“حال الاتحاد” الذي راجعه الرئيس باراك أوباما مقدماً خريطة طريق إلى أولويات إدارته للسنوات الأربع المقبلة، يشكل قراءة ضرورية للقيادات الصاعدة في المنطقة العربية التي أتت إلى السلطة بوعد التغيير من أجل حق الشعب بالديموقراطية ثم أسرعت إلى الإخلال بوعدها بعدما ركبت حصان الانتخابات وقادته نحو احتكار السلطة ومصادرة الدساتير. «حال الأمم» الذي عرضه الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون قبل يوم من خطاب «حال الاتحاد»، حصر التحديات الآنية في مسألتين هما: سورية، والتغيير المناخي. وهذا يعطي فكرة واضحة عن محورية المسألة السورية في العلاقات الدولية كما في مصير سمعة الأمم المتحدة. «حال المنطقة العربية» خطاب لا يجرؤ أحد على إلقائه، لأن المنطقة العربية تمر في مرحلة انتقالية معقدة ومحفوفة بالمخاطر تتأرجح بين نفي الواقع الجديد ومتطلباته وبين الفكر الجديد الضروري الذي يضع هموم الناس وحقهم في الحياة العادية في الطليعة.
ما أبرزه الرئيس أوباما في خطابه أمام الكونغرس هو حال الاقتصاد الأميركي، وضرورة خلق فرص العمل والتدريب على المهنية، واحترام الكفاءات والاستعداد للعمل الدؤوب والصعب، قال إن «الدستور الأميركي هو الذي يصنع منا مَن نحن». تحدث عن «الصفقة» بين الشركات الكبرى وبين حقوق الطبقة الوسطى. تطرق إلى المسائل الأساسية في حياة الفرد العادي، مثل الضمان الصحي والتقاعد. طرح التعليم من الحضانة إلى الجامعة. طالب بالتصويت على مشاريع قوانين تصب في عصب ما يتطلبه المواطن الأميركي. تحدث عن حقوق «المواطن» بصفتها كلمة تصف خامة الناس لجهة ما يؤمنون به كما لجهة التزاماتهم بعضهم نحو بعض.
مثل هذا الخطاب الاجتماعي يكاد يغيب عن اللغة المتداولة في معظم خطب القيادات العربية. اللاعبون السياسيون يترفعون عن هذه البديهيات في كثير من الدول العربية.
لبنان، مثلاً، بات مستباحاً ومستهاناً، وعاصمته بيروت أصبحت «بعبعاً» مخيفاً للقادمين إليها، وبينما كانت -وما زالت في الصميم- منارة للحريات الشخصية والمتعة بالجمال، حوّلها اللاعبون السياسيون من مقصدٍ للخليجيين والأوروبيين والأميركيين وغيرهم من الأجانب الى عاصمة الخوف من الاغتيالات والخطف. أهلها يربضون رهينة اللااستقرار والقلق والاضطراب، وفيها يتفشى الفقر واليأس والإحباط بدلاً من احتلال مكانتها عاصمة للازدهار والفرحة والأمل.
تونس تخشى على نفسها من أن تتحول إلى بيروت بعدما شمّت رائحة الاغتيال. اقتصادها مهدد، لأنها -كما بيروت- عاصمة الانفتاح والسياحة والاختلاط والانخراط مع الحضارات الأخرى. أتى إليها التغيير احتجاجاً على غياب العدل، ثم داهمها الذين قبضوا على التغيير باغتيال صوت الاحتجاج على احتكار السلطة والدستور.
المرأة في تونس كانت تتمتع بأقصى درجات الحقوق في العالم العربي بسبب قوانين أدخلها الرئيس السابق الحبيب بورقيبة، وهي تجاهد اليوم ضد الذين يريدون لها أن تصبح «مكملاً» للرجل بموجب الدستور وقوانين الأحوال الشخصية.
وضع النساء في مصر أسوأ، ففي أهم دولة عربية حجماً وسكاناً وتاريخاً سياسياً، أصبحت المرأة عرضة مستباحة للاغتصاب، بل هناك من رجال الدين مَن يفتي أن ذلك مقبول، بل يجب تشجيعه، عقاباً للمرأة التي تجرأت على الخروج الى ساحة التحرير مطالبة بحقوقها المدنية، أو مشاركة في صوغ مستقبل مصر، أو رافضة لدستور يقزّمها.
الإسلاميون يخرجون في تظاهرات مضادة ليقولوا للمدنيين والحداثيين والعلمانيين «اخرسوا، فنحن من فاز بالانتخابات». هكذا يفكرون الآن، وهكذا كانوا يفكرون عندما هرول الغرب إلى احتضان ومباركة هرولتهم الى انتخابات لم تكن البلاد جاهزة لها لممارسة الديموقراطية الحقيقية، فلقد كان بديهياً أن يفوز الإسلاميون بالانتخابات التي عقدت قبل جهوزية المدنيين لها، ذلك أن امتداد الإسلاميين في البنية التحتية الشعبية تم منذ عقود، لكنهم ليسوا هم من أطلق الثورات، بل هم من ركب الموجة ثم صادرها.
