة تعديلات هامة علي دستور من قبله، حيث جعل مبادي الشريعة الاسلامية مصدرا اساسيا للتشريع. ومنذ ذلك الحين بدا الترويج للاسلام واطلقت يد الجماعات الاسلامية وعلي راسها الاخوان المسلمين لتسيطر علي الذهنية الشعبية، وبالتوازي معها بدا الحديث علي استحياء عن القطط السمان من طبقة الاغنياء الجدد.
علي الجانب الاخر كانت التعددية الثقافية والدينية للشعب المصري ملغية بناء علي هذا البند رغم حضوره الواضح في بنود أخري تقر بالواطنة. فظهرت الفتن الطائفية في نفس العام الذي عدل فيه الدستور. فان تكون الشريعة الاسلامية حاكمة لباقي الفئات ذات الاديان الاخري هو نوع من الوصاية والاستحلال او ربما نوع من البلطجة الدينية.
لم يكن غريبا علي عبد الناصر ان يغير هوية مصر ويضيف اليها صفة العربية، فالرجل كان فقيرا في معرفته بالتاريخ، لكن فلسفة الحكام اللصوص المترسبة في اداة الحكم لمصر جعلته يضيف صفة العربية بوعي شديد، فلم تنهب مصر بقدر ما نهبت في ظل حكامها العرب بدئا من عمر ابن العاص حتي آخرهم قبل انفراد أحمد ابن طولون بالحكم. كان النهب للخارج او للداخل يجري برعاية الدين دون دستور وبدون المادة الثانية في الدستور. كما لو ان عورة الشعب التي استغلها الحاكم انتقلت في زمن الدساتير لتكون احد بنوده.
سبب آخر يجعل المادة الثانية من الدستور المزمع كتابته حائلا دون حقوق الشعب المصري فهي لا تضع باقي الاديان في المشهد الدستوري فهناك مسيحيين كاكبر جماعة مسيحية في الشرق الاوسط عددا وثقافة وحضارة وهناك يهود رغم قلة العدد بعد عمليات طرد متكامل ومتعاون بين ضباط يوليو و الحركات الصهيونية في اسرائيل. وهناك كثيرين ممن لا دين لهم او لهم قدسياتهم من خارج الديانات الثلاث ذات الاصول العبرانية أو الملحدين واللادينيين. كل هؤلاء لا يجوز ان يستبعدوا لمجرد ان هناك حاكم ظهرت تحت سلطته القطط السمان وعدل الدستور لظهورهم الشرعي وآخر اصبحت القطط ديناصورات في فترة حكمه التي وصلت الي 30 عاما. وليست تلك دعوة لتعدد تشريعات النهب انما ليكون الحضور علي قدم المساواه للجميع كمواطنيني وليس للتشريع بما تقوله الاديان، ففي اليهودية مثلا صودرت خزائن مصر بعد ان احتل الهكسوس مصر واصبح النبي العبراني المليح الوجه وزير ا علي خزائن الارض.
فالدستور المحترم يحدد العلاقة بين الفئات بالتساوي وليس بالاستحلال ووضع اليد، فما اسهل وضع اليد علي الثروة إذا كان منتج الثروة نفسه مأخوذ بحق الرقبة او بالاستحلال. الدستور المحترم بناء علي الغاء التمايزات بين مكونات المجتمع المصري سيكون داعما للعلاقة بين الراسمالية المصرية وبين الطبقات العاملة. فتحت دستور عبد الناصر او السادات او مبارك لم يكن هناك وجود حقيقي فاعل ونشط لاتحادات العمال ونقاباتهم لا لسبب الا لان الدستور ببنود الوصاية كانت حائلا ضد هؤلاء حيث دمج العمال والراسمالية الوطنية في كيان واحد هو وحده قوي الشعب، بل وضد العمل الحزبي في قلب العمل السياسي بالشارع. ألم نقل بجعل زعيم الامة خالد الذكر. ولنا في الشعارات الكاذبة من الاشتراكية الناصرية دليل آخر كيف لم تكن هناك اشتراكية من اي نوع رغم ان الكل يغني بالاشتراكية، والتي انتهت الي الا يكون هناك اي علاقة تربط ديناصورات مبارك بالشعب المنتج للثروة. فدستور عبد الناصر هو ذاته دستور مبارك بعد ان حسنه السادات لصالح مغارة علي بابا والاربعين حرامي.
ولنعد الي المادة الثانية من الدستور، فرغم ان البعض يوافق علي شكلها الحالي باعتبارها مادة فولكلورية، الا ان الاعلان العالمي لحقوق الانسان به ما يمكن المصريين جميعا من تجاوز وعدم تكرار ظهور قطط سمان او ديناصورات بينما باقي الشعب في قاع السفينة او في الغاطس لا وجود له بعكس ما هو حادث في امريكا حيث اكبر انواع الدناصورات ورغم ذلك فالشعب متواجد وحاضر وينعم تحت وطاة الراسمالية بدون شريعة غراء بما لا يمكن للمصري ممارسته حتي بالدين الحنيف.
فالحقوق لا تتجزا فيما بين النصيب من كعكة تقسيم العمل الراسمالي بعدالة التعاقد علي اساسه، حتي ولو يكن عادلا وهو ليس كذلك غالبا، وبين المصادرة التامة للثروة وحقوق المواطنة التي تمتد بالمصريين الي الاف السنوات. أسوا ما في التمييز بين المواطنين في مصر علي اساس الشريعة انا باتت تتدخل حتي في العلاقات العاطفية بين الاحبة فلم يعد ممكنا زواج مسيحي من مسلمة ولم يعد في مجال القضاء الاخذ بشهادة الغير مسلم رغم ان معظم جرائم التزوير من نزلاء السجون بل وبلطجية مبارك الذي قتلوا الثوار كانوا جميعا من المسلمين. بل ان دين المواطن واختيار اي اله يرغب في مجاملته ونفاقه واستذلال ذاته له ليس من اختياره بل بوضع اليد عليه قبل ان ينقطع عنه الحبل السري.
كثيرة هي تلك المواد المعية لانجاز لدستور محترم. عمي البصيرة وافيون الشعوب والتلاوة يوميا واحاديث المشايخ والفقهاء تمنع الناس من رؤية الوثيقة العالمية لحقوق الانسان كاحسن مرجعية يمكن علي اساسها كتابة دستور محترم حتي ولو كانت لحديقة الحيوانات.