مع تنامي وطأة الديكتاتورية في مصر لم يعد ثمة سبيل لتطويق الجلاد إلا استئناف الثورة حتي سحقه لآخر نبضة أو التواري مجددًا في ظلاله، ما من حلول أخري، من قال لك غير هذا الكلام فهو كاذبٌ أو مضلل، فالمعركة باتت صفرية فعلاً، وباتت المهادنة ومحاولات التنقيب عن نقاط نائمة لتنشيطها والتقاء الخصوم عندها خيارًا تجاوزته تداعيات النزاع وارتفعت عنه فوق الأرض بآلاف الأميال!
وإنني، لا أجد تعليلاً لسعار الأيام الأخيرة أكثر عدالة من أن النظام قد استوعب تمامًا جسامة المأزق الذي هو الآن فيه، بحماقاته الخاصة لا بإبداع الثوار وإدراكهم المواطن الصحيحة لركله في مؤخرته بأحذيتهم من كل جانب، كان إحراق مجموعة من الكتب في فناء مدرسة “فضل الحديثة” آخر هذه الحماقات الكبيرة!
وما من شك في أن الاحتفال بذلك الطقس الذي تجاوزه الزمن بالشكل الذي رأيناه وتركيز كل تلك الأضواء المسيسة علي حواف الحادثة يفصح بوضوح عن أنها مرتبة ومعدٌّ لها قبليًا!
كما أن وجود كتاب “إلاسلام وأصول الحكم” بين الكتب التي الآن صارت رمادًا يقتل كل مساحة يتحرك فيها المتشككون في أن أيًا من الذين قيل لهم علي عجل أن يقترفوا تلك الجريمة الأخلاقية قد قرأ أياً من تلك الكتب ولا سمع حتي ولا لديه علم بمن يكون الشيخ “علي عبد الرازق” ولا بتلك الأفكار التي انطوي عليها كتابه ” الإسلام وأصول الحكم”!
لذلك، لابد أن تولد من غرابة الحادثة وسذاجة تنسيقها عدة أسئلة مشروعة:
ما هي مؤهلات من يديرون مصر؟ هل نالوا قسطًا وإن ضئيلاً من التعليم؟ هل قرأوا كتابًا واحدًا في حياتهم؟
بل قد يرتفع سقف الأسئلة إلي:
هل يجيدون القراءة والكتابة؟
هل يدركون أن موكب الإنسانية يتسكع الآن في طرقات العام 2015 بعد ميلاد المسيح؟
وفي العام 1925 بعد ميلاد المسيح، نزف ذهن الشيخ “علي عبد الرازق” فكرة علي حزمة هزيلة من الورق دون أن يدور بباله عند الفراغ منها أنه كان مقدمًا علي إلقاء حجر في ماء آسن سوف تثور له عما قليل كل السواحل البعيدة!
لقد ملأ الدنيا وشغل الناس، وأهاج الضجيج في كل مكان، وأشعل معارك دينية وسياسية ربما لم يهدأ غبارها حتي يومنا هذا!
لقد سفه الشيخ الأزهري فكرة الخلافة ورأي أن مدنية الدولة هي الآن التعبير المحميُّ لبناء دولة يمكنها الانخراط في العالم الكبير..
وكالعادة، جاء تعقيب هيئة كبار علماء الأزهر عصبياً، لقد قضت بمصادرة الكتاب وطرده من زمرة العلماء ومن العمل في القضاء الشرعي!
حدث هذا بتحريض من الملك “فؤاد الأول” الذي كان يطمح في أن يكون خليفة للمسلمين بعد سقوط الخلافة في مركزها، تركيا، ولقد عصف ذلك المعمم بحلمه من الأمام ومن الخلف ومن الجانب الآخر، وربما، لفداحة الصفعة، لم يكن عقاب هيئة كبار العلماء كافيًا لامتصاص غضب الملك!
لذلك، هو، من وراء حجاب، أصدر أمرًا ملكياً بالبدء في اندلاع حملة مسعورة ضد الشيخ وكتابه!
