حين كنّا شبّاناً، كان يسلّينا، وفي الوقت نفسه يستفزّنا، كلام بعض اللبنانيّين عن الفينيقيّة وعن أنّنا فينيقيّون. فهذا الكلام كان يبدو لنا، في أجوائنا العروبيّة واليساريّة حينذاك، ضرباً من البلاهة المشوبة بسوء النوايا.
أمّا السيّئ فيها فوضعُ هذه الفينيقيّة في مواجهة عروبتنا التي نتحدّث لغتها ونتسمّى بأسمائها وننسب أنفسنا إليها أفراداً وجماعات. وأمّا الأبله فيها فأنّنا لا نعرف من تلك الفينيقيّة المتضخّمة إلاّ بضع آثار ميّتة ورسوماً ونقوشاً حفلت بها كتب التاريخ المدرسيّة.
وفي وقت لاحق، حين رحت أزور مصر وأتعرّف إلى مصريّين، أتيح لي أن ألتقي بأشخاص يقولون بالفرعونيّة مثلما يقول أصحابنا اللبنانيّون بالفينيقيّة. وفي مصر، استند ذاك الزعم إلى قاعدة ضخمة وجبّارة تمثّلها الأهرامات التي احتلّت تقليديّاً رأس قائمة المواقع السياحيّة في البلد المذكور.
والحال أنّ هؤلاء المصريّين كانوا، بسبب وبلا سبب، يستشهدون بـ”سبعة آلاف سنة” يُفترض أن يرقى إليها ذاك التاريخ. أمّا البعض الأكثر تواضعاً ودقّة فكان يقصّر المدّة ويكتفي بخمسة آلاف أو أربعة. لكنْ بدل الثقة بالنفس التي كان يُفترض بهذا الرسوخ في التاريخ أن يمنحها لصاحبه، كان يبدو لي العكس تماماً.
فالمصريّ المعتدّ بالفراعنة وبآلاف السنين قد يحدّثك، هو نفسه، بعصبيّة وإلحاح عن مؤامرة قد تقضي على مصر في أيّة لحظة. والمؤامرة، في العادة، مصدرها أميركا (أمريكا) وإسرائيل، لكنّها قد تغدو أحياناً مؤامرة تنفّذها الطائفة البهائيّة أو الطائفة الشيعيّة في مصر!
أمّا العراقيّون فهم أيضاً لا يقتصدون في الكلام عن حضارات “ما بين النهرين”، وكثيرون منهم يستبطنون تنافساً مع مصر حول الأسبقيّة في التاريخ وفي الحضارة. وهنا أيضاً ثمّة كلام كثير عن المسمار وعن الدولاب وعن “أوّل” اختراع في التاريخ. حتّى البعثيّون العراقيّون، في عهد صدّام حسين المديد، صالحوا ذاك النزوع العراقيّ إلى المجد. هكذا طووا نظريّتهم القائلة بأنّ العروبة تحبّ ما قبلها، ليتغزّلوا ببابل وأشور ونينوى.
والآن، ربّما كان من فضائل “داعش” القليلة أنّها تجعلنا أكثر تواضعاً. فنحن، “من المحيط إلى الخليج”، لم ننجح في التكيّف مع قرن واحد من تاريخ العالم الحديث. وها نحن نتصارع صراعاً يوميّاً مع العبارة الإسلاميّة الشهيرة التي ترسمنا “خير أمّة أُخرجت للناس”. فكيف، والحال هذه، ننجح في الغوص قروناً إلى الوراء لمعانقة تلك الإمبراطوريّات الجليلة التي يزعم بعضنا أنّها مرتكزه التأسيسيّ ومصدر “أصالته”؟
لقد فتحت الجليلة “داعش” عيوننا، ويبقى علينا أن نرى.