جبران خليل جبران
قال جبران خليل جبران إنه عندما رأى البحر لأول مرة كان في الثامنة: “كانت أمي على فَرس، وأنا وأبي على ظهر حمار قبرصي كبير أبيض اللون. عبَرنا الممر الجبلي ووصلنا إلى حافته، فأطلّ علينا البحر. كان لونه بلون حافّته السماوية، والمياه كانت مليئة بالسفن الشراعية حاملة المهاجرين”.
هو، هاجر بعد نحو خمس سنوات. بقي الأب في بشري، يلعب الداما في ساحتها ويشرب العرق في كل مكان. وركبت العائلة برمَّتها البحر إلى إيليس أيلاند في نيويورك، ثم القطار إلى بوسطن: كاملة اسطفان عبدالقادر رحمة وابنها من زوج سابق، بطرس، وجبران وسلطانة ومريانا.
لا أحد من القافلة الصغيرة كان يُجيد القراءة إلا جبران الذي يفكّ الحرف العربي. وعندما طُلبت منهم أسماؤهم، سُجِّلَ خطأ تحت اسم الأب، خليل. وبهذا الاسم سوف يُعرف أشهر لبناني في كوكب الأرض، وأشهر مهاجر وطئ أميركا. في 10 نيسان 2015 يكون قد مرّ على وفاته 84 عاماً، ولا يزال كتابه “النبي” الأكثر مبيعاً بعد “الكتاب المقدس”. الشرقي المنافس هو الصوفي الآخر جلال الدين الرومي.
وصلَت العائلة إلى حي ساوث إند، كرنتينا المدينة، التي تضمّ اليوم 100 جامعة بينها هارفارد. كان لكاملة بعض الأقرباء، وكان الحي مليئاً بمواطنيها، يتحدّثون لغتها ولا يسخرون من معتمري الطرابيش مواصفات الطراطير. وفي ساوث إند عملت كاملة في ما يعمل فيه اللبنانيون: البيع على الكشّة. خيطان، صوف، وكراكير. وبعد قليل، جمعت ما يكفي من أجل أن يفتح بطرس دكاناً صغيراً عملت فيه مريانا وسلطانة. وسوف تتذكّر مريانا، الباقية الوحيدة من الوفيات المتلاحقة، في ما بعد، أنها وشقيقتها، كانتا تسرقان بنساً من صندوق الدكان لكي تشتريا به راحة الحلقوم. قتلهما الحنين إلى بشري.
أدخل خليل مدرسة “كوينسي”، التي لا صفوف فيها، حيث يتعلّم المهاجرون لغة الحياة في العالم الجديد. بعض المعلمين لاحظوا أن ثمة عبقرياً في المكان، وظلّوا يكتبون إليه طوال عمرهم. أما هو، الذي عاش 48 عاماً، فقد كانت كافية لأن يغيِّر في أسلوب الكتابة العربية، ولأن يضع أشهر كتاب بالإنكليزية في أميركا، ولأن يصبح أحد كبار الرسامين، ولأن يُزهر ويُشهر “الرابطة القلَمية”، ولأن ينقل لمعان الحركة الأدبية من الوطن إلى غرب نيويورك، ولأن يكتب بعض الأجمل في أدب الرسائل، وأن يناضل من أجل الحرية عن الأتراك، وأن تحبّه النساء. الكثير منهن. ولأن تتحوّل حياته موضوع مؤلّفات ودراسات أكثر من تلك التي كُتبت في شعراء أميركا أنفسهم.
كان خليل، كل شيء. كاتباً وشاعراً ورساماً وثائراً ومحباً للضعفاء، ومتمرّداً على الإقطاع، وناقماً على قَسوة الكنيسة في تلك الأيام. غير أن سلمى الخضراء الجيوسي، سيدة النقد والسيرة باللغة الإنكليزية، تقول إنه كان نتاج “الكتاب المقدس”. يفوت هذه العلاَّمة أن تقول، إن هكذا أيضاً كان شكسبير، الذي أخذ من الكتاب لغته وأشخاصه ودرامياته. وإن معظم الكتّاب والشعراء العرب هم نتاج القرآن.
لم يكن عالم خليل قد امتلأ بالكتب بعد. الدراسة كانت في باحة الكنائس، والكهَنة في لبنان كانوا يعلّمون الأطفال اللغة من أجل أن يعرفوا كيف يقرأون الإنجيل ورسائل بولس. لكن خليل أخذ من الإنجيل أكثر من اللغة، أخذ منه المسيح وتعاليم الحرية والعدالة والمساواة. وأخذ منه التسامي في معاملة المجدلية، وطرد تجار الهيكل، ومشاركة العشّارين وأهل الربا.
بهذا المفهوم الإنساني للمسيح، ابتعد عن الكنيسة، فغضبت منه، لكنها لم تُبعده. يبدأ كتاب رفيقه ميخائيل نعيمة عن سيرته وهو ينازع على سرير المستشفى. وإذ يُبلَّغ خليل أن كاهناً مارونياً جاء يشاركه في الصلاة الأخيرة، يرفض أن يستقبله. مات أيضاً على هواه، لا ينتمي إلى أحد، أو إلى شيء، غارقاً في شرب العرق مثل أبيه، وفي العمل، بعكسه.