وكالعادة، أيضًا، تحمس للانخراط في تلك الحملة عدد كبير من شيوخ السلطان لعل أشهرهم تونسي الجنسية “محمد الخضر حسين”، أول شيخ أزهر في عهد العسكر، فأضاف إلي المكتبة العربية كتابه “نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم”!
علي الجانب الآخر، جعل الكثيرون من أقلامهم ومواقفهم دروعًا تحمي الشيخ “علي عبد الرازق” من غارات المعممين العصبية، كان “د.محمد حسين هيكل” واحدًا من هؤلاء، “عباس العقاد” أيضًا، و “سلامة موسي”، كما استقال “عبد العزيز باشا فهمي” من وزارة العدل تضامنًا مع الشيخ المفكر!
هذا بعض ما كان من صدي لهذا الكتاب الذي أربك كل آفاق التلقي لسنوات طويلة والآن يحرقه الذين يغازلون اليهود والكنيسة برغبتهم في إشعال ثورة علي النصوص التي يقدسها المسلمون!
من الجدير بالذكر أن حرق الكتب للأنظمة الديكتاتورية عادة مشهورة، علي طول التاريخ وبعرض التحفظ الصحِّي، والسبب شديد الوضوح، فمثل هذه الأنظمة لا يمكن أن تعيش إلا علي حواف وسط مظلم تسكنه قطعان بشرية تعتبر العقول مجرد زوائد لحمية مثلها مثل الوحمات أو الدمامل وتؤمن إيمانًا طليقًا بأن بالخبز وحده يحيا الإنسان، لذلك، يجب أن لا صوت يعلو فوق صوت الديكتاتور ولا ضوء يندلع لقراءة الواقع فيه إلا الضوء الذي يقننه نظامه!
والديكتاتور يعيش دائمًا علي الحواف كعادة الغجر الشهيرة، ومتي أيقظ القهر في صدور القطيع شدوًا مريبًا أسلم قدميه للريح المذعورة لا يلتفت إلي عزيز، فهو لا يحرس الإخلاص لوطن إلا حقيبة السفر، ولا لشخص إلا الأنا!
لذلك، متي قرأت أو سمعت رواية عن إحراق الكتب في بلد ما، وفي أي لحظة زمنية ما، فتأكد أن سكان هذا البلد كانوا آنذاك في أتون معركة حقيقية مع الغزاة انتهت بسحقهم، أو، كانوا يخوضون معركة مذهبية أهلية، أو، كانوا منهكين بالقمع تحت وطأة نظام ديكتاتوري، وكل الدروب بعد ذلك لا تصل!
هضابٌ لا يمكن إحصائها من الرماد الذي كان ذات يوم بعيد مجرد هواجس تتردد في أذهان ممتازة تعمل علي اصطيادها حارة في لحظةٍ مجردة يتناثر الآن في أروقة التاريخ، وهذه أشهر جرائم حرق الكتب!
قبل ميلاد المسيح بحوالي ستة قرون، عندما سحق البابليون الآشوريين واستولوا علي عاصمة ملكهم “نينوي” كان أول ما فعلوه هو أن أحرقوا مكتبة “آشور بانيبال”!
وقبل ميلاد المسيح بحوالي 213 سنة، كان يحكم الصين الامبراطور “تشين شي هوانج”، مؤسس أسرة “تشين” ومؤسس الصين الموحدة وسورها العظيم، ولقد أفرط ذلك الديكتاتور في اضطهاد الكونفوشيوسية، وبدد أيامًا من حياة الصين لإحراق 100,000 كتاب من كتب مفكريها، ليس هذا كل شئ، فعندما احتج 400 عالم من الكونفوشيوسيين أمر بدفنهم أحياءًا!
وقبل ميلاد المسيح بحوالي خمسين عامًا، تعقيبًا علي خطأ ارتكبه بعض جنوده، أحرق “يوليوس قيصر” مكتبة الإسكندرية!
