أواصل اليوم حديثى عن الدستور وعن لجنة الخمسين المكلفة بوضعه فى صيغته النهائية. وأبدأ حديثى اليوم بطرح السؤال الأول المطروح على اللجنة: تعديل دستور الإخوان، أم وضع دستور جديد؟ وبوسعنا أن نترجم هذا السؤال أو نعيد صياغته فنقول: تعديل نظام الإخوان، أم إقامة نظام جديد؟ فالدستور الذى أصدره الإخوان فى العام الماضى هو دستورهم وحدهم وليس دستورنا بأى حال من الأحوال.
لقد كانوا يسيطرون هم وحلفاؤهم السلفيون وغير السلفيين على مجلس الشعب الذى انفرد باختيار أعضاء الجمعية التأسيسية التى وضعت هذا الدستور. وقد خص هذا المجلس نفسه بنصيب الأسد فى هذه الجمعية، وزاد فاختار معظم الباقين من النقابات المهنية التى اجتهد الإخوان طيلة المرحلة الماضية فى السيطرة عليها ومن المحترفين والمستعدين دائماً للتفاهم مع السلطة القائمة. ونحن نعرف بعد ذلك كيف طبخت جمعية الغريانى هذا الدستور ليحول الدولة المصرية إلى ولاية طائفية ويؤيد سلطة الإخوان التى لم تعد الأمة المصرية مصدرها، وإنما أصبحت الشريعة مصدرها وسندها، فإذا كان لابد من غطاء «ديمقراطى!» فالمحافظون الإخوان، والنقباء الإخوان، والضباط الملتحون، والمذيعات المحجبات، ورؤساء التحرير النكرات، فضلاً عن الظروف المغلقة، وزجاجات الزيت، وأكياس السكر، والحافلات المستعدة لنقل عبواتها الآدمية من أصحاب الأصوات المشتراة كفيلة كلها بتوفير هذا الغطاء!
باختصار، دستور الإخوان هو نظام الإخوان، وهو حكمهم وسلطتهم، وهو ولايتهم وخلافتهم، ونحن نعرف أن الشعب بملايينه الثلاثين خرج فى الثلاثين من يونيو لا ليعدل هذا النظام بل ليسقطه. وقد أسقطه بالفعل. أسقط نظام الإخوان وحلفائهم السلفيين الذين وصل عداؤهم لمصر وشعبها واستهتارهم بدولتها وتحرشهم بها ومباهاتهم بالخروج على قوانينها وإسقاط رموزها وشعاراتها- وصلت بهم عواطفهم المريضة المدفوعة الأجر إلى الحد الذى رفضوا معه حلف اليمين وتحية العلم. وهؤلاء هم الذين دخلوا اللجنة الجديدة، لجنة الخمسين، ليدافعوا عن الدستور الساقط ليظل طريقاً مفتوحاً لاستعادة النظام الساقط، نظام الطغيان الدينى الذى لا يستطيع الشعب إسقاطه، لأن الشعب فى ظل الطغيان الدينى ليس مصدر السلطات. وإنما السلطة فى هذا الطغيان تفويض إلهى كما يعتقد الإخوان والسلفيون وأمثالهم أو كما يحبون أن يعتقدوا.
غير أن الشعب العبقرى أثبت فى ثورته التاريخية أنه هو مصدر السلطات، ولهذا أسقط حكم الإخوان وحلفائهم، وأسقط دستورهم الذى أرادوا أن يؤسسوا عليه نظامهم ويبرروا طغيانهم، فنحن إذن فى حاجة لدستور جديد، ولن يكون مفهوماً أبداً ولا مقبولاً أن يقتصر عمل اللجنة الجديدة لجنة الخمسين التى شكلتها رئاسة الجمهورية وبدأت نشاطها منذ أيام على تعديل الدستور الإخوانى الذى لن يكون إلا ترقيعاً فى ثوب خلق. والثوب الخلق هو البالى المهلهل.
لقد خرج دستور الإخوان ليعبر عن أفكار الإخوان وليخفى أكاذيبهم ويبرر انفرادهم بالسلطة، فما هى الفائدة المرجوة من التعديل؟ اختصار الوقت؟ إذا كانت هذه هى طريقتنا فى اختصار الوقت فنحن لا نفعل إلا أن نضيع الوقت بدستور ملفق لابد أن تظهر عوراته وأن نجد أنفسنا مضطرين من جديد لتشكيل لجنة جديدة تضع لنا دستوراً جديداً.
تعديل الدستور الإخوانى لن يكون إلا خلط أوراق بأوراق وتستراً على مواد هى فى الحقيقة أغراض مسمومة وفخاخ منصوبة. ولابد إذن من دستور جديد. فإذا كنا قد أجبنا عن السؤال الأول المطروح فالسؤال الثانى هو: بأى منطق شكلت لجنة الخمسين؟ وبأى معيار اختير أعضاؤها؟
والجواب أن اللجنة شُكلت لتعديل دستور الإخوان. وهذا ما أعلن عنه بصراحة فى قرار تشكيلها. وبهذا المنطق اختير أعضاء اللجنة ليناقشوا المواد المختلف عليها ويصلوا فيها إلى تعديلات يتفقون حولها. لجنة الخمسين لم تشكل لتكون لجنة واحدة تمثل ثورة يونيو قبل أن تمثل المؤسسة أو الحزب الذى ننتمى له وتسعى بكامل أعضائها لوضع دستور يعبر عن هذه الثورة ويتبنى أهدافها.
