خواطر في يوم الشهيد الشيوعي
عادل حبه
في يوم 14 شباط عام 1949، ساد الوجوم والرهبة في محلة صبابيغ الآل البغدادية بعد اعلان تنفيذ الحكم بالإعدام شنقاً لقادة الحزب الشيوعي العراقي في فجر ذلك اليوم، وتعليق جثامينهم في مناطق مختلفة من شوارع بغداد. تعود بي الذكرى إلى تلك الأيام حيث كف أهالي هذه المحلة في ذلك اليوم عن الاستماع إلى الأغاني التي كانت تبث من راديو مقهى حساني الواقع في دربونة البستان في المحلة حزناً على هذه الفاجعة. وطغى الحزن والحيرة على أهالي المحلة بشكل ملفت. كما انتاب الحزن والدي الحاج محمد حسن حبه الذي فرش سجادته عند الحديقة الصغيرة التي تتوسط حوش البيت العتيق، وراح يقلب صفحات كتبه الدينية من نهج البلاغة إلى رسائل الأمام الفيلسوف جعفر الصادق ويتصفح نشرات الحزب الشيوعي السرية المخبأة فيها، إلى جانب قصص مكسيم غوركي والرواة العراقيين التقدميين كي يخفف من وقع الصدمة. وبعد حين، اصطحبنا الوالد إلى باب المعظم لإلقاء نظرة على جثامين الشهداء المعلقة في الشوارع. ولمحت دموع الأسى تترقرق من عينيه حزناً على ضحايا هذه المجزرة البشعة وهذا الاجراء التعسفي الذي أدى لأول مرة في تاريخ العراق الحديث إلى الإجهاز على أرواح قادة حزب سياسي. ومن المعلوم أن هؤلاء القادة لا تنطبق عليهم تلك الاتهامات التي وجهتها محكمة النعساني ضدهم، وهي اتهامات تنطبق كلياً على الحكام آنذاك ولا تنطبق على ضحاياه من قادة الحزب الشيوعي العراقي. فهؤلاء القادة لم يأتمروا بالمستعمر الأجنبي ولم يرفعوا السلاح ضد الدولة ولم يطالبوا باسقاط النظام القائم آنذاك ولم يدبروا الانقلابات العسكرية، ولم يرتكبوا المجازر ضد العراقيين على شاكلة ما ارتكبته عصابات البعث في سنوات لاحقة وإلى الآن بعد انهيار طغيانهم، ولم يشهروا سيوفهم ويدقوا أعناق العراقيين أو يزرعوا المفخخات في مدن العراق باسم الدين كما يفعل انصار داعش وأخواتها الهمج الآن، ولم يوجهوا كواتم الصوت ضد صدور العراقيين كما تفعل الميليشيات وأضرابها، ولم يفرضوا الأتاوات على العراقيين أو ينهبوا أموال الخاصة والعامة. إن كل مطاليبهم تتحدد في اجراء اصلاحات في الدولة العراقية كي تخرج من مأزقها.