كان قد أمر بإحراق السفن خشية الاستيلاء عليها فامتدت ألسنة اللهب إلي المكتبة فدمرتها، ويؤكد بعض المؤرخين الذين يهتمون بمخاطبة الحواس وإضفاء ظلالٍ من الأدب علي التاريخ أن “قيصر” كان آنذاك يمارس الجنس مع “كليوباترا” علي الأضواء الناجمة عن الحريق!
ومكتبة الإسكندرية مرة أخري..
بعد ميلاد المسيح بحوالي 640 سنة، استولي “عمرو بن العاص” علي الإسكندرية، وهناك، تعرف علي عالم لاهوت مسيحي قديم العمر اسمه “يوحنا فيلوبونوس”، حدث أن اشتبك الرجلان ذات يوم في جدال عقائدي كان التثليث محوره، وسأل “يوحنا” في النهاية القائد المنتصر الحفاظ على الكتب الموجودة في مكتبة الإسكندرية!
عندما ارتاب “عمرو” في حرص الرجل علي الكتب إلي هذا الحد سأله عما فيها، فقص عليه قصة المكتبة منذ تأسيسها، لكن “عمرًا” رأي أن يستشير الخليفة “عمر بن الخطاب” قبل أن يحسم أمره فيها، وبالفعل، أرسل إليه رسالة يسأله فيها المشورة، وجاء الرد، للأسف، مخيِّبًا للآمال، قال في بعضه:
“وأما الكتب التي ذكرتها فإن كان فيها ما يوافق كتاب الله ففي كتاب الله عنه غني، وإن كان فيها ما يخالف كتاب الله فلا حاجة بنا إليها”!
وبالطبع، امتثل “عمرو بن العاص” لأمره وأمر بدوره بتوزيع الكتب على حمامات المدينة لإستخدامها في إطعام النيران التي تُبقي حرارة الحمامات!
هذه الحادثة مثار جدل كبير، حتي أنني وأن أحدًا أياً كان لا يستطيع أن يؤكدها أو ينفيها، مع ذلك، لقد أكد “القفطي” في “تراجم الحكماء” صحتها، كما أكد أيضًا أن إحراق كل الكتب قد استغرق حولي نصف العام، كذلك فعل “تقي الدين المقريزي”، وهو أسطوري أكثر منه مؤرخ، ومشهور أيضًا بالوقوف علي حافة الإختلاق!
ذهب “ابن خلدون” أيضًا إلي صحتها بالقياس علي حادثة أخري مؤكدة كان “عمر بن الخطاب” أيضًا محورها، عندما أمر “سعد بن أبي وقاص” بإلقاء كتب الفرس في الماء والنار، وقال كلامًا يكاد يتحد بكلامه لـ “عمرو بن العاص”:
“إن يكن ما فيها هدي فقد هدانا الله بأهدى منه وإن يكن ضلالا فقد كفانا الله”!
وفي بدايات العقد الثامن من الهجرة أمر الخليفة “سليمان بن عبدالملك” بحرق مخطوطات ورد فيها ذكر الأنصار في معركة بدر!
وفي عصر الدولة العباسية أفرط الخليفة “المهدي” في استنطاق النوايا ورجم الكثيرين بالإنتماء إلي المانوية واتهامهم بالزندقة وإحراق كتبهم وإزهاق أرواحهم، كان المفكر “عبد الله بن المقفع” أحد ضحايا تلك الحملة الشعواء، كذلك، كان الشاعر الكبير “بشار بن برد” من ضحاياها!
ولم تمض عقود طويلة علي تلك الحملة المسعورة حتي بدد المغول تراث الدولة العباسية المكتوب كاملاً!
وجيوب التاريخ مفعمة بالكثير من الروايات عن حرق “صلاح الدين الأيوبي” لكتب الفاطميين!
في السياق نفسه..
في الأندلس، يوم 16 فبراير عام 1198، بتحريض من بعض شيوخ السلطان، جمع العوام كل الكتب التي في مكتبة “ابن رشد” وقاموا بحرقها في الساحة الكبرى بـ “إشبيلية” وهم يهللون ويكبرون!
