رد على مقال “ موسكو: الأسد إلى الأبد“
علاء الدين الخطيب
أوضح من البداية أن نقد وتصويب كلام ومنهجيات السيد كيلو كمثال إضافي عن انهيار النخبة السورية المشهورة، لا يحمل أي غمز أو لمز من جهة التشكيك بوطنية أو إخلاص أو تاريخ الرجل؛ بل أقف احتراما له ولمن ذاقوا الأمرين في معارضتهم ونضالهم ضد نظام الطاغيتين الأب والابن، ولشجاعتهم أمام تعسف الطاغيتين يوم كان كثير من السوريين “يسيرون الحيط الحيط ابتغاء السلامة” وأنا منهم.
لكن بعد ما جرى منذ عام 2011 إلى اليوم، وبعد فشل قيادات ومشاهير المعارضة المخزي، وتحميلهم المسؤولية لبعضهم البعض وللتدخلات الخارجية، لا يمكن قبول أن يأتينا السيد كيلو للمرة المئة، ناسفا تاريخه واسمه بيديه، بخطية إضافية في تدمير العقل والوعي السوري. لن أعود لخطايا السيد كيلو خلال ثماني سنوات، التي هي جزء من خطايا كل مشاهير المعارضة والإعلام السوريين. لكن سأتكلم هنا عن مقاله الأخير بعنوان “ موسكو: الأسد إلى الأبد“، على صحيفة العربي الجديد بتاريخ 11 آب 2018. لقراءة مقال كيلو انقر هنا. موسكو: الأسد إلى الأبد بقلم ميشيل كيلو
أنقل فقرة من مقاله تلخص فكرة المقال: (بصراحة، كنت أستخفّ شخصيا بترّهات البطريرك، وأرى فيه شخصا يعيش في الحقبة السابقة للعصر الوسيط، …..، لكنني أميل اليوم إلى قراءة تصريحاته باعتبارها جزءا تكوينيا من خيارات روسيا الرسمية التي يخالطها ضربٌ من هوس ديني، يجعل الأسد مركز “معركة مقدسة “في سورية، وقضية كنسية روسية … يرتبط باختيار الرئيس السوري من “المجلس العلوي الأعلى في الساحل”)، وينهي بالفقرة التالية: (لماذا فاتنا المغزى العميق لحديث بطريرك روسيا عام 2015 عن حرب روسيا المقدّسة في سورية، وحديث لافروف عن منع قيام الدولة السّنية).
السيد كيلو طبعا كاتب متمكن من أدواته، ومثقف بارع في مهنته، ومتحدث يعرف كيف يجلب مشاعر المتلقين، وهذه ميزات لا تُنكر له. وبهذا المقال يعذر نفسه لأنه يستخدم التفسير الديني “الساذج” في تحليل الصراع الدولي وهو المفكر الليبرالي. فيدعي أن عقله رفض ذلك بداية، لكنه امتلك حقائق جديدة متراكمة أجبرته أن يعيد التفكير، فيمضي بجواده صاهلا في مضمار السباق، سباق منافقة الغرائز الشعبية البدائية الضالة المُضلة، سباق التحريض الطائفي والديني والسياسي، سباق قتل العقل والوعي الجماعي، ولسان حاله يقول ” نعم أيها السوريون، إن القيادة الروسية التي تكرهونها لأنها شريك في تقتيلكم، تقاتلكم لأنها متعصبة متطرفة دينيا مثلها مثل داعش، إنها تكرهكم أيها السنة لأنكم سنة ولأنها مسيحية أرثوذكسية“.