وكنت فى مقالتى المنشورة يوم الجمعة الماضى قد وقفت أمام هذا السؤال وتحدثت عن المعيار الذى شكلت اللجنة على أساسه وهو تمثيل الفئات والمؤسسات والتنظيمات السياسية والنقابية، فقلت إنه معيار صالح يضمن للدستور مشاركة واسعة متوازنة، لكنه ليس كافياً وحده، لأن الدستور ليس مطالب فئوية آنية، وإنما هو حقائق ومبادئ وحقوق وأهداف تجمع بين المصريين على اختلاف أجيالهم وأعمالهم، وتجمع بينهم وبين البشر على اختلاف أجناسهم وثقافاتهم.
ومن الواضح أنى كنت فى هذه العبارات أتحدث عن دستور جديد لا يضعه من يكتفون بتمثيل هذه الجهات وحدهم، وإنما يضعه معهم المثقفون والمفكرون الذين يمثلون مصر كلها، مصر الثورة ومصر الواحدة التى تتعدد وتتنوع لكنها كل لا يتجزأ. ماض وحاضر ومستقبل. حقائق ثابتة وظواهر متغيرة. كيان وطنى له ملامحه الخاصة، لكنه عضو فى الكيان الإنسانى الواحد لا ينفصل عنه ولا يحيا بدونه والدستور إذن تعبير عن وعينا بأنفسنا وبالجنس البشرى الذى ننتمى له وبالعصر الذى نعيش فيه والتمثيل الفئوى والحزبى والنقابى ليس كافياً وحده.
هذا المعيار، معيار التمثيل فرض على المسؤولين الذين شكلوا اللجنة أن يخاطبوا ستة أحزاب سلفية لتقدم من ترشحهم ليمثلوها فى اللجنة، فهل يكون هذا الحرص على تمثيل السلفيين تعبيراً صادقاً عن ثورة يونيو والتزاماً بأهدافها؟ وما الفرق بين السلفيين والإخوان؟ السلفيون لم يحملوا السلاح فى وجه الدولة؟ ربما لكنهم يهددون بحمله أو بردود أخرى لم يفصحوا عنها إذا عدلت اللجنة شيئاً من المواد المتعلقة بما يسمونه «الهوية» أى المواد التى تحول مصر إلى دولة دينية طائفية تسمح للسلفيين وغيرهم من الجماعات الدينية بأن يتحولوا إلى أحزاب سياسية.
وأنا لست متأكداً من قدرة الذين دخلوا اللجنة أو أكثرهم على تمثيل الجهات التى ينتسبون لها، لأن معظم هذه الجهات لا تشترط فيمن ينتسب لها أن يكون له رأى محدد فى المسائل المختلف عليها فى الدستور كالحريات، وعلاقة الدين بالدولة، وسلطات الرئيس وقوانين الانتخاب، وتمثيل الأقليات والأطراف المهمشة وغيرها لا أظن أن الجمعيات والنقابات المختلفة تشترط فى المنتسبين لها أن يكون لهم رأى محدد فى هذه القضايا يعبرون عنه ويلتزمون به، وإذن فالذين دخلوا اللجنة بوصفهم ممثلين لا يمثلون إلا أنفسهم، والقول بأنهم يمثلون المجتمع كله من خلال تمثيلهم للجهات التى ينتسبون لها قول غير مؤكد، لأن المجتمع ليس حاصل جمع الأفراد أو المؤسسات، وإنما المجتمع هو الأمة التى هى كيان معنوى يمثل بصورته أو بمقوماته المعنوية أفضل مما يمثل بصوره المادية.
وأنا هنا لا أطعن فى كفاءة أعضاء اللجنة كأفراد فهم جميعاً من الوجوه التى نثق فيها ونعتز بها، وإنما أناقش المعيار الذى شكلت اللجنة على أساسه فلا أراه كافياً، لأنه يحصر اختيار أعضاء اللجنة فى دائرة بالذات هى تمثيل المؤسسات، ويحدد لهم هدفاً لا يتجاوزونه هو تعديل الدستور كما ذكرت، فى الوقت الذى نحتاج فيه لدستور جديد، وإذن لتوسيع دائرة الاختيار لتزويد اللجنة بالكفاءات القادرة على صياغته خاصة من المفكرين والمثقفين الذين يمثلون مصر كلها، فالدستور ثقافة قبل أى شىء آخر. شخصية الأمة ثقافة ومدنية الدولة ثقافة. والمواطنة، والديمقراطية، وحقوق الإنسان وبدون ثقافة عقلانية مستنيرة تهيئنا لفهم هذه المبادئ وهذه الحقوق والالتزام بها وإقرارها والدفاع عنها نجد أنفسنا أسرى للثقافة المضادة ثقافة الخرافة والطغيان!
نقلاً عن صحيفة “المصري اليوم”