إن الإفادة بالتقارير الإخبارية حول تنظيم داعش تستلزم بالحتمية مشاهدة مقاطع الفيديو الصادرة عنهم، ولكنه ليس بالأمر الذي أستمتع بفعله حيال أي أحد. فلقد أنشأ التنظيم الإرهابي مسرحًا مفتوحًا للموت على الإنترنت، من قطع رؤوس الناس، وإغراقهم، وحرقهم، إلى تكسير عظامهم.
وتلك الوحشية المفرطة تعد جزءًا من شعار التنظيم المتوحش. فالمقصود منها هو الترويع، ولقد نجحوا في ذلك إلى حد بعيد. إن الصور المفرطة في العنف تسهم في تخويف الأعداء، كما تسهم أيضًا، إلى حد مزعج وموجع، في تحفيز المتطوعين من صغار السن؛ إذ إن «فرسان الجهاد» كما يحلو لهم التصوير والتعبير عن أنفسهم، قد خلق نمطًا متميزًا من الاتصالات الحربية الحديثة.
غير أن مثل تلك العروض المفتوحة من القسوة ليست فريدة أو جديدة علينا؛ فبعض الناس، أحيانًا، ما يصفون أفعال تنظيم داعش وفظائعه من واقع أنها «فظائع العصور الوسطى»، نظرًا لاستدعائهم صورة عمليات التعذيب العلنية التي كانت في وقت من الأوقات شائعة وذائعة في ساحات المدن الكبرى في كل من بريطانيا وفرنسا وغيرها من البلدان الأوروبية القديمة.
أما الابتكار الذي تفرد به تنظيم داعش، فكان في نقل حالات التشويه والتعذيب تلك على شبكة الإنترنت. والخلفية الصوتية تحمل قراءات من آيات القرآن يدعمها الأداء الصوتي باللغة العربية لما يُعرف بالأناشيد. ولكن الصور المرئية تثير قدرًا عميقًا من الهمجية والشر الذي تجاوز حد الدين أو محيط أي ثقافة. حيث يقف المتطرفون على قدم المساواة في ذلك مع النازيين الألمان ومحارق الهولوكوست والتوركيمادا وقساوسة الاعتراف القسري في محاكم التفتيش الإسبانية القديمة. ويعتقد المتطرفون ربما أنهم يحاكون عمليات الإيهام بالغرق المبتكرة أميركيًا مع أعضاء سابقين من تنظيم القاعدة. وما كانت تلك إلا عمليات تعذيب لاستخراج المعلومات، ولم تكن حالات إعدام علنية فجة ومقززة.
إذا ما كتمت صوت المقطع الذي تشاهده، فيمكنك مشاهدة الرسالة التي يحتضنها ويعبر عنها ذلك التنظيم بحق. فتلك الجماعة هي التعبير والدليل الأخير عن المقدرة الإنسانية شبه العالمية على التوحش والهمجية ضد من يعتبرون «الآخر» من غير المؤمنين، ويتعاملون معهم كأنماط أو أشكال مختلفة من الحياة وليسوا بشرًا.
عبر الأسابيع القليلة الماضية، أصدر ذلك التنظيم الإرهابي عدة أشرطة فيديو مثيرة للقلق والحيرة من العراق. ولسوف أعرض لتلك المقاطع من خلال الاقتباس من اللغة المستخدمة بواسطة مؤسسة «مجموعة الاستخبارات»، وهي مؤسسة خاصة للمراقبة تعمل على جمع وترجمة المواد ذات المحتوى المتطرف.
هناك مقطع فيديو من محافظة نينوى يُظهر إعدام 16 شخصًا ممن يشتبه أنهم جواسيس عن طريق «إغراقهم محبوسين داخل قفص حديدي، أو إطلاق صاروخ مضاد للمدرعات على سيارة يجلسون بداخلها وحرقهم، أو قطع رؤوسهم بكابل ذي متفجرات ناسفة يلتف حول أعناقهم». كما أن هناك فيديو آخر من الفلوجة يُظهر إعدام أربعة ممن يزعمون أنهم من المثليين عن طريق «إلقائهم من أعلى سطح أحد المباني العالية».
يحتفي التنظيم الإرهابي أيما احتفاء بتلك الصور والمقاطع المروعة. واختار «مركز الحياة للإعلام» التابع لتنظيم داعش فيديو الحرق والإغراق وقطع الرؤوس بالمتفجرات من نينوى بأنه المقطع المفضل رقم «1» على قائمة من «10» مقاطع صادرة من العراق.