أدرك صعوبة نقد مثل هذا الخطاب، خاصة من خطيب مفوّه مشهور مثل السيد كيلو، فكثيرون إن لم يكن الغالبية سيستهجنون نقد مثل هذا المقال، ليس بسبب اسم كاتبه فقط، بل لأنه يشيطن السياسة الروسية شريكة نظام الكيماوي الأسدي، فأي شيطنة لروسيا هي موضع ترحيب وتصفيق، ضمن سيل الإعلام الشعبوي الذي أغرقنا كذبا منذ 2011، وسيحيل هؤلاء المتحمسون أي نقد له إلى اتهام بالعمالة للروس أو النظام الأسدي، وبالعداء للسنة وبالتالي للإسلام، وغير ذلك من تهم معلبة جاهزة. لكن ليكن ما يكون، فاكتساح الجنون للصادح من الأصوات لا يبرر الجنون.
لا ألوم السيد كيلو إن لم يستطع فهم أسباب ودوافع السياسة الروسية فيسورية، فهو ليس الوحيد. فما زلت أذكر في 2011 يوم سألوا الدكتور برهان غليون عن سبب دعم الصين للنظام، فلم يجد جوابا سوى أن الصين كانت تريد “إغاظة الولايات المتحدة الأمريكية”! الصين ثاني أكبر اقتصاد عالمي، والمتوقع أن يصبح أكبر اقتصاد عالمي خلال عقدين، والتي لم تستخدم حق الفيتو سوى خمس مرات من 1968 إلى 2010، ثم استخدمته ثلاث مرات في 2011 لدعم نظام الأسد مزدوجا مع الفيتو الروسي، الصين هذه تريد فقط “إغاظة أمريكا”. فلا عتب إن لم يدرك السيد كيلو مصالح روسيا في سورية، لكن بهذه الحالة فليصمت ولا يتكلم، أما أن يحيل الموضوع لتفسير كهان العصور الوسطى مسيحيين أو مسلمين، سنة أو شيعة أو علويين، فهذه خطية أمام العقل والله والوطن.
ما هي مصالح روسيا في سورية إذاً، إن لم تكن حقدا أرثوذكسيا ضد السُّنّة كما قال كيلو؟
في بداية الألفية الثالثة كانت روسيا تحاول النهوض، وهي تقف أمام الحقائق الجيوسياسية التالية:
1- الاقتصاد الروسي منهك وضعيف، بسبب فوضى ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي في التسعينات، ومحاولات دخول الشركات الغربية لمفاصله الأساسية عبر المافيات الروسية.
2- الثورات البرتقالية اجتاحت أوروبا الشرقية وحولتها من حليف تاريخي لروسيا، إلى جار عدائي حليف للناتو.
3- بينت تجربتي حربي أفغانستان والشيشان مدى هشاشة أقاليم روسيا وحدودها الجنوبية وخطر انتشار الجهادية الإسلامية هناك، التي كانت مدعومة أمريكيا وسعوديا وقطريا.
4- أزمات صراع أذربيجان مع أرمينيا، وأوزبكستان مع طاجكستان، وأزمة جورجيا أثبت مدى خطورة وهشاشة الحزام الجنوبي على حدود روسيا، المتداخل عرقيا ودينيا مع شعوب جنوب روسيا الاتحادية.
5- الولايات المتحدة متمركزة في أفغانستان في قلب آسيا، وفي العراق والخليج العربي، وتباشر استراتيجية بعيدة المدى لاختراق دول السوفييت المستقلة في وسط آسيا ودول بحر قزوين.
6- الصين لأسباب كثيرة هي الحليف الطبيعي والحتمي لروسيا في مواجهة الغرب، رغم التاريخ الغير مريح بينهما. ومن أهم أسباب حتمية التحالف للبلدين هو أنهما يملكان مصالح أمن قومي أساسية في منطقة دول السوفييت المستقلة وبالتالي وصولا إلى شرق البحر المتوسط.
7- إيران وتركيا، ولأسباب كثيرة اقتصادية وجغرافية وسياسية، يجب ان يكونا حليفان لروسيا، ومن بين هذه الأسباب الأساسية هو ما يملكه البلدان من تأثير على دول السوفييت المستقلة بسبب التداخل العرقي والديني والمذهبي، وطموح حكومتيهما لدخول هذه المنطقة أيضا، فهما من أهم أسس الاستقرار في هذه المنطقة.