في سنوات “الحِرم” التي أعلن فيها تحريم الخمر في الولايات المتحدة، كان خليل يذهب إلى مطعم “الأرز” في أواسط مانهاتن. وكان صاحب المطعم يحنّ عليه، كما كان يروي السفير الراحل نبيه نصير، أحد الذين أبهرتهم ملحمة الاغتراب وعاشوا فصولاً منها في الأميركتين.
كان خليل أيضاً نتاج شيء آخر. صخور بشرّي وعواصف الثلج وفيء شجر الأرز القريب. هذا الجمال الصامت جعله رساماً منذ الطفولة، ومحاوراً للطبيعة، ومنها البحر، الذي سيُعيده إلى لبنان، ويحمله إلى باريس، داكناً في الجزء الأطلسي، أزرق في بهاء المتوسط، حيث تؤدّي الدلافين رقصات مجانية لركاب السفن.
كانت كاملة رحمة، البطلة المحورية في ملحمة خليل، ابنة كاهن يُدعى اسطفان. واسطفان كان ابن عبدالقادر، المسلم الذي جاء من بلدة قريبة، فأحبّ وتنصَّر وتزوَّج. قبل أحداث 1860 كان اللبنانيون لا يزالون يتزاوجون بسهولة ويعبرون الأديان والمذاهب دون دماء. وظلّ هذا العالم متعافياً في فكر خليل في فقر بوسطن. ثم وهو ينتقل كل يوم من ساوث إند إلى الحي الأريستوقراطي، بلاك داي، حيث سحَر الفتى الحالم النساء وأهل الفن، والتُقطت له الصورة بالعباءة العربية، وسيماً مثل أمير من الشرق وبلاد البخّور.
وعندما كبر وراح يريد أن ينسى مذلاّت الأب الذي فقَد منزل العائلة في الكسَل والعرَق، واضطرهم إلى السكن في زريبة يملكها أحد البكوات، قال خليل عن نفسه إن والده أمير من الهند. وحدَّث طويلاً وجميلاً عن قصور عائلته في الشرق.
يأخذ ميخائيل نعيمة على رفيقه وصديقه أنه كان يعيش حياة مزدوجة، ما بين كرنتينا بوسطن وحي السراسقة فيها. لكن ذلك كان خليل، أسطورة الهجرة اللبنانية الذي فرَّ من قفص الفقر، ليحلّق في سماء أميركا مثل نسر صغير ومتألّم تلاحقه المآسي. هزَم خليل أُعطياته المحدودة. تصدَّر الأدباء العرب، على رغم تحصيله المتواضع، في “الحكمة” التي أصبح أشهر تلامذتها. تصدّر رسّامي الولايات المتحدة، على رغم عامين فقط في مدرسة الفنون في باريس. تقدّم المطالبين بتحرّر لبنان وسوريا من الترك، وحلم، في جملة ما حلم، أن يعود رئيساً إلى لبنان المستقل، كما وعَده صديقه أيوب تابت.
الأهم من ذلك، أن خليل، تلميذ مدرسة كوينسي للفقراء في ساوث أند، انصرف طوال ثماني سنوات إلى كتابة “النبي” بالإنكليزية، تساعده راعية من السماء تُدعى ماري هاسكل. تحوّل “النبي” بعد وفاته إلى كنز يدرّ الأرباح على الناشر، ألفرد كنوبف، وعلى بشري، حيث أسكنهم والده في زريبة، العار الذي لم تُطقه كاملة رحمة.
بعد “النبي”، انصرف خليل إلى التأليف بالإنكليزية، لكن النغَم العربي الحزين والمتمرّد ظلّ شاخصاً في نصوصه الجديدة. لا أدري كم من الناس طبعت كتابات خليل. لعلني كنت في الثالثة عشرة، أو دونها بقليل، أو بعدها بقليل، عندما أطبق خليل على حياتي فملأها حزناً وتمرداً: “الأجنحة المتكسرة”، “الأرواح المتمرّدة”، “رمل وزبَد”، “المواكب”، رسائله إلى مي زيادة، “دمعة وابتسامة”.
أسَّس للحداثة العربية ومضى. وأسَّس لفكرة الحرية والاستقلال. ورفع اسم المهاجرين في أميركا من “توركو” إلى “اللبنانيين”. وتُرجم في ما بعد إلى لغات العالم. وتَراه في واجهات الهند. واعتبره الهندي أوشاوا واحداً من أهم عشرة بين البشر.
الفتى الذي سافر إلى بوسطن في قنباز عتيق، عاد إلى بشري في 12 نيسان 1931 في موكب لم يتكرّر في لبنان. عشرون مرة استوقف الجثمان في الطريق إلى بشري. غنّى له الزجّالون، وشقّت النسوَة صدورهن، ورقص الشبان بالسيوف والتروس، ورُشّ النعش بالعطور والزهور، ورُفعت أقواس النصر في كل مكان وعليها شيء من أقواله.
لم تنسَ مريانا، شقيقته الباقية، أن تُفاوض على شراء مار سركيس، حيث كان يحلَم دائماً أن يمضي بقية حياته. بعد 84 عاماً لا تزال الكتب تُنشر عن جبران. آخرها – على ما أعلم – مؤلّفاته بتقديم وشرح الدكتور نديم نعيمه، ابن شقيق ميخائيل نعيمة. وكان صديقه ورفيقه “ميشا” قد ألحق به بعض الظلم في الكتاب الذي وضعه عن سيرته العام 1934. وأثار الكتاب زعلاً كثيراً بين المغتربين والمقيمين. وفي كتاب الدكتور نديم بعض التعويض.
* نقلا عن “النهار” اللبنانية