ولكن، ما هو أصل كل تلك الأعمال الشنيعة؟ أخضع الفلاسفة وعلماء الإنثروبولوجيا ذلك التساؤل للفحص والدرس كوسيلة لتقييم الطبيعة الإنسانية في أكثر أشكالها الأولية والقاسية وغير الحضارية. واستكشفت البروفسورة إلين سكاري، وهي أستاذة الأدب في جامعة هارفارد، في كتابها الصادر عام 1985 بعنوان «الجسد المتألم» عملية وصفتها بأنها «عملية تحويل الألم الحقيقي إلى وهم القوة».
في العصور الوسطى، كان محل استعراض مثل تلك القوة هو في العادة مكان تجمع العامة وكان تقريبًا أو حرفيًا ما يشبه المسرح الحالي. ولا يزال الحس أو المعنى المسرحي متواصلاً، حيث تكتب الأستاذة سكاري تقول: «ليس الأمر من قبيل المصادفة، لأنه من واقع اصطلاحات التعذيب، كانت الغرفة التي تجري فيها تلك الفظائع تسمى غرفة الإنتاج، كما كان الأمر في الفلبين، وتسمى غرفة السينما، في جنوب فيتنام، ومسرح الضوء الأزرق، في تشيلي».
يرى الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو مستوى الوحشية المستخدم في إيقاع العقوبات بمثابة مؤشر على تطور المجتمع. فلقد كانت عمليات الإعدام العلنية البشعة شائعة التنفيذ في أوروبا حتى أواخر القرن الـ18. وكان الإعدام المؤلم البطيء جزءًا لا ينفصل عن المشهد العام. أما المقصلة، التي نراها الآن دليلاً من أدلة القسوة والرعب، كانت تعتبر في زمن الثورة الفرنسية وسيلة إعدام «إنسانية»، لأنها كانت «ماكينة لإنتاج الوفيات السريعة والسرية».
يرصد ميشال فوكو في كتابه «المراقبة والمعاقبة» الصادر عام 1975: ميلاد السجن، والأخلاقيات الجزائية ما قبل الحداثة التي يبدو أن التنظيم الإرهابي يتبناها في العصر الحالي: «لا يتحتم على الناس معرفة (المعاقبة) فحسب، بل عليهم أن يعاينوها بأنفسهم. وذلك لأنهم يتعين أن يشعروا بالخوف، ولكن أيضًا بسبب أنهم يجب أن يكونوا شهودًا وضامنين لها».
تحولت المجتمعات الأوروبية إلى الحداثة والتحضر بمرور الوقت عندما تخلصوا من تلك الطقوس الدموية القميئة، وأحلوا محلها القوانين الجزائية التي تعتبر السجون كمؤسسات «إصلاحية»، أو «إصلاحيات»، أو «سجون تأديبية»، التي حذر فوكو من الطابع القمعي الغالب عليها.
ومع المزيج الغريب من الحداثة وما قبل الحداثة، يكون التنظيم الإرهابي قد أحيا الممارسات القديمة من التعذيب على غرار الإعدام العلني، كما أنه منحها بريق ألعاب الفيديو الحديثة.
يتعين علينا الفصل بين ما هو مسموع وما هو مرئي حين التفكير في قضية تنظيم داعش. فالأصوات يمكن استجلابها من الصوتيات التقليدية الإسلامية. غير أن الصورة المعروضة لا دين لها أو مؤسسة تتبعها سوى أنها دليل دامغ على القدرة البشرية المأساوية على الاستمتاع بمعاناة الآخرين وآلامهم.