عند رجوعنا في ذلك اليوم الحزين إلى البيت، ولم أكن قد جاوزت آنذاك سن الحادية عشر من عمري، سألت أبي بسذاجة عن السر وراء هذا العقاب القاسي وجدواه، وكيف سيتصرف المواطن العراقي؟. وأجاب الوالد بدون تردد، عليكم أن تنخرطوا في صفوف حزب “الاستاذ”، وهو لقب أضفاه طيب الذكر الزعيم الوطني الحاج جعفر أبو التمن وصديق الوالد على يوسف سلمان يوسف (فهد). ولم يكن جوابه ذلك من قبيل الصدفة أو المشاعر التي غمرته في تلك اللحظات الحزينة، فقد انجذبت أوساط واسعة من العراقيين من شتى المنحدرات الطبقية والاجتماعية والقومية والدينية من الفلاحين المكبلين بقيود الاقطاع والعمال الكادحين والفئات الاجتماعية المتوسطة إلى البرجوازية الوطنية التي كانت تطمح لبناء الصناعة الحديثة الوطنية في تلك الفترة، إلى نزعات التنوير والحداثة والعدالة والديمقراطية التي تبناها الحزب من أجل أخراج البلاد من دائرة الركود الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، نزعات تكريس الهوية الوطنية ومعالجة مضار الهوس الطائفي والتعصب القومي، وتحرير بلاد الرافدين من الهيمنة الأجنبية. وكانت تلك الشعارات الواقعية التي بلورها الخالد فهد وتبناها الحزب مصدر الهام للعراقيين من جهة، ومن جهة أخرى مصدر رعب للفئة الحاكمة والفئات المحافظة والرجعية في البلاد. ويشير بهجت العطية مدير التحقيقات الجنائية آنذاك في تقرير له مؤرخ في نيسان 1949 إلى أن : “العقائد الشيوعية انتشرت انتشارا واسعا في المدن الكبيرة، الى درجة ان الحزب الشيوعي اجتذب اليه في أيامه الأخيرة ما يقرب من 50% من شباب الطبقات كافة. ووجدت الشيوعية طريقها كذلك الى السجون التي صار لها لفترة من الزمن مظهر مؤسسات تعليمية شيوعية”.
ومن أجل الترويج لشعارات الحزب، قاد الشهيد الخالد فهد مظاهرة في 28 حزيران عام 1946، شارك فيها أكثر من ثلاثة آلاف متظاهر ورفعت شعارات التضامن مع الشعب الفلسطيني ضد جرائم العصابات الصهيونية في فلسطين والتضامن مع الشعب المصري من أجل جلاء القوات البريطانية من أرض الكنانة، إضافة إلى الشعارات المطالبة بالحريات الديمقراطية في العراق. وتصدت قوات الشرطة لهذه المظاهرة وأودت بحياة خمسة من المتظاهرين كان في مقدمتهم أول شهيد شيوعي عراقي هو الرفيق شاؤول ابراهيم طويق. وما لبث أن شرع الحكام ماكنة الغدر والموت وفبركة الأكاذيب ضد الشيوعيين وقادتهم من أجل التصدي لموجة الحداثة والتنوير التي بدأت تطرق أبواب العراقيين من قبل الشيوعيين العراقيين.
وعلى طريق تحريك ماكنة الهمجية والتعسف والعنف الذي بدأت تمارسه السلطات في العهد الملكي تم اعدام قادة الحزب- يوسف سلمان فهد وزكي بسيم (حازم) وحسين الشبيبي (صارم) في يوم 14 شباط، إضافة الى اعدام يهودا صديق، وزجت بجمهرة كبيرة من الشيوعيين في غياهب السجون وبأحكام ثقيلة. ولم يجر استثناء النساء الشيوعيات من هذه الاجراءات المشينة والسجن في سابقة تحدث لأول مرة في تاريخ العراق. ثم انتهت تلك الحملة في تلك السنة بإعدام الشهيد ساسون دلال في أيار من نفس العام. لقد كان وراء هذه الجريمة عامل داخلي يتمثل في السعي لمواجهة قوى الحداثة والتنوير شعوراً من الفئة الحاكمة بضعفها وعزلتها عن جماهير الشعب، إضافة إلى قيام نوري السعيد المعروف بعدائه للحزب الشيوعي بالثأر لهزيمة الفئة الحاكمة على يد العراقيين عندما لم تستطع تمرير معاهدة بورتسموث الاسترقاقية اثر وثبة كانون الثاني عام 1948. وقبل اعادة محاكمة قادة الحزب الشيوعي وتنفيذ هذه الجريمة، فرض نوري السعيد حالة الطوارئ وأعلن في مجلس النواب العراقي ان هدف حكومته:” تصفية الحساب مع الشيوعيين وتكافح الشيوعية حتى نفسها الأخير”. وكان هذا الاجراء أيضاً استجابة لارادة خارجية واقليمية في ظل بوادر اندلاع شرور الحرب الباردة. ويشير المرحوم كامل الجادرجي في مذكراته :” لقد أشرف السفير البريطاني بنفسه على المحاكمة وعلى تنفيذ الحكم، وقال هذا السفير سوف لا تقوم قائمة للشيوعيين في العراق لعشر سنوات قادمة”،… ويستطرد الجادرجي في مذكراته:” كان في حينه قد اخبرني صبيح ممتاز عندما كان يشغل مدير العدلية العامة بأن جمال بابان (وزير العدلية) استدعى ثلاثة حكام ممن حكموا فهد وجماعته بالإعدام ووزع عليهم مبلغ ( 800 ) دينار من المخصصات السرية كتشجيع. وقال صبيح في حينه أنه نفسه الذي وزع المبلغ المذكور بحضور جمال بابان. واضاف صبيح قائلا : ان جمال تدخل تدخلا فعلياً في محكمة التمييز لحمل المحكمة على تصديق الحكم “.
لقد خسر العراق، وليس الحزب الشيوعي وحده، باعدام قادة الحزب قادة سياسيين من طراز رفيع، سياسيون يجمعون بين صفات السياسي النزيه والواعي والخبير بجزئيات مشاكل البلاد وبين سياسيين يمتازون بحيازة قدر كبير من الثقافة والحداثة والتنوير وتركوا بصماتهم على مسار الحركة السياسية العراقية. أتذكر في عام 1962، وبعد وصول الشهيد سلام عادل وقرينته إلى موسكو، طلب الشهيد سلام عادل القيام بزيارة إلى دار أرملة الشهيد فهد السيدة أرينا گيورگيفنا وأبنته سوزان يوسف سلمان. وقامت أرملة الشهيد بجلب ظرف يحوي على خصلة شعر اقتطعتها من رأس الشهيد قبيل مغادرته موسكو عائداً إلى الوطن بعد إنهاء دراسته في معهد كادحي الشرق. وراحت هذه السيدة الفاضلة بالحديث عن شذرات من ذكرياتها وخصال الشهيد، حيث أشارت إلى أنها قد :” تعرفت عبر صديقتي على فهد تحت اسم فرانك فريدريك، وقالت صديقتي المترجمة التي رافقته الى بيتنا للسكن فيه بعد وصوله موسكو انه شاب افغاني كان يعلمها اللغة الانكليزية. وتوطدت العلاقة بيننا وتزوجنا. لقد كانت الافلام الثورية والفنون الشعبية تستهويه، وكان يتحادث مع الناس باللغة الروسية ويداعب الاطفال. كان ثوريا رومانسيا يحب الموسيقى الكلاسيكية ويحب زيارة المتاحف ودور الثقافة”.
في يوم ربيعي من عام 1965، وعندما كنا نقضي- نحن المجموعة العراقية الشيوعية – مدة محكوميتنا في سجن قصر المركزي في العاصمة الايرانية طهران جلب إلى السجن مجموعة من المعتقلين الجدد. وتولى أحد السجناء القدامى تعريف المعتقلين الجدد بالقدامى منهم، وأشار إلى مجموعتنا العراقية المكونة من ستة اشخاص. وما أن مرت لحظات حتى اقترب منا أحد المعتقلين الجدد وشرع يدندن وبلكنة آذرية نشيد كان يردده السجناء الشيوعيين في سجون العراق…”السجن ليس لنا نحن الأباة…السجن للمجرمين الطغاة”. عرّف المعتقل الجديد نفسه…علي أصغري… ومن القومية الآذرية ومن كوادر الفرقة الآذربايحانية التي أعلنت الحكم الذاتي في آذربايجان – ايران بعد الحرب العالمية الثانية، وتم اسقاطه في عام 1946. فقد هرب صاحبنا إلى العراق ووقع في قبضة السلطات العراقية ليجد نفسه إلى جانب السجناء الشيوعيين العراقيين في سجن الكوت، الذي كان يحتضن الرفيق فهد وقادة الحزب الشيوعي العراقي. وكانت فرصة أن أسأله عن انطباعاته عن شخصية فهد. وعلى الفور وبحماس شرع علي أصغري بشرح سمات الشهيد…”فهو المتابع الثاقب للأحداث الجارية في العراق ومحيطه الاقليمي رغم جدران السجن التي تحيط بالسجناء، وهو العارف بجزئيات حركة عناصر المجتمع العراقي وتوجهات الحركات السياسية ومواقفها في العراق. وكان فهد يعير أهمية كبيرة للعناية بالمستوى الثقافي لرفاقه وشركائه في السجن، وأرسى تقاليد من النظام والتوعية في السجن بحيث حولها فعلاً إلى مدرسة ومَعلم تنويري. وبادر الشهيد إلى مد خيوط الصلة مع السجناء غير السياسيين بهدف انتشالهم من آفة الأمية والجهل، حيث انضم لاحقاً عدد منهم إلى صفوف الحزب”.
إن هذه الصفات الجميلة للشهيد وضعته في موضع الثقة والاحترام لدى رواد الثقافة والسياسة في البلد. ولنرى ماذا قال شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري في ذكرياته عن هذه الشخصية العراقية اللامعة:” بعد عناء العمل في الجريدة، كنت أقضي أوقاتي مع عائلتي. كان ذلك في دار ذا طابقين، الثاني لإدارة تحرير الجريدة والأول للعائلة. ذات يوم من عام 1942 كنت احتسي الشاي عصراً مع العائلة جاءني أحد عمال المطبعة منبأ بقدوم ضيفين. وجدت في الطابق الثاني ذو النون أيوب وقد تقدم في المجلس، وفي الزاوية المقابلة رجل مجهول أقرب إلى القِصَر وفي عينيه ما يشبه العمش، ولربما بسبب عمله وراء الماكنة. استقبلت ذو النون أيوب بالمألوف من التحايا. وكان حينئذ زميل مهنة إذ كان يصدر مجلة هي واجهة من واجهات الحزب الشيوعي العراقي آنذاك. وقدم لي ذو النون أيوب الرجل المجهول ذي الشخصية المدوّية في العراق. وقربته إلى جانب وبعد تجاذب أطراف من الحديث على فنجان قهوة، استل الرجل من جيبه حزمة أوراق قائلاً:( هذه مقالة إن رضيت عنها فبوسعك نشرها… ولك الفضل). ناديت على أحد العاملين في الجريدة وطلبت منه أن يعتني بها وأن تكون افتتاحية لعدد الغد. حدق الرجل في وجهي بذهول وتعجب قائلاً 🙁 يا أستاذ ألا تريد أن تقرأ ما فيها أولاً؟). قلت: (لا ، لن أقرأ ما تكتبه أنت). وفعلاً لم أعرف ما ورد في المقال إلاّ بعد أن قمت بنفسي بتصحيح مسودة الطباعة قبل أن يصدر العدد وتصبح بين أيدي الناس، وتثير صدى مدوياً. كان الرجل… فهد سكرتير الحزب الشيوعي العراقي. الواقع أن العارفين من الطبقة المثقفة اعلنوا بصوت واحد إن المقال له، لأنه كان مقالاً من صميم الاقتصاد، والاقتصاد كما هو معروف أساس السياسة والمجتمع وأساس المرحلة، فكيف والعراق في ضائقته الاقتصادية”.
هذه هي ملامح علاقة الجواهري بالحزب وقادته. إن هذه العلاقة بين شاعر العصر الجواهري كانت تثير الحساسية لدى البعض وتعيب على الجواهري وتوجه له اتهامات بسبب قربه من اليسار والحزب الشيوعي. ورد الجواهري على حملات هؤلاء بالقول : “إن لم اكن كذلك فلست بالجواهري”.
بعد تسع سنوات على خسارة العراق لقادة الحزب الشيوعي، لم تتحقق نبوءة الفئة الحاكمة ولا السفير البريطاني في العراق في وضع نهاية للحزب الشيوعي بدعوى أن الحزب سوف لن تقوم له قائمة، وان الشيوعية قد ماتت. وعاد الحزب لنشاطه بعد اقل من سنة. وانهار الحكم الهش المعادي للشعب في ثورة تموز 1958، وأعادت حكومة الثورة لقادة الحزب الاعتبار باعتبارهم رموزاً وطنية بارزة. لا شك أن إعدامهم شكل خسارة كبرى للحزب الشيوعي، وألحق ضرراً كبيراً في مساره وعرّضه للتصدعات الداخلية ولخلل فكري وفي السلوك العملي. وبرزت كما هي في العادة في ظروف الانكسار مظاهر من التشدد والغلو واللاواقعية. ولكن الخزين الذي تركه فهد عاد بسرعة ليتلقفه جيل جديد سار على نهج التجديد وتلقف ما هو جديد في متغيرات واقعنا العراقي وفي الحركة الشيوعية والعمالية العالمية. وتولت تنفيذ هذه المهمة قيادة الشهيد سلام عادل التي أدركت خطورة استمرار التصدع في صفوف الحزب وسريان التشدد والجمود والتمسك بما أصبح قيداً في الفكر والممارسة. وشقت القيادة الجديدة طريقها نحو إعلاء دور الحزب الوطني والسبل لتحرير البلاد من كل القيود التي تكبله. ولكن قوى الردة أدركت أن استمرار تحقيق أهداف تموز لا يعني سوى فقدان كل موقع لها في البلاد. ولذا بادرت هذه القوى إلى الاستعانة بتيار داخلي وخارجي لتوجيه ضربة إلى قلب مسيرة الثورة المتمثلة بالحزب الشيوعي العراقي في نكبة 8 شباط عام 1963. لقد استعانت هذه القوى بحزب البعث الذي وضع على رأس أهدافه في برنامجه الانتخابي الأول في صيف عام 1943 منذ تأسيسه في سوريا هدف معاداة الشيوعية والشيوعيين، هذا الهدف الذي تبناه قلباً وقالباً حزب البعث في العراق منذ أن شرع بنشاطه في النصف الأول من عقد الخمسينيات من القرن الماضي، وأصبح نهجاً ثابتاً له على الأخص بعد انتصار ثورة 14 تموز عام 1958. وبذلك أخذ حزب البعث على عاتقه تنفيذ المهمة التي فشل في تحقيقها نوري السعيد وبطانته وحماتهم في الخارج في عام 1949. واستعانت قوى الردة وحزب البعث بقوى عربية واقليمية ودولية متناقضة كشفت عنها بالتفصيل أطروحة ماجستير قدمها الباحث الأمريكي ويليام زيمن تحت عنوان (تدخل الولايات المتحدة في العراق في أعوام 1958 – 1963)، كما أشار إلى تفاصيل المتآمرين مراسل جريدة ” Jewish Observer and Middle East Review ” في بغداد بتاريخ 8 آذار عام 1963.
أودى انقلاب شباط بحياة الآلاف من قادة الحزب وكوادره واعضائه وانصاره، وفي المقدمة منهم سلام عادل والعبلي والحيدري وغالبية قيادة الحزب وكوادره إلى جانب النخبة الخيرة من ضباط ومراتب الجيش وفي المقدمة منهم العميد الطيار جلال جعفر الأوقاتي والبياتي والمهداوي، إلى جانب العديد من الوطنيين والديمقراطيين ومن أنصار الزعيم عبد الكريم قاسم بعد أن دارت عجلة الموت والرعب بشكل فاق ما أبدعته عجلة نوري السعيد وبهجت العطية في العهد الملكي. إن هؤلاء الشهداء وعوائلهم ينتظرون الآن أن تقدم حكومتنا الحالية على أصدار قرار باعادة الاعتبار لهم كوطنيين ضحوا بحياتهم من أجل الوطن على غرار ما أقدمت عليه حكومة ثورة 14 تموز عام 1958 عندما أعادت الاعتبار لقادة الحزب الشيوعي العراقي.
إن طاحونة الموت والشر وممارسة الابادة الجماعية للشيوعيين على يد انقلابيي شباط كسابقتها لم تستطع أن تمحي الحزب وتراثه وما زرعه من قيم نبيلة في أرض السواد والجبل. وظل البعث ومن يدعمه داخلياً وخارجياً يطلبون المزيد من دم الشيوعيين وأنصارهم ومن يتعاطف معهم.
ومن المفيد الاشارة في هذا الإطار إلى لقاء تم في مقرالحزب الشيوعي في ساحة عقبة بن نافع في بغداد خريف عام 1977، وبحضور أحمد حسن البكر وصدام حسين مع شروع الحملة التي قام بها البعث لتصفية الحزب. ففي هذا اللقاء وجّه الفقيد عامر عبدالله كلامه إلى أحمد حسن البكر طالباً منه إطلاق سراح قرابة 30 شيوعياً غالبيتهم من المحكومين بالاعدام لأسباب تافهة لا تتعدى تبرع بعضهم بخمسين فلساً للحزب الشيوعي. ولم يكمل الفقيد عامر حديثه حتى انبرى صدام حسين معلقاً بسخرية:” استاذ عامر…نحن نظل ندق فيكم، وإذا ما سقط نظامنا فإنكم سوف لا تستلمون الحكم، بل الأمبريالية والرجعية”. قال صدام ذلك في الوقت الذي لم يشكل الحزب الشيوعي تهديداً لحكم البعث، حيث كان في تحالف مع البعث. وبعد أشهر بدأت على نطاق واسع عجلة الموت لتودي بحياة حملة الحداثة والتنوير والثقافة ورافعي راية ازالة التمييز العراقي والقومي والطائفي، وتحقيق العدالة في المجتمع العراقي. وألحقت هذه الحملة أضراراً فادحة بالحزب وبالتيار الوطني والديمقراطي، وأدى إلى انفراد ديكتاتورية البعث بقرارات دفع العراق لها ثمناً باهضاً من الحروب والدمار والتخلف الذي شكل ميزة من ميزات سلوك هذا الحزب المريب، الذي تحول من حزب علماني في ظاهره ويحاسب أعضائه على ارتيادهم الجوامع إلى حزب طائفي روّج لتقليعة “الحملة الايمانية” و “دراويش النقشبندية” و “حلفاء داعش” ودولتهم الاسلامية المشينة التي تفتك الآن بالعراقيين والشيوعيين بضمنهم، وارتكب جرائم تعد من جرائم ضد الانسانية.
في هذا اليوم الجلل نستذكر أولئك الذين ذهبوا بصدق ونية صافية وبتجرد للمساهمة في رفع الحيف عن أشقائهم الكرد ومقارعة جمهورية الخوف، والذين استشهدوا على يد زبانية صدام حسين بسلاحهم الكيمياوي، أو على يد المتطرفين من أدعياء الدفاع عن حقوق المواطنين الأكراد. نستذكر فكرت جاويد ورفاقه التسعة الذين عبروا الحدود بعد عودتهم من دراستهم في موسكو ولقوا حتفهم على يد عيسى سوار وبطانته الذين كانوا ينتمون الى الحزب الديمقراطي الكردستاني. نستذكر أؤلئك الذين راحوا ضحية التطرف الأرعن لبعض متطرفي الاتحاد الوطني الكردستاني الذين أودوا بحياة عميدة عذيبي الخميسي وغسان عاكف حمودي والعشرات من رفاقهم دون أن نسمع أي اعتذار وحتى ندم من قبل أؤلئك الذين أرتكبوا هذه المجزرة.
ولا يسعنا في مناسبة يوم الشهيد الشيوعي سوى اللجوء إلى أبي الشعر محمد مهدي الجواهري وهو يحيي تراث الشهداء الشيوعيين… شهداء الوطن قائلاً:
سلامٌ على جاعلين الحتوف جسراً إلى الموكب العابر ِ
على ناكرين كرام النفوس يذوبون في المجمع الصاهر
سلامٌ على مثقل بالحديد ويشمخ كالقائد الظافرِ
كأن القيود على معصميه مصابيح مستقبل زاهرِ
14/2/2014