ثورات الربيع العربي والثورة السورية وروسيا
اندلعت الثورات العربية في نهاية 2010، وتم قلب نظام زين العابدين في تونس، ونظام مبارك في مصر، واتضح أن القذافي سينهار سريعا بسبب التدخل الغربي المباشر، وكانت سورية تشتعل رفضا للنظام الأسدي الفاشي والفاسد. اتسم الموقف الروسي حتى خريف 2011 بالتريث لإيجاد حل وسط، لكن اتضاح مواقف دول الإقليم حول سورية: إيران مع الطاغية الأسد، السعودية وقطر وتركيا بسند غربي سياسي ضده؛ سرع القرار الروسي الحاسم وهو: لا يمكننا التفاهم مع السعودية وقطر، خاصة وأن روسيا لها خبرات سيئة مع أياديهم في أفغانستان والشيشان، ولن نترك إيران الحليف الأكثر التصاقا بروسيا لصالح بقية الدول، وربما يذكر القارئ تلك الأزمة المفتعلة بين وزير خارجية قطر والمندوب الروسي لدى مجلس الأمن فيتالي تشوركين يوم تبادلوا الإهانات في الأمم المتحدة في 2012.
فالمعادلة كانت واضحة في القيادة الروسية وأعلنوها عدة مرات “لن نقبل بقلب الأنظمة الحاكمة عبر ثورات أو احتجاجات شعبية في أي بلد في مجالنا الحيوي الأمني، لن نسمح بتكرار تجربة أوروبا الشرقية قرب حدودنا“. وكان من الواضح أن انهيار نظام الأسد سيؤدي حكما لوصول نار الانتفاضات إلى إيران، التي ستصبح محصورة عندها من الغرب ومن الشرق، وهذا ما لا يمكن لروسيا ولا للصين قبوله، لأن كرة النار ستدخل حدودهما وبسرعة. والدليل كان دامغا أمام الروس: فها هي أوكرانيا تنقلب ضد روسيا في 2013 بدعم غربي، ويتم عزل حليف روسيا الرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش، وتدخل روسيا في أسوء كابوس بعد انهيار السوفييت.
لماذا كان أول تدخل عسكري حاسم لروسيا في 2015؟ لماذا لم يتحرك الروس في 2013 ويقدموا للنظام الدعم الجوي الذي كان يفتقده، بعد خساراته الكبيرة، بدل أن ينتظروا إيران وميلشياتها إلى نهاية 2015، طالما أن المواجهة أصبحت مفتوحة مع الغرب بسبب أوكرانيا، ولن يزيدها التدخل في سورية سوءا. ألم يكن أقل كلفة لو فعلوا ذلك؟
العامل الأهم، من بين عدة عوامل أخرى، كان أزمة انهيار أسعار النفط في منتصف 2014 والتي امتدت إلى 2016، والتي كانت أهم أسبابها، مهما اختلفت الدراسات حولها، تعود لقرار أمريكي سعودي بإغراق السوق العالمي بالنفط؛ وهذا رأه الروس والإيرانيون موجها ضدهم أساسا. هنا كان الخيار الروسي واضحا: لا يمكن أن نسمح بانهيار نظام الأسد، ليكون البديل نظاما مواليا للسعودية والغرب المتحدون ضدنا وضد إيران.