لكن “ابن رشد” كان في ذلك الوقت قد نجا، ذلك أن أفكاره كانت قد اقتحمت كل أسيجة أوروبا فطربت لها صدور الأوربيين، ولأول مرة، بفضله، فهموا “أرسطو” كما ينبغي، وقدروا قيمة الشك فحلقوا في مطلق غير مطلق آبائهم!
لقد أدركوا أنهم سوف لا ينتهون من الدوران في الفشل ما لم يتجاوزوا آبائهم ويتجاوزوا أوروبا التي يبني قطيعها منظومة معرفته علي كتاب واحد فقط، وهو الإنجيل!
ويوجه خطوات قطيعها عقل كعقل البابا “جريجوري التاسع” الذي طلب من الملك “لويس التاسع” عام 1242 إتلاف كل نسخ التلمود في “باريس” فاستجاب له!
لكل ذلك، كان يجب أن تحدث عما عقود من محرقة أفكار “ابن رشد” أكبر محرقة للكتب في التاريخ، قيل!
إنها محرقة “غرناطة”، آخر معاقل المسلمين في أسبانيا، عندما أمرت الملكة الاسبانية “إزابيلا ” و “فيرديناند” ملك “آراجون” بحرق أكثر من مليوني كتاب، قيل، وهو عدد مبالغ فيه جدًا في اعتقادي، مع ذلك، كانت هي تقريبًا كل تراث المسلمين في الأندلس، وكان من بين تلك الكتب كتاب “في الفلسفة” لـ “ابن رشد” وكتاب “طوق الحمامة” لـ “ابن حزم” ودواوين “ابن زيدون”، ولحسن الحظ، كانت كل هذه الكتب قد رحلت قبل ذلك شرقًا!
في اعتقادي الخاص، لولا إحراق كتب “ابن رشد” في دولة ملوك الطوائف لما كانت محرقة “غرناطة”!
لو أن المسلمين قد انتبهوا لقيمة الرجل، ألا ليتهم فعلوا، ذلك أن مجتمعات اللون الواحد هي مجتمعات عقيمة ومحكوم عليها بالنحافة كلما تقدمت في العمر، وبحتمية سقوطها في نهاية المطاف!
أحرق الإسبان أيضًا كل مخطوطات المايا، كما قامت محاكم التفتيش هناك بإحراق كل النصوص اليهودية والعربية!
وقامت محاكم التفتيش في إيطاليا القرن 14 بإدانة “كيكو داسكولي” بالهرطقة، وأحرقوه تعقيبًا علي كتابه “دي سيفيرا”!
وفي بداية القرن الـ 15 أقر البرلمان الإنجليزي قانون “حرق المهرطقين”، وهو قانون يقضي بجمع كل الأعمال التي تنظر إلي الحياة من زاوية غير زاوية السلطة الروحية للمملكة وحرقها أمام العوام..
وفي عام 1624 أحرق الكاثوليك ترجمة “مارتن لوثر” الألمانية للإنجيل فأحرق “لوثر” من جانبه المراسيم البابوية..
كما أن المهاجرين الأوائل حملوا معهم عادة حرق الكتب إلي الولايات المتحدة، غير أن الروح الأمريكية لفظت هذه العادة، مع ذلك، هناك علي الدوام شئ رقيق للغاية ودقيق للغاية يضيع، فللولايات المتحدة في حرق الكتب حضور ضئيل، وفي القرن الـ 17، عندما ظهر كتاب “ثمن تضحياتنا المستحق” للكاتب “ويليام بينشون” مفعمًا بنقد التطهيريين وتسفيه أحلامهم حظرته السلطات وأحرقت كل نسخة منه استطاعت الوصول إليها أمام العوام!
