الحياة اللندنية: جمال خاشقجي
هل يمكن التعايش مع ما يسمى تنظيم «الدولة الإسلامية»، والتعامل معها وتبادل مبعوثين وتطوير علاقات طبيعية معها؟ حتى لو كان هناك من هو مستعد لذلك بيننا، فإن «داعش» ترفض ذلك وبشدة، إنها ترفض كل ما حولها من أنظمة دولية وحدود وقوانين. العلاقة بينها وبين غيرها علاقة حرب لا تتوقف إلا بانتصار ما تعتقد أنه إسلامها الصحيح.
إنها فكرة خام، ترفض القانون الدولي الذي يحكم علاقات العالم بعضه ببعض، اقتصاداً كان أم سياسة، ناهيك عن الاتفاقات التي تنظّم حقوق الإنسان وحرية المعتقد، فهذه وما حولها من المكتسبات الحضارية الإنسانية التي قَبِلها فقهاء المسلمين المعاصرين خلال أعوام النهضة «النسبية» أوائل القرن الماضي، تراها «كفراً خالصاً وردة ما بعدها ردة». إنها تعيدنا – المسلمين – إلى ما قبل المربع صفر، فترفض حتى ما انتهى إليه فقهاء المسلمين الأوائل في ضبط العلاقة مع الآخر مسلماً كان أم كافراً، وتنتقي من فقههم ما يقسّم العالم إلى فسطاطين لا ثالث بينهما، فسطاط كفر وفسطاط إيمان.
دولياً، هي من عهد ما قبل «اتفاق وستفاليا» (1648 ميلادية)، الذي أسس لمفهوم الدول الحديثة ذات الحدود المعتبرة، إذ تمارس كل دولة حقوقها داخل إقليمها، ثم تنظم علاقاتها مع جيرانها في إطار حسن الجوار وعدم الاعتداء. بل إنها ترفض حتى آخر خلافة إسلامية (الدولة العثمانية) وأنظمتها وبروتوكولاتها، وتراها دولة كافرة على رغم كل إنجازاتها ورفع راية الإسلام وتحكيم الشريعة. يكفي أن تعرض عليها بعضاً من نواقضها للإسلام، وستكون كافرة هي وسلاطينها وجندهم ومن أعانهم.
وبالتالي كلنا كفار من حولها، بجامعتنا العربية، وحدودنا ودساتيرنا، خصوصاً الممارسين منا للديموقراطية، الكفر الأكبر المخرج من الملة، والمتعدية على حاكمية الله والمتحدية لشريعته، فهؤلاء خاصةً الكفر وأهله، أما بلاد كالسعودية وبعض دول الخليج التي نجت من «فتنة العصر» فهؤلاء كفرة بناقض «الإعانة الظاهرة»، إذ تحالفوا مع كفار أصليين باتفاقات دفاع وتسلح وتدريب، لا بل اشتركوا معهم في قتال المسلمين، والمسلمون هنا هي «الدولة الإسلامية» فقط.
ثمة ناقض لإسلام كل من حولها ما لم يسمع ويطع «الخليفة» وشرعته، حتى الجماعات الإسلامية التي قبلت بالديموقراطية وشاركت في انتخابات نالها حكم مخفف في البداية «هي جماعات بدعية نبرأ إلى الله من فعلها»، ثم وجب قتالها بعدما خرجت على صف الجماعة، ورفضت الانصياع لحكم «الخليفة» الذي ظهر وقامت عليها الحجة.
أما داخلياً، وفي إطار «دولتها» المزعومة فإنها لا تقلّ تشدداً، فهي وإن خرجت على استبداد ساد العالم العربي، فإنها تمارس الاستبداد نفسه، فلا يملك رعاياها حق الاختيار، لا اختيار خليفتهم (معرضين بذلك حتى عن سيرة الخلفاء الراشدين الذين صعدوا للحكم بتوافق مجتمعي)، ولا اختيار نظامهم، ذلك أنها ترى أنها هي ذاتها ملزمة بالشريعة التي هي أمر رباني لا مجال للبشر في اختياره أو رفضه، ولكن «شريعتهم» ضيقة يزعمون أنها فعل السلف الصالح، بينما هي في الحقيقة اجتهاد بشر اختار من فعل السلف والأحاديث ما يوافق فهمه، فشكّل به تياراً يضرب عرض الحائط بالشريعة الإسلامية الثرية بتنوعها ومذاهبها التي تشكّلت عبر قرون باجتهاد أئمة وفقهاء وعلماء، فكانت قادرة على الاستجابة لمتطلبات حضارة إسلامية انتشرت فوق ثلاث قارات وضمت أقواماً وأعراقاً وأدياناً ومذاهب شتى، إنهم مثل من يدخل مكتبة عامرة، فيقفون أمام رف صغير منها ويقولون العلم هنا وما غيره لغو وباطل.
دولة كهذه، وفقه كذاك يستحيل أن يتعايش العالم معهما، إنها مشروع للتصادم مع القريب والبعيد، ومواجهتها والانتصار عليها لن يتم بمجرد غارات يقوم بها تحالف دولي بعد منتصف الليل ضد أهداف مادية محددة، إنه صراع حضاري بين عالم متحضر ويسعى لمزيد من الارتقاء في إطار يقبل التنوع ويشجعه، وفكرة متخلفة تشوّه الإسلام وتلغي حضارته الثرية قولاً وفعلاً بهدم وتدمير آثاره وتاريخه في رمزية واضحة لفكرها المتخلف، وتريد إلغاء كل الجسور التي بنيت بينه وبين العالم من حوله. إننا أمام صراع طويل وأعوام حالكة، إن لم نبادر إليها فستبادر هي إلينا، وما لم نغزُهم فسيغزوننا هم، إن لم يكن غزواً مباشراً عبر الصحارى والبراري، ولا أحسبهم قادرين على ذلك، فسيغزوننا من الداخل، فثمة من هم بيننا من المنجذبين إلى أفكارهم، فانطووا تحت جناحهم.
وآخرون يقفون على الأعراف سنداً وعضداً، يقدمون رجلاً ويؤخرون أخرى، إنها حال تخصنا نحن – السعوديين – دون غيرنا من المسلمين، لأسباب يعلمها كل فطن ونتردد منذ عقود في حسمها والتحرر من ضيق ذلك الرف الصغير إلى سعة المكتبة الهائلة.
المعركة ليست بين إسلام وحداثة، وليست بين دولة دينية ومدنية، كما تريد «داعش» أن تصور الصراع الجاري، يساندها في ذلك «دواعش» ليبراليون يفضلون حداثة كاذبة على حرية يزدهر فيها الإسلام والمدنية والحداثة معاً. المعركة يجب أن تكون مع الاستبداد الذي جعل فكرة «داعش» ممكنة. المعركة مع «داعش» يجب أن تكون لأجل الحرية لا لأجل القضاء على «داعش». سنقضي عليها في الغالب، ولكن ما لم نداوِ أسبابها فستعود، ولكن قاتل الله السياسة والخوف والكراهية والحرص على الغنيمة، الذي ضيّق علينا اختياراتنا حتى لم نعد نستبين الحق من الباطل والخطأ من الصواب، فانتهينا إلى دائرة مهلكة، إما «داعش» وإما الاستبداد ومعهما الخراب.