* خدمة «واشنطن بوست»
المصدر الشرق الاوسط
-
بحث موقع مفكر حر
-
أحدث المقالات
-
- ** من وراء محاولة إغتيال ترامب …إيران أم أذرع الدولة العميقة **بقلم سرسبيندار السندي
- ** هل إغتيال هنية في طهران … فخ لهلاك الملالي وذيولهم أم مسرحية **بقلم سرسبيندار السندي
- ** هَل فعلاً تمكّن إبليس مِن العاصمة بَاريس … في عهد ألمسخ ماكرون **بقلم سرسبيندار السندي
- ** كَيْف رصاصات الغدر للدولة العميقة … أحيت ترامب وأنهت بايدن **بقلم سرسبيندار السندي
- ** العراق والمُلا أردوغان … ومسمار حجا **بقلم سرسبيندار السندي
- ** صدقوا أو لا تصدقو … من يرعبهم فوز ترامب وراء محاولة إغتياله وإليكم ألأدلة **بقلم سرسبيندار السندي
- ** هل تخلت الدولةٍ العميقة عن باْيدن … ولماذا ألأن وما الدليل **بقلم سرسبيندار السندي
- مقارنة بين سيدنا محمد في القرآن وسيدنا محمد في السنة.بقلم مفكر حر
- ** تساءل خطير وحق تقرير المصير … هل السيّد المَسِيح نبي أم إله وما الدليل **بقلم سرسبيندار السندي
- ابن عم مقتدى الصدر هل يصبح رئيساً لإيران؟ طهران مشغولة بسيناريو “انقلابي”بقلم مفكر حر
- ** ما سر تبرئة أل (سي .آي .أي) لبوتين من إغتيال نافالني ألأن **بقلم سرسبيندار السندي
- المجزرة الأخيرةبقلم آدم دانيال هومه
- ** بالدليل والبرهان … المعارف سر نجاح ونجاة وتقدم الشعوب وليس الاديان **بقلم سرسبيندار السندي
- رواية #هكذا_صرخ_المجنون #إيهاب_عدلان كتبت بأقبية #المخابرات_الروسيةبقلم طلال عبدالله الخوري
- كيف تفكك مجتمعا ما وتدمر حاضره ومستقبله؟بقلم علي الكاش
- مباحث في اللغة والادب/ 78 وسامة الرجل في التراثبقلم مفكر حر
- دراسة موجزة عن ديوان (فصائد في قصيدة واحدة) للشاعر والأديب ميخائيل ممو.بقلم آدم دانيال هومه
- ** لماذا الصعاليك الجدد يثيرون الشفقة … قبل الاشمزاز والسخرية وبالدليل **بقلم سرسبيندار السندي
- ** لماذا الإطاحة بالنظام الايراني … غدت ضرورية غربية ودولية **بقلم سرسبيندار السندي
- الحزب الشيوعي لايختلف عن الاحزاب الدينية الفاشية .. الداخل مفقود والخارج مولودبقلم مفكر حر
- ** من وراء محاولة إغتيال ترامب …إيران أم أذرع الدولة العميقة **
أحدث التعليقات
- مفكر حر on الإنحراف الجنسي عند روح الله الخميني
- معتز العتيبي on الإنحراف الجنسي عند روح الله الخميني
- James Derani on ** صدقوا أو لا تصدقو … من يرعبهم فوز ترامب وراء محاولة إغتياله وإليكم ألأدلة **
- جابر on مقارنة بين سيدنا محمد في القرآن وسيدنا محمد في السنة.
- صباح ابراهيم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- س . السندي on ** هل تخلت الدولةٍ العميقة عن باْيدن … ولماذا ألأن وما الدليل **
- الفيروذي اسبيق on مقارنة بين سيدنا محمد في القرآن وسيدنا محمد في السنة.
- س . السندي on مقارنة بين سيدنا محمد في القرآن وسيدنا محمد في السنة.
- عبد الحفيظ كنعان on يا عيد عذراً فأهل الحيِّ قد راحوا.. عبد الحفيظ كنعان
- محمد القرشي الهاشمي on ** لماذا الصعاليك الجدد يثيرون الشفقة … قبل الاشمزاز والسخرية وبالدليل **
- عزيز الخزرجي فيلسوف كونيّ on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- عزيز الخزرجي فيلسوف كونيّ on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- عزيز الخزرجي فيلسوف كونيّ on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- س . السندي on رواية #هكذا_صرخ_المجنون #إيهاب_عدلان كتبت بأقبية #المخابرات_الروسية
- صباح ابراهيم on ** جدلية وجود ألله … في ضوء علم الرياضيات **
- س . السندي on الفيلم الألماني ” حمى الأسرة”
- Sene on اختلاف القرآن مع التوراة والإنجيل
- شراحبيل الكرتوس on اسطورة الإسراء والمعراج
- Ali on قرارات سياسية تاريخية خاطئة اتخذها #المسلمون اثرت على ما يجري اليوم في #سوريا و #العالم_العربي