كما أن “أنتوني كومستوك” الذي كان “رئيس جمعية نيويورك لمكافحة الرذيلة” عندما أقنع الكونجرس الأمريكي بتمرير قانون الدعارة الفيدرالي عام 1873، اتخذ حرق الكتب من جراء القانون طابعًا رسميًا، ذلك أن الختم الذي كانت الجمعية تستخدمه يظهر علي أحد جانبيه شرطيٌّ يقود مجرمًا إلي السجن، ورجلٌ يشعل النار في الكتب علي الجانب الآخر!
وبطبيعة الحال، فعل ذلك الذي لا نشك في أنه يفعلها، “هتلر” طبعًا!
لقد اعتبر وزير دعايته “جوزيف جوبلز” كل كتاب لا ينسجم مع أفكار “هتلر” كتابًا مفعمًا بالروح غير الألمانية يرتقي حرقه إلي الواجب الوطني، كما اعتبر كل كتابٍ ينطوي علي تبجيل الليبرالية أو الماركسية وقودًا مشروعًا، ولقد وقعت كل أعمال “سيجموند فرويد” تحت طائلة النار في احتفال “برلين”!
كما واجهت المصير البائس نفسه كتب حزمة من العقول الممتازة مثل “بيرتولد بريخت” و “ليون فويشتفانجر “و “ألفريد كيروكان”، وكان تعقيب “سيجموند فرويد” علي تلك الجريمة ساخرًا ومفعمًا بالمرارة في الوقت نفسه، قال:
– التقدم الذي وصلنا إليه أنه في العصور الوسطي كانوا سوف يحرقونني أنا، أما الآن، فقد اكتفوا بحرق كتبي!
من الجدير بالذكر، أن كل ديكتاتور في كل مكان وزمان غبيٌّ يثير الشفقة والسخرية، وأيًا منهم حتمًا يفكر بنفس طريقة الآخرين، وكلهم، يحملون علي الدوام عقولاً بسيطة أشبه بعقول الكائنات الأولية، ولا يمتلكون خيالاً، ولا يرون أبعد مما تري عيونهم..
في ستينيات القرن الماضي زار “نيكيتا خروتشوف” معرض “مانيج” للفن التجريدي فوصم كل الفنانين بالعار، ووصف إحدي اللوحات في لهجة تنم عن استعلاء غير مبرر، كأنه “بيكاسو” مثلاً، قائلاً:
– إن الحمار يرسم بذيله أفضل منها!
ووصف لوحة أخري قائلاً:
– إنها غازات في المعدة!
وقال لأحد الفنانين بدون مواربة:
– لو ذهبت إلي القبر لكان خيرًا لك من تبذير وقتك في رسم مثل هذه اللوحة!
فرد عليه الفنان الشاب قائلاً:
– لحسن الحظ يا سيدي أننا تجاوزنا المرحلة التي كان القبر فيها يقوم مقام الطبيب!
ولم يستوعب “خروتشوف” بكل تأكيد تلك الأطراف الحادة لكلمات الفنان..
أود هنا أن أبرئ ساحتي من تهمة الإشارة ضمنًا إلي “السيسي” كديكتاتور، فهو أقل من هذا بكثير، بكثير جدًا، ولقب الديكتاتور لا يستطيع “السيسي” أن يمر من تحت أقواسه وإن امتلك قامة أطول من قامته آلاف المرات، إنها ديكتاتورية منظومة مسلحة ومسنة!
والآن..
ما من شك في أن حرق كتاب جريمة كبري، لكن، لكل قصة جانب آخر، فلا أعتقد أن إنسانًا آخر علي سطح الكوكب تضاهي بهجته بهجة الكاتبة البريطانية “إي أل جيمس” يوم الخامس من نوفمبر من كل عام، وهو يوم “جاي فوكس” تكريمًا لما يعرف في أدبيات الإنجليز بـ “خيانة البارود”!
وفي الخامس من نوفمبر عام 1605 تلقت الشرطة البريطانية رسالة مجهولة المصدر تفضح مؤامرة علي حياة الملك، عندما أخذت الشرطة الرسالة علي محمل الجد، ضُبط “جاي فوكس” وهو يحرس كومة من المتفجرات زرعها المتآمرون في نفق أسفل مجلس اللوردات!
