من الصعب اليوم استشراف منطويات وأبعاد تدمير سوريا، سواء في ما يتعلق بأهميتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، أو بما تمثله من إرث حضاري ودور تاريخي. ومن المحال اليوم الحديث بدقة رقمية أو تفصيلية عن نتائج التدمير الذي تتعرض له، وطاول كل فرد من شعبها: من أعلى قمة هرمه وصولا إلى آخر فرد فيه، حتى ليمكن القول إن سوريا ستكون بحاجة لأن يعاد بناؤها حجرا حجرا وبيتا بيتا، وإن ما صنعه شعبها على مر تاريخه لا بد أن يعاد صنعه من جديد، وإلا فإنها لن تنهض من تحت ركام الدمار الشامل، الذي ألحقه بها نظام غاشم على يد جيشه وما يتفرع عنه من منظمات ومؤسسات أمنية وعنيفة، أسسها في الأصل كي تكون مستعدة في أي وقت لتدمير ما كان يسميه كذبا «وطنه».
ثمة نتيجتان متناقضتان سيتمخض عنهما الصراع الدائر اليوم في سوريا:
– انتصار النظام وبقاء سوريا بلدا نازفا، يجب أن يظل مدمرا إلى فترة طويلة لا يستطيع شعبه خلالها الخروج من الشلل العام، الذي أنزلته به آلة عسكرية فتاكة، ستحرص على عدم نهوضه من جديد، حتى لا يستأنف مقاومته ويكرر ما جرى بعد عام 1982، حين سحقت حماه وقال حافظ الأسد في اجتماع للقيادة القطرية إنه قصم ظهر المعارضة لمائتي عام. لكن ثورة عام 2011 أكدت أن قوله بني على الجهل بطبيعة الشعب السوري، الذي انتفض بعد أقل من ثلاثين عاما على أفظع مجزرة مروعة عاشتها مدينة في الشرق العربي على مر تاريخه، وانخرط في ثورة لا تشبه ما هو معروف من ثورات، ليكون هذا الإنجاز الخارق مفاجأة مزدوجة عبرت عن جدة الحدث وعظمة الشعب المبدع الذي صنعه من جهة، ووحشية النظام وغربته عن الشعب من جهة أخرى، والتي جعلته يرى في موت أبنائه وتدمير عمرانه انتصارا له، ودليلا يؤكد قدرته على إبقاء المواطن السوري مهزوما لا أمل له في انعتاق أو حرية.
– سقوط النظام وإعادة بناء سوريا جديدة ومغايرة، لا تشبه ما سيخلفه نظامها وراءه.. ستنهض دولتها الوطنية والديمقراطية على أسس مغايرة جذريا للأسس التي قامت عليها دولة الطغيان والاستبداد الراهنة.. سيكون السوري فيها إنسانا كامل الحقوق ومواطنا حرا وليس رعية خاضعة أو عبدا ذليلا وتابعا، وسينظم القانون، السيد الوحيد، الذي سيخضع له كل فرد فيها أينما كان موقعه، علاقة المواطن الحر بالسلطة وبالمجال العام، وسيضمن مجتمعها المدني، مجتمع المواطنين الأحرار والمنتجين، استقلالها ووحدتها. بذلك، سينشأ لأول مرة في تاريخنا تطابق بين ثالوث المواطن والمجتمع والدولة، أساسه المواطن الحر، حامل الشأن العام، الذي سيحميه القانون والقضاء المستقل والرأي العام القوي والإعلام الحر، ودوره في فضاء سياسي – اجتماعي مفتوح يمكن تحرك الفرد فيه بحرية من دون أن يرتطم ارتطاما عنيفا بغيره، فإن وقعت له فيه مشكلات تمت تسويتها بالوسائل السلمية والتوافقية كالحوار وتوازنات القوى والمصالح والتنازلات المتبادلة وغيرها. بعد سقوط النظام الحالي ستبني سوريا نفسها بطريقة تحصنها ضد الاستبداد، بأي صورة كان، وإلا فإنها لن تصير وطنا يحقق أهداف شعبها: العدالة والمساواة والكرامة.
ستأخذنا الحرب الظالمة، التي يشنها النظام وتفرعاته الأصولية والأمنية ضدنا، في واحد من اتجاهين متناقضين:
– هزيمة الثورة، وما ستنتجه من تفاقم في الاستبداد سيحول بين الشعب وبين العودة إلى مدنه وقراه، وسيقضي على أعداد كبيرة من أبنائه الذين لم يغادروا وطنهم، الذي سيبقى مدمرا ليظل عاجزا عن الوقوف على قدميه واستعادة عافيته، خشية أن يقوم بثورة جديدة.
– أو انتصار الشعب على الاستبداد السياسي والمذهبي – الفئوي، وإعادة بناء وتجديد سوريا في حاضنة تاريخية وقيمية مغايرة تماما للحاضنة التي خنقها النظام طيلة نيف ونصف قرن، وساقتها إلى هزائم خارجية متكررة ومجازر داخلية متلاحقة.
ليس لتدمير سوريا الراهن غير معنى وحيد: الإبقاء على السلطة ونظامها عبر القضاء على شعب يدفعه وعيه بمقاصد استبدادها وسياساتها إلى تقديم تضحيات يومية محملة بطابع إنقاذي يريد حماية حياة وحقوق كل فرد في وطننا، بينما يبقي أبواب المستقبل مفتوحة على الأمل في تحقيق ما خرج ناسنا لتحقيقه: الحرية للشعب والعدالة والمساواة للمواطن، الذي لن ينسى ما عاناه من وحشية، يقاومها منذ نيف وثلاثة أعوام بأفعال مفعمة بنكران الذات، يقدمها في العادة طلاب الحق والكرامة، وهم في الطريق إلى حريتهم!