من سخريات القدر، أن السيد ميشيل كيلو وأيضا الدكتور برهان غليون يقولون: “ذهبنا لموسكو وطمأناهم، لن نضر بمصالحكم في سورية“. بأي قوة ذهبوا السادة؟ وأي ضمانات يستطيعون تقديمها لثاني أكبر قوة عسكرية بالعالم؟ كلمة شرف من مثقفين؟ وما هي المصالح التي ستضمونها لروسيا؟ هل كانوا يصدقون أن ميناء عسكريا روسيا في طرطوس يكفي لتخوض روسيا كل هذه الحرب التي تعلم علم اليقين أن النظام الذي تحميه لا يمكن أن يعيد دفع حتى ربع تكاليفها؟ أم هل صدقوا كذبة أنابيب الغاز الطبيعي ومخزونات النفط والغاز تحت البحر السوري؟ أم صدقوا أن روسيا يمكنها بأي حال الموافقة على عزل إيران عن سورية، وقبول أن تكون سورية ضمن الحلف الخليجي الغربي؟
هل كلامنا هذا تبرير أو تخفيف من مسؤولية حكومة روسيا عن المقتلة السورية؟
هذا الشرح توصيف للأسباب، التي يجب أن ندركها، ولنفعل ذلك يجب أن نضع أنفسنا في مكان الطرف الآخر، مهما عادانا وعاديناه. فهم الأسباب لا يعني التبرير، ولا يعني تخفيف مسؤولية السياسة الروسية الإرهابية في سورية.
ولماذا نصدق هذا التحليل الذي خلطت به بلاد “الستان” بسورية والمنطقة؟
لنفترض جدلا أن تحليلي السابق غير صحيح. فلنسأل أسئلة العقل: هل يمكن لدولة كبرى مثل روسيا، تمثل ثاني أكبر قوة عسكرية بالعالم، وواحدة من أكبر اقتصاديات العالم العشرين، أن تحارب في سورية وتتكبد كل هذه الخسائر، لأن كبير كهنة الكنيسة الأرثوذكسية قرر أن بشار الأسد والعلويين أصدقاء الروس ضد السنّة السوريين؟
وإذا كان للتاريخ و”أحقاده” كل هذا الأثر، ألا يعلم السيد كيلو أن أكثر دول الجوار الروسي ممن يملكون تاريخا دمويا مع روسيا عبر القرون الماضية، بعد ألمانيا، هم الأتراك أحفاد العثمانيين؟ فهل أصبح الروس واقعيين وموضوعيين مع تركيا، فاتخذوا تركيا حليفا وشريك تجاريا ضخما، ونسوا تاريخ 400 سنة من الحروب المباشرة؛ وفقط مع سورية أصبحوا مسيحيين أرثوذكسيين متعصبين يبنون سياستهم على حكاية خرافية عن صداقة كاذبة مع العلويين السوريين؟
ما المشكلة أن نحرض السوريين على كره روسيا، حتى لو بالغنا بالكذبة؟
يوم تتكلم أسماء ضخمة وذات تاريخ، لا يذهب كلامها مع الريح؛ فإذا كان كلامها يفتقد العقل والوعي، فإن ذلك قتل للوعي والعقل الجماعي وتسليمه لتجار السوق.
ألم يكن سجن الوعي الجماعي وحبس العقل، في أقفاص التحريض والكراهية ضد إسرائيل والغرب، أو ضد الشيوعية أو الليبرالية أو السنة أو الشيعة أو الإيرانيين أو الأتراك أو العرب أو الكورد، من أهم أسس الديكتاتورية السورية والعربية كلها؟ فهل نكرر نفس الضلالة باسم ثورة شعب يطلب الحرية والحق بالتفكير والوعي؟
الثورة السورية ما كان لينتصر عليها الطاغية وحلفائه حكام إيران وروسيا، مهما بلغ عنفهم وجبروتهم، لولا أن من سميناهم نخبا، تركوا الشارع السوري يتشقق ويتكسر أمام دعاة التحريض الطائفي والعرقي والسياسي، وأهدروا كل الوقت والموارد والجهد في جدالات عبثية ولقاءات سياسية فارغة، ثم يعود بعضهم بعد ثماني سنين ليخبرنا عن بطريرك وقيصر
المصدر: السلام هو قدرنا