أثناء جلسة علنية في المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس، ثار غضب رئيسي حكومتي مصر والمغرب عندما طُرِح سؤال حول وضع المرأة بعد الثورة والتغيير لمصلحة الإسلاميين في المنطقة العربية. عنوان الاحتجاج كان: هذه صناعة غربية نرفضها، فنحن كإسلاميين لنا صناعة خاصة بنا في هذه الأمور. لم يتوقف هؤلاء الكبار من المسؤولين للرد على السؤال، آخذين في الاعتبار ما تقوله أو تريده المرأة العربية.
بل أكثر، فردُّ رئيس وزراء مصر كان أنه متزوج وعنده خمس بنات. حسناً، هنيئاً. هذه ليست إجابة مقنعة عما يحدث للمرأة في مصر. رئيس وزراء المغرب، صاحب النكتة الجاهزة، قال ما فحواه: لا تتوقعوا منا ديموقراطية سويسرية.
المعذرة السيد بن كيران، أنت على خطأ. ما سعت وراءه حركات التغيير في المنطقة العربية ليس ديموقراطية مبتورة، ولا ديموقراطية الإسلاميين، ولا ديموقراطية مفصّلة لإملاء الرجال في السلطة أو تفسير رجال الدين الناقص وغير الصادق للشريعة. نعم، ما سعى وراءه شباب الانتفاضة العربية -رجالاً ونساء- هو ديموقراطية لا تقل عن الديموقراطية السويسرية أو الديموقراطية الجفرسونية.
بان كي مون وقع في الفخ عندما ألقى خطاب حال العالم أمام مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك. قال إن الناس في المنطقة العربية يريدون «التغيير الحقيقي» إنما هذا التغيير لن يكون «جفرسونياً أو سويسرياً». عذراً السيد الأمين العام، قل للذي -أو التي- نصحك بهذه الجملة من مستشاريك أو كبار موظفيك أن في الأمر إهانة، فوعد التغيير هو وعد الديموقراطية من دون أن يُعاد تفصيلها لتتلاءم مع احتياجات الإسلاميين في السلطة. وإذا قال لك أحدهم إن هذه عملية تدريجية، قل إنك كأمين عام لست معنياً بالتدريجية وخياطة ديموقراطية تلائم من هم في السلطة اليوم. إنك معني بالديموقراطية كمبدأ لا كعباءة، فلا تأخذ موقفاً ضد المدنيين والحداثيين الذين يريدون ديموقراطية واضحة وصادقة ومدونة في الدساتير.
بان كي مون كان في بداية «الربيع» العربي -الذي يدخل الآن سنته الثالثة – متحمساً جداً للتغيير الذي أسدل عليه قيادة أخلاقية، مصرّاً على صحة التغيير، بمعنى إسقاط الوضع الذي كان سائداً أولاً، ثم نرى. راهن على ما اعتبره رغبة الشعوب بالتغيير، رفض الإصغاء للذين حذّروه مما قد تأتي به الهرولة والاحتضان الغربي الحميم للقوى السياسية الإسلامية التي سعت وراء السلطة لعقود. لعب دوراً مهماً في تمكين الإسلاميين بقليل من المحاسبة والمراقبة والإصرار الدؤوب على الشفافية. لم يتحسب لما هي أجندة الإسلاميين في السلطة أو للرد الروسي على الإقبال الغربي المفرط على الإسلاميين. وهكذا، دفعت سورية الثمن.
هكذا، وفي سورية، بدأ التراجع عن ذلك الحماس الشديد الذي رافق عملية التغيير في ليبيا. وبالطبع، إن انقسام مجلس الأمن وإصرار روسيا والصين على استخدام الفيتو ثلاث مرات له وطأة على الأمين العام للأمم المتحدة، وإن انحسار الاهتمام والوضوح الأميركيين في الشأن السوري -والإيراني وراءه- يقيّد ما في وسع الأمين العام للأمم المتحدة القيام به.
