تبث قناة «حزب الدعوة الإسلامية» (آفاق) أحاديثَ خطيبها وخطيب الحزب، في أيام الجُمع، الشيخ عامر الكفيشي. يطل منها بعمامته البيضاء وجبته، مدافعاً عن الإسلام ضد المدنيين، الذين حسب خطبته، يريدون بالإسلام سوءاً، وتلك نغمة قديمة جديدة، فالإسلام محتكر للإسلاميين، يفتتحون خطبهم بالصلاة والتسليم، والمستهل آية قرآنية، يعطون لأنفسهم الحق باحتكارها، كعناوين لأحزابهم، إشارة إلى «زندقة» خصومهم، فلا تكفيهم خزائن الدولة ولا الميليشيات، يريدون الدين لهم لا لغيرهم، ومن يعترض يصرخون بوجهه: «الدين يا محمد»!
اعتمر الكفيشي العمامة خارج العراق، بعد أن تخرج من الجامعة التكنولوجية ببغداد (1979)، قسم الكهرباء، وتركها إلى الدراسة الدينية، وتلك ظاهرة ما عادت غريبة ولا عجيبة، أن يتحول المهندسون إلى معممين، فمِن الذين يطرحون أنفسهم مراجع دين وتقليد اليوم كانوا قُبيل (2003) مهندسين. لم تعد الهندسة نافعة ومجدية للوجاهة مثل العِمامة، حتى مَن تنقل بين عدة أحزاب، من يسارها ويمينها، رأيناه يسير وراء شاب معمم، من سن أولاده، ولما سئل عن ذلك قال: «أحتاج لظل عِمامة»! هكذا هو الحال.
فاجأنا المهندس الكهربائي سابقاً والفقيه لاحقاً بخطبة عصماء ضد المتظاهرين، وهو عضو شورى حزب الدعوة الإسلامية، و«دولة القانون»، ومن هنا نفهم صولته ضد المدنيين الشباب، فبعد اجتياح ساحة التحرير (2011) بغزوة العشائر، والميلشيات المساندة ضد المتظاهرين في الآونة الأخيرة، أخذ يطل خطيب «الدعوة» بعمامته البيضاء مهدداً من يدعي بأن الإسلاميين يفسدون!
استهل حديثه بالآية: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ» (البقرة:11-12)، وهذا أول استغلال للدين هراوة ضد الخصوم، من دون التبصر بدلالة النص وعلى مَن يقع، فالشيخ قال: نحن المصلحون! أما المتظاهرون فلم يدعوا أنهم المصلحون، طالبوا بكشف الفاسدين، فعلى من ينطبق النص؟!
يقول الكفيشي في خطبته (12/4/2017)، المبثوثة من قناة حزبه (الدعوة)، بعد المقدمة الخاصة بالخطبة الدينية والآية: «تحدثتُ في الأحاديث السَّابقة حول طبيعة مشروع التيار المدني، الذي يهدف إلى إفساد عقول الناس، وتضليل أفكارهم وإشاعة الفوضى في البلاد، من خلال ما يطرحونه في الإعلام، وما يرفعونه من شعارات مزيفة، في تظاهراتهم التي أصبحت واضحة ومكشوفة المعالم والأهداف لجميع العراقيين، والتيار المدني يعمل بأجندة ومخططات أميركية غربية صهيونية»!
لم يأتِ كُفيشي «الدعوة» بجديد، على ما كان النظام السابق يطلقه على الخصوم، ولم يبدِ كفيشي وحزبه، في هذه التهمة، إلا تلاميذ لمَن صدعوا رؤوس العراقيين في معارضته. كم كان الكفيشي متجاوزاً على الحق عندما يضع نفسه مناضلاً ضد الأميركيين، وهو يعلم أن رئاسات وزارات حزبه الثلاث ما كانت تكون لولا رضا الأميركيين، وموائد الفسنجون (أكلة معروفة) لم يقدمها التيار المدني للحاكم الأميركي بول بريمر، بل الذي قدمها رؤساء حزبه! مع علمه وعلمنا أن أول رئيس لمجلس الحكم كان دعوياً!
قدّم خطيب «الدعوة» نفسه منافحاً عن الدين، واتخذ من شعار «باسم الدين باكونا الحرامية» مادة لاتهام الشباب المعترض على السياسات في إدارة البلاد، وعلى عظمة الفساد، وعلى نهب عقارات الدولة، وتغول «الدعوة» وبقية الإسلاميين في السلطة والثروة.
يعلم الكفيشي أن الشعار المذكور عبر عن حقيقة، ألا وهي إغراء الناخبين باسم الدين، ما لم يقدر عليه التيار المدني. يوضح الشيخ بسذاجة أن الدين يحرم السرقات ويقطع أيدي السارقين، وكأنه يخاطب بشراً لا عهد لهم بالإسلام، ونجده يعترف بحفنة، حسب وصفه، تسللوا تحت اسم الدين، وهم إسلاميون مزيفون، ويردفها بعبارة عجيبة: «تسللوا إلى مواقع السلطة من خلال العلمانية، من خلال التيار المدني».
نعم، حسب رؤية الكفيشي وحزبه، فإن الفساد في وزارة التجارة كان مدنياً لا إسلامياً! وعقاراً على شاكلة عقار جامعة البكر الضخم صار جامعة للمدنيين! وأن أحزاب التيار المدني لها فضائيات بضخامة «بلادي» و«آفاق»، وبقية الإسلاميين وجيشوهم المسلحة! وأن أصهار التيار المدني حلوا محل حسين كامل (قُتل 1996)! ومقرات «الإصلاح» وقصور الدعاة كلها من ممتلكات العراة المتظاهرين وهم يستقبلون رصاص ميليشيات الإسلاميين!
أقول: من حق الكفيشي التجاوز على الحق، لأن المتظاهرين هم من سلموا الموصل، وفتحوا بوابات السجون للإرهابيين، وسلموا أكثر من ألف شاب لمقتلة سبايكر! ورفعوا لافتة الطائفية «مختار العصر»! وظهروا بالصورة والصوت يسلمون الرشا للنخابين! وهم الذين أفسدوا القضاء!
للجواهري (ت 1997) في أحوال المتظاهرين: «همُ القومُ أحياءٌ تقولُ كأنَّهم/ على باب شيخِ المسلمين موات» (الرجعيون 1929)، وقد أمسيتم شيوخاً للمسلمين، لكم الدين والدُّنيا. وللأولين: «تعيير الإنسان صاحبه بعيبه: رَمَتْنِي بدائها وانسلَّت» (ابن عبد ربَّه، العقد الفريد).
* نقلاً عن “الاتحاد”