ابتهاجًا بنجاة الملك “جيمس الأول” من مؤامرة الكاثوليك أشعل العوام النيران في أنحاء مدينة لندن، ويبدو أن ردود أفعال العوام حازت إعجاب الملك فأصدر مرسومًا بتقنين الإحتفال في الخامس من نوفمبر من كل عام كأحد أعياد الإنجليز الرئيسية، لكن، مع تقدم الحادثة في العمر، اتخذ العيد شكلاً ترفيهيًا لا ينخفض إلي علة العيد نفسها، الكاثوليك الآن أيضًا يشاركون البروتسانتيين الاحتفال بيوم “جاي فوكس”، أحد الضالعين في مؤامرة البارود الفاشلة، وكلنا يعرف حتمًا “جاي فوكس”، وكان شريكًا للمصريين في ثورة 25 يناير وكل تداعياتها الاحتجاجية بوضوح أكثر مما ينبغي، فهو المصدر الجذري لقناع “Vendetta”!
لكن ملجأ النساء المُعنفات في بريطانيا يحتفل منذ أعوام بيوم “جاي فوكس” بطريقته الخاصة، فهو بالنسبة إليهنّ يومٌ عام لشراء وحرق رواية “خمسون درجة من الرمادي” للكاتبة “إي أل جيمس”، وهي رواية تنبض بالكثير من مشاهد الإغراء العارية جدًا، وبالكثير من الممارسات الجنسية التي تبجل العبودية والخضوع والماسوشية والتواري في ظلال السيد، أذابها مؤخرًا المخرج “سام تايلور جونسون ” حتي آخر قطرة في فيلم يحمل نفس الإسم “خمسون درجة من الرمادي” أيضًا، وبالطبع، تعقيبًا علي حماقة ملجأ النساء المعنفات الموسمية من الطبيعيِّ أن يشتعل الضوء في اسم الكاتبة مجانًا وترتفع مبيعات الرواية بعصبية!
لكن، لماذا كل هذه العصبية من أجل حرق حزمةٍ من الكتب، فهل فوق أنوار قديمة صارت الآن رمادًا؟
يجب أن نرثي للجناة لا للكتب المحترقة، ولعل في هذه القصة العزاء:
بكى أحد تلامذة “ابن رشد” وهو يري العوام يحرقون كتب معلمه، فالتفت إليه “ابن رشد” وقال له:
– إذا كنت تبكي حال المسلمين فاعلم أن بحار العالم لن تكفيك دموعًا، أما إذا كنت تبكي الكتب المحروقة فاعلم أن للأفكار أجنحة وهي تطير لأصحابها!
نعم، للأفكار أجنحة، لذلك لم يستطع جلادٌ عبر التاريخ الإنساني كبح تحليق فكرة ما في مطلق ما، كيف حدث هذا؟ لا أدري، لكن، بكل تأكيد، للفكرة الطليعية امتداداتها التي تخصها، والتي بمقدورها أن تجعل الزمن دائريًا، وهي أيضًا كالوردة ولا تُسأل الوردة عن عطرها، أو هكذا أظن!..
ابكِ عليهم، أو، ابشر باقتراب غروبهم، فمتي وصل إرهاب الجلادين إلي درجة الإرهاب الفكري تأكد أنهم علي مشارف العقاب، فما استهان أحد بكتابٍ ونجا، لذلك، سوف أسمح لنفسي أن أحرف شطر بيت “المتنبي”:
وخيرُ جليس ٍ في الزمان كتابُ
ليصبح في هذه الجملة الاعتراضية الركيكة التي الآن يفشل في إعرابها تاريخ مصر:
وخيرُ بشير ٍبالخلاص كتابُ
رحم الله كل أصحاب الأنامل الثرية التي وقفت وراء إبداع كل خيوط النور التي الآن صارت رمادًا في فناء مدرسة “فضل الحديثة”، رحم الله الشيخ “علي عبد الرازق” بشكل خاص!
محمد رفعت الدومي