لكن هذا لا يلغي، في نهاية المطاف، واقعين أساسيين وسؤالين مهمين هما: أولاً، هل ما أسفر عنه الربيع العربي أدى إلى قيام بان كي مون بمراجعة الذات، وهل استنتج أن الوضع الراهن اليوم يتطلب منه مساهمة بالجرأة نفسها وبالزخم نفسه لمصلحة المدنيين والحداثيين الذين يسعون وراء تصحيح اعوجاج الإسلاميين في السلطة؟ وهل مع ما وصلت إليه الجهود الدولية التي يقودها ممثله القدير الأخضر الإبراهيمي، مِن قفزٍ على «عقدة الأسد» لدى اللاعبين الدوليين والإقليميين والمحليين مع وصول عدد القتلى إلى 70 ألفاً، سيصر الأمين العام على أفق للزحف الى المفاوضات لا يتجاوز 100 ألف؟
بكلام آخر، إن ما تتباهى به الأمانة العامة للأمم المتحدة هو إنجاز أمرين في المسألة السورية: أولاً تحييد «عقدة الأسد» عن المفاوضات، أي ضمان التراجع عن شرط تنحي الرئيس السوري بشار الأسد عن السلطة كمدخل للمفاوضات. وهذا التراجع/ الإنجاز محلي وإقليمي ودولي، بمعنى أن لا المعارضة ولا الدول الغربية ولا الإقليمية تصر عليه الآن، بل إن المعادلة الآن تقوم على مفاوضات بين النظام والمعارضة بتخطي «عقدة الأسد». وثانياً، أن الأمم المتحدة، أمانةً عامة ومجلسَ أمن بأعضائه المهمين، باتت ناطقاً رسمياً باسم الحل السياسي قطعاً، وليس الحل العسكري، بمعنى، أن ما تم «إنجازه» هو إبطاء المساعدات العسكرية إلى المعارضة السورية.
السفير الفرنسي إلى الأمم المتحدة، جيرارد آرو، رأى أن هذا الافتراض خاطئ في صميمه، لأن الذي سيقرر المصير السوري هو ساحة القتال، معتبراً رهان الأخضر الإبراهيمي على التوافق الأميركي-الروسي خاطئاًَ. آرو ليس وحده في هذا التقويم، إذ إن هناك ذبذبات صادرة عن أجواء الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن، أنها مستاءة من تحجيمها إلى مجرد ملحق للتوافق الأميركي-الروسي. هناك معلومات عن استدراك أميركي لهذا التوجه احتواءً للاستياء. وعلى أي حال، إن الديبلوماسية الروسية الراغبة أن تُعاد معادلة القطبين الرئيسيين، كما في عهد الحرب الباردة، غير راضية على ما تعتبره «تجاوزاً» لصلاحيات الممثل الخاص بقوله إن الرئيس السوري ليس طرفاً في المرحلة السياسية الانتقالية.
خلاصة الأمر أن التحدي الأكبر هو السباق بين الجثث السورية وبين المواقف الدولية المتأرجحة بين «الفيتو» و «المفاوضات».
الأمين العام للأمم المتحدة ليس بمفرده المسؤول عن المواقف الدولية بل انه يزحف بقدر المستطاع في ظل مجلس الأمن. بإمكانه بالطبع أن يمارس صلاحية أعطاها له الميثاق، بأن يتوجه الى المجلس بدعوة منه لعقده ويتقدم بما لديه من توصيات وإصرار. الجمعية العامة للأمم المتحدة قادرة أيضاً أن تضع أفقاً زمنياً وتكف عن الاختباء في ظل مجلس الأمن، إذ إن لديها أيضاً صلاحية بموجب الميثاق تجعلها قادرة على الانعقاد واتخاذ قرارات ملزمة تحت عنوان «الاتحاد من أجل السلام»، فليس صحيحاً أن لا مجال آخر ولا خيار سوى الاستسلام لما يريده مجلس الأمن.
هنا، وعودة الى خطاب الرئيس الأميركي حول «حال الاتحاد»، فإن ما جاء فيه حول الانسحاب والتراجع الأميركي عن حروب الآخرين لا يشكل بالضرورة بُعد نظر، وإنما يشكل انزواء مخيفاً ردوده ستكون مكلفة للأميركيين وليس فقط للآخرين.
فالرئيس الأميركي اعتبر سحب 34 ألف جندي أميركي من أفغانستان إنجازاً، لكنه لم يقل للأميركيين ماذا سيفعل عندما تنتقل عدوى «طالبان» والتطرف الإسلامي الى باكستان. قال: «لا داعي لنا للاحتلال» في شمال أفريقيا في الحرب على «القاعدة»، لكنه لم يقل كيف ستختلف حربه عن حرب سلفه جورج دبليو بوش ضد الإرهاب. تحدث عن قيام الحلفاء بشن الحروب بالنيابة، كما تفعل فرنسا في مالي، لكنه لم يشرح ماذا سيفعل في حال قالت له فرنسا: تفضل إلى المعركة. قال إنه يدعم المعارضة السورية ولم يقل كيف، بعدما تراجع عن المطالبة بتنحي النظام. تعهد بالقيام بما هو «ضروري لمنع إيران من الحصول على السلاح النووي» وترك الأمر غامضاً.
إنه زمن الاختباء وراء الآخر وزمن الاختباء وراء الغموض اللابنّاء، وهذا أسوأ استثمار في الساحة الدولية والأميركية والعربية على السواء، على صعيد الاستراتيجيات البعيدة المدى كما على صعيد الحقوق الأساسية الممتدة من الحق في الحياة الطبيعية الى الحق في المساءلة حول جدوى سياسات انتقالية قصيرة النظر عواقبها وخيمة على الجميع أينما كانوا.
*نقلاً عن “الحياة” اللندنية