- ابو ازهر الشامي on الرد على مقال شامل عبد العزيز هل هناك دين مسالم ؟
- س . السندي on ** هل سينجو ملالي إيران بفروة رؤوس … بعد مجزرة طوفان الاقصى وغزة والمنطقة**
- مسلم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- الحكيم العليم الفهيم on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- المهدي القادم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- Joseph Sopholaus (Bou Charaa) on تقاسيم على أوتار الريح
- س . السندي on النظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/3
- س . السندي on اوبنهايمر
- محمد on مطالعة الرجل لمؤخرة النساء الجميلات
- ألعارف الحكيم : عزيز الخزرجي on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- س . السندي on علماء النصارى كانوا يتسمون اسماء اسلامية
-
- ** من وراء محاولة إغتيال ترامب …إيران أم أذرع الدولة العميقة **
- ** هل إغتيال هنية في طهران … فخ لهلاك الملالي وذيولهم أم مسرحية **
- ** هَل فعلاً تمكّن إبليس مِن العاصمة بَاريس … في عهد ألمسخ ماكرون **
- ** كَيْف رصاصات الغدر للدولة العميقة … أحيت ترامب وأنهت بايدن **
- ** العراق والمُلا أردوغان … ومسمار حجا **
-
- ** من وراء محاولة إغتيال ترامب …إيران أم أذرع الدولة العميقة **
- ** هل إغتيال هنية في طهران … فخ لهلاك الملالي وذيولهم أم مسرحية **
- ** هَل فعلاً تمكّن إبليس مِن العاصمة بَاريس … في عهد ألمسخ ماكرون **
- ** كَيْف رصاصات الغدر للدولة العميقة … أحيت ترامب وأنهت بايدن **
- ** العراق والمُلا أردوغان … ومسمار حجا **
-
- ** من وراء محاولة إغتيال ترامب …إيران أم أذرع الدولة العميقة **
- ** هل إغتيال هنية في طهران … فخ لهلاك الملالي وذيولهم أم مسرحية **
- ** هَل فعلاً تمكّن إبليس مِن العاصمة بَاريس … في عهد ألمسخ ماكرون **
- ** كَيْف رصاصات الغدر للدولة العميقة … أحيت ترامب وأنهت بايدن **
- ** العراق والمُلا أردوغان … ومسمار حجا **
-
- ** من وراء محاولة إغتيال ترامب …إيران أم أذرع الدولة العميقة **
- ** هل إغتيال هنية في طهران … فخ لهلاك الملالي وذيولهم أم مسرحية **
- ** هَل فعلاً تمكّن إبليس مِن العاصمة بَاريس … في عهد ألمسخ ماكرون **
- ** كَيْف رصاصات الغدر للدولة العميقة … أحيت ترامب وأنهت بايدن **
- ** العراق والمُلا أردوغان … ومسمار حجا **
-
- ** من وراء محاولة إغتيال ترامب …إيران أم أذرع الدولة العميقة **
- ** هل إغتيال هنية في طهران … فخ لهلاك الملالي وذيولهم أم مسرحية **
- ** هَل فعلاً تمكّن إبليس مِن العاصمة بَاريس … في عهد ألمسخ ماكرون **
- ** كَيْف رصاصات الغدر للدولة العميقة … أحيت ترامب وأنهت بايدن **
- ** العراق والمُلا أردوغان … ومسمار حجا **
-
- ** من وراء محاولة إغتيال ترامب …إيران أم أذرع الدولة العميقة **
- ** هل إغتيال هنية في طهران … فخ لهلاك الملالي وذيولهم أم مسرحية **
- ** هَل فعلاً تمكّن إبليس مِن العاصمة بَاريس … في عهد ألمسخ ماكرون **
- ** كَيْف رصاصات الغدر للدولة العميقة … أحيت ترامب وأنهت بايدن **
- ** العراق والمُلا أردوغان … ومسمار حجا **
-
- ** من وراء محاولة إغتيال ترامب …إيران أم أذرع الدولة العميقة **
- ** هل إغتيال هنية في طهران … فخ لهلاك الملالي وذيولهم أم مسرحية **
- ** هَل فعلاً تمكّن إبليس مِن العاصمة بَاريس … في عهد ألمسخ ماكرون **
- ** كَيْف رصاصات الغدر للدولة العميقة … أحيت ترامب وأنهت بايدن **
- ** العراق والمُلا أردوغان … ومسمار حجا **
-
- ** من وراء محاولة إغتيال ترامب …إيران أم أذرع الدولة العميقة **
- ** هل إغتيال هنية في طهران … فخ لهلاك الملالي وذيولهم أم مسرحية **
- ** هَل فعلاً تمكّن إبليس مِن العاصمة بَاريس … في عهد ألمسخ ماكرون **
- ** كَيْف رصاصات الغدر للدولة العميقة … أحيت ترامب وأنهت بايدن **
- ** العراق والمُلا أردوغان … ومسمار حجا **