عبد القادر أنيس
هذه هي المقالة الثانية عشر والأخيرة حول كتاب محمد الغزالي ” حقوق الإنسان بين تعاليم الإسلام وإعلان الأمم المتحدة”.
يحاول الغزالي في هذا الفصل أن يقدم لنا الغزالي عصارة (عقله) في شكل منافحة كلامية فضفاضة لا يقدر عليها إلا أصحاب لغة الضاد من الإسلاميين، لإبراز ما زعمه من أهمية عظيمة أولاها الإسلام للعلم، لكن مسعاه أفضى به إلى سرد ترهات ما كانت لتستحق الانتباه لولا سلطة هذا الرجل الفقهية و(العلمية) عندما كان حيا وبعد مماته، في الأوساط التعليمية والمؤسسة التي أقيمت لتقديم العلم والمعرفة للناس وما ساهم به في هيمنة الحركة الأصولية الإسلامية المعاصرة في تقهقر مجتمعاتنا في جميع الميادين.
إن العلم عند شيخنا يتحول إلى عبد مطيع بل ودمية لا حياة فيها في ساحة الدين، ليس أمامه سوى الخضوع لأوامره ونواهيه والوقوف عند الحدود التي رسمت له منذ أربعة عشر قرنا. لم يكفِ رجال الدين عندنا أن فرضوا مادة التربية الإسلامية في جميع مراحل التعليم وفي مختلف وسائل الإعلام بعد أن غزوا مثل الجراد كل المؤسسات التعليمية والفضائيات ومواقع انترنت، بل إن المناهج ودروس الفيزياء والكيمياء والعلوم الطبيعية والرياضيات والتاريخ والجغرافيا والأدب واللغة لم تعد نظرياتها ونتائجها بمقبولة إلا إذا زكتها الآيات والأحاديث ومنحتها علميتها. بل حتى الحواسيب بوصفها معجزات القرن قد شحنوها بمعجزاتهم الوهمية فصارت تفتح بالسلام عليكم وتغلق بـ “في أمان الله”.
من هنا تبرز خطورة هذا الفكر الإسلامي على مصير مجتمعاتنا وعلى عقول ناشئتنا، كما وتبرز أهمية كشف تهافته في سبيل تخليص من ضللهم هذا الفكر.
نقرأ للشيخ في هذا الفصل (ص ص 145-158): “إن البلادة الفكرية رذيلة نفسية قد تكون أخطر من بعض المعاصي الشائنة ومن ثم رأينا القرآن الكريم يلفت الإنسان إلى ما حوله كيف يعرف خصائصه وعجائبه، ثم ينتقل من ذلك إلى معرفة من صاغه وأبدعه…” وهو ما يعني أن الهدف النهائي الذي يتوجب على إنسان هذه البلاد البائسة هو ” معرفة من صاغه وأبدعه…” وليس المساهمة في المجهود الإنساني الجبار لحل مشاكل البؤس والمرض والجهل وكل ما ساهم ولا يزال يساهم في عذابات هذا الإنسان رغم ما تحقق من الإنجازات العظيمة على يده في مسيرة شاقة رهيبة دامية في غياب بركات كل القوى الغيبية التي ادعتها الأديان لآلهتها منذ القدم.
الغزالي ها غير صادق حتى مع دينه، بل هو يتعمد المغالطة والانتقائية والخداع عندما يقول: ” إن البلادة الفكرية رذيلة نفسية قد تكون أخطر من بعض المعاصي الشائنة”، ذلك أن الإسلام منذ فجره الأول لم يرحب بالذكاء الإنساني وشجع هذه “البلادة الفكرية” رغم كثرة كثيرة من الآيات التي تدعو إلى التدبر والتأمل واستخدام العقل تميزت بها الفترة المكية خاصة. فمؤسس الإسلام سرعان ما ضاق ذرعا بالأسئلة الذكية وعمل ما بوسعه لكي يبقى هو المصدر الوحيد للمعرفة إلى الأبد. وهو ما نلمسه من مفهوم الآية “لا تسألوا عن أشياء إن تُبْدَ لكم تسؤْكم” أو حديث “إذا ذُكِرَ الجدلُ فقوموا ما”. ولعل السبب يعود إلى محدودية محمد المعرفية خاصة بعد أن استقر في المدينة يثرب وما بها من يهود يعرفون جيدا تاريخ الأديان الإبراهيمية ويلمون بالثقافة العامة السائدة يومئذ. بل لعل هذا ما يفسر حقده ضدهم أدى إلى تصفيتهم من المنطقة عندما تمكن من ذلك ثم توريثه إيانا هذا الحقد ضد كل من يخالفنا الرأي والمعتقد والمذهب وخاصة اليهود الذين ينسب إليهم المسلمون ببلاهة منقطعة النظير كل مصائبهم وخيباتهم ماضيا وحاضرا. ولعل هذا ما يفسر أيضا قول عمر: “اللهم ألهمني إيمان العجائز”. والذي تحول فيما بعد إلى حرب حقيقية شنها رجال الدين على الفلاسفة والمناطقة والمتكلمين ومن من حاول الخروج من إيمان العجائز، وأخيرا على الحضارة الحديثة التي ما كانت لتحقق ما حققت لولا أنها شقت عصا الطاعة ضد الأديان وحررت العقل من سجونه.
