الشرق الاوسط: روجر كوهين
اتضح أن الاقتصاد في ألمانيا هو فرع من فروع الفلسفة الأخلاقية، فالنمو هو مكافأة على السلوك الجيد، كما أن هذه الفضيلة تشمل التدبير وتجنب الديون. وغني عن القول، من هذا المنطلق، أن تعزيز النمو من خلال زيادة العجز المالي هو عمل غير أخلاقي.
ولكن الاقتصاد في اليونان يختلف عن ذلك، فهو فرع من فروع البراعة الشخصية، وأصبحت الكلمات التي تحمل قدرا من الأخلاق والمستمدة من القوانين الأنغلوساكسونية مثل «الفساد» و«المحسوبية» راسخة في التوجه اليوناني، ولكن بالنسبة لليونانيين كان اتباع القواعد يعد شكلا من أشكال الغباء، فلو كان السياسيون فاسدين، فما الغرض إذا من النزاهة الشخصية؟
في الحقيقة، تذكرنا أزمة اليورو بالعديد من الأشياء، من بينها القول المأثور: تزوج على عجل، واندم على مهل، ولكنها تتضمن في جوهرها أزمة كبرى تكمن في الخلاف الأخلاقي بين الشمال والجنوب.
لقد كان الألماني مارتن لوثر هو من أشعل عملية الإصلاح عندما اعترض على الفساد البابوي وبيع صكوك الغفران. وهناك حالة كبيرة من الاستقامة الشمالية ضد التراخي الجنوبي، والصرامة ضد المرونة: صراع في محاولة لرفع الإنسانية إلى مستوى أخلاقي عال في نظام يتعامل مع قابلية الإنسان للخطأ على أنها نقطة انطلاق.
وبعد بضعة قرون، جاءت العملة المشتركة التي تحاول توحيد الشمال البروتستانتي مع الجنوب الكاثوليكي أو الأرثوذكسي؛ توحيد أوروبا التي شهدت عملية إصلاح كبيرة مع أوروبا التي لم تشهد أي عمليات إصلاح على الإطلاق، ولذا كان وجود المشكلات شيئا حتميا.
وفي اليونان، تحدث وزير الإصلاح الإداري والحكومة الإلكترونية كيرياكوس ميتسوتاكيس في مقابلة معي عن هذا النظام قائلا: «تستخدم الأحزاب الوزارات لمكافأة الناس، وتكمن الصفقة الكبرى في توظيفهم في القطاع العام للحصول على أصواتهم في الانتخابات، ولكننا كنا بحاجة لتمويل النظام، وكانت الأمور تسير بشكل جيد طالما كان هناك أموال تتدفق وقروض ميسرة. والآن، لم يعد هذا متاحا، ولذا لا يوجد لديك خيار سوى أن تكون فعالا».
وما إن يكون لديك وظيفة في القطاع العام، حتى تكون قد «وفقت» على حد قول اليونانيين، لأنك ستكون في نظام يسمح لك بالعمل قليلا والحصول على معاش جيد، كما يمكنك البحث عن عمل آخر في وقت فراغك لتحسين ظروفك المعيشية.
كان هذا نموذجا مرنا ولكن غير كفء للنظام المتبع في اليونان، وهو ما يعد شيئا غير متوافق بالمرة في ظل وجود عملة موحدة بين الشمال والجنوب.
ويفكر ميتسوتاكيس، البالغ من العمر 45 عاما وهو سياسي وخريج جامعتي هارفارد وستانفورد، في التخلص من الهوة الأخلاقية في أوروبا. وفي الآونة الأخيرة، اتخذ ميتسوتاكيس، وهو عضو في حزب الديمقراطية الجديدة الذي يتزعمه رئيس الوزراء انطونيس ساماراس، ما يمكن أن يكون أصعب قرار في اليونان، وهو إجراء تغييرات جوهرية في القطاع العام بهدف إصلاحه. وقال ميتسوتاكيس: «الإصلاح صعب ومؤلم. أنا لا أنام دائما بشكل مريح، ولكن هذا أمر ضروري».
وبمقتضى اتفاق اليونان مع الدائنين الدوليين، يتعين عليها تسريح 15,000 عامل من القطاع العام بنهاية العام القادم. وقبل ذلك، وبالتحديث في سبتمبر (أيلول)، يتعين عليها نقل 12,500 إلى «خطة التنقل»، أي منح هؤلاء العمال فرصة ثمانية أشهر للعثور على عمل في مكان آخر وإلا سيفقدون وظائفهم (وسيجري تطبيق نفس الأمر على 12,500 آخرين في وقت لاحق). ويتعين على ميتسوتاكيس القيام بذلك في ظل اقتصاد وصفه بأنه «اقتصاد دولة في حالة حرب». وتقابل تلك الإجراءات بغضب شديد من اليسار واليمين على حد سواء، في ظل حالة من الغضب العارم من حزب الفجر الذهبي اليميني المتطرف.
ومع ذلك، يعتقد ميتسوتاكيس أنه يحظى بدعم قوي، وهو ما جعله يقول: «انظروا، لقد تخلص القطاع الخاص من 1.3 مليون عاطل عن العمل منذ اندلاع الأزمة، ولم يتخل القطاع العام عن أي موظف. ونظرا لتأخير عملية الإصلاح، فقد عوقب القطاع الخاص، وهناك أغلبية صامتة مع عملية الإصلاح. لدينا دولة كبيرة – بدون نظام يعتمد على الكفاءة والجدارة ولا أي نشاط تأديبي، نظام يدخله كثيرون من الباب الخلفي. ويحصل بعض العاملين على مرتباتهم حتى وهم في السجن».
وكان ميتسوتاكيس يمسك الجوال الخاص به وعليه صورة وثيقة تثبت نقل موظف من بلدة ريفية إلى أخرى، وعلى هذه الوثيقة توقيعه، جنبا إلى جنب مع 15 توقيعا آخر! مثل هذه البيروقراطية هي التي تقتل الدولة، فضلا عن كونها مصدرا محتملا للفساد، حيث يحصل بعض المسؤولين على أموال مقابل هذه التوقيعات.
وقال ميتسوتاكيس: «يمكننا الوفاء بالتزامات بلادنا، لكن يجب أن يدرك الدائنون أن الخطر الرئيس اليوم هو إذا ما حاولوا فرض المزيد من التدابير – لا يوجد مجال لفرض ضريبة أخرى على الدخل، حيث وصل التقشف إلى أقصى مدى ممكن. وستكون هذه هي الرسالة التي سيبعث بها رئيس وزرائنا للرئيس الأميركي باراك أوباما خلال اجتماعهما الشهر الجاري».
يتعين على أوروبا سد الفجوة والهوة الأخلاقية. ويمكن لليونانيين أن يتعلموا شيئا عن الاقتصاد باعتباره فلسفة أخلاقية، ويمكن للألمان أن يتعلموا أن التقشف كأداة اقتصادية لها حدود وأن استخدام العجز المالي لتمويل النمو ليس خطيئة. اليورو هو أيضا درس أخلاقي.
* خدمة «نيويورك تايمز»