محدودية مؤسس الإسلام المعرفية بسبب محدودية المستوى المعرفي لبيئته الأمية البدوية الصحراوية يومئذ أدت إلى اكتظاظ القرآن بمعارف خاطئة عن الأرض والسماء والكواكب والنجوم، فاعتقد أن الإنسان هو مركز العناية الإلهية وأن كل ما خلق الله مسخرله مثل هذه الآية التي أوردها الغزالي للتأكيد على هذه (الحقيقة):
“وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون” الأنعام 98.
سذاجة هذه المعرفة التي يعلي الغزالي من شأنها ويجعلها ندا للعلم الحديث بل يطالب أن يظل العلم تابعا لها مستهديا بها، بادية لمتعلمي اليوم ممن رفعت غشاوة الجهل عن عقولهم، بعد أن صاروا يعرفون أن الكون بنجومه وكواكبه موجود قبل ملايير السنين من وجود الإنسان على الأرض ولا علاقة لحركتها به، بل إن الأرض نفسها لا تعدو أ، تكون ذرة فيه.والصحيح هو أن الناس هم من استنبط ذلك من ملاحظة انضباط حركتها قوانين ساعدته فعلا على الاهتداء بها قبل اختراع البوصلة مثلا كما اكتشف مع الزمن علوما زادت من قدرته على تسخير هذه القوانين لصالحه .
كذلك تبدو سذاجة الصورة التي يرسمها القرآن للأرض والسماء بليدة لا ترقى حتى إلى علوم اليونان والصينيين والهنود قبل مئات السنين من ظهور الإسلام بله علومنا المعاصرة. الكون في القرآن يختصر في سبع أراضين وسبع سموات طباقا (كانتا رتقا ففتقناهما) والسماء الدنيا عبارة عن قبة مرفوعة فوق أرضنا “بغير عمد ترونها” بعد أن زينها الله بالنجوم والشمس والقمر. وهي فوق ذلك “سقف مرفوع” سميك لا يمكن اختراقه إلا بسلطان وهو ما يفهم من شرح الآية “يا معشر الإنس والجن..”، أما النيازك التائهة القادمة من الفضاء الخارجي المرتطمة بكل ما صادفها من كواكب ونجوم بما فيها الأرض فهي في ذهن محمد وعصره شهب جعلها الله “رجوما للشياطين” التي تحاول الاقتراب من السماء التحتية.
مع ذلك يقول الغزالي: “ومن هنا كان العلم والدين متلازمان، بل إن أحدهما – في منطق القرآن الكريم- سبب ونتيجة للآخر. ص 146”. ولا بد أن يكون العلم تابعا للدين في ذهن الشيخ.
طبعا المتتبع لتاريخ الأديان يعرف أن الدين والعلم في فجر التاريخ كان متلازمين. بل كانا عبارة عن معرفة واحدة تمتزج فيها الخرافة بالحقيقة آمن بها الإنسان وهو يجتهد لمعرفة غوامض الطبيعة، فنسب ما كان يعجز عن تفسيره لقوى غيبية تقف وراء مظاهر الطبيعة المخيفة لكن هيمنة الدين بصفته المتعالية وعقائده الجامدة قد عرقل العلم وعاداه دائما وخاصة بعد أن بدأ العلم يستقل عن الدين بل ويشك في معارفه المتكلسة مما أدى إلى نشوب صراعات مريرة بين المؤسسات الدينية والعلماء كثيرا ما كانت تفضي إلى اضطهاد العلماء إرهابا ونفيا وحرقا لهم ولكتبهم بالإضافة إلى ما تسببت فيه من عرقلة لمسيرة الإنسانية المعرفية.
نحن اليوم نعرف أن الزلازل ظاهرة جيولوجية تتسبب فيها حركة تدافع القارات خاصة، لكن التصور الإسلامي للزلازل وغيرها من الظواهر الطبيعية أبعد ما يكون عن العلم وهو ما يعرفه الغزالي طبعا. ففي رواية: ” عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته ولكنهما آيتان من آيات الله عز وجل يخوّف الله بهما عباده فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة”. وأنا أتذكر هنا كيف احتفل العالم قبل عدة سنوات بالكسوف الكلي للشمس بينما جرى عندنا في الجزائر الحجر على الصغار في البيوت بعد أن أغلقت الأبواب والنوافذ وتعطلت المدارس وهرع الرجال إلى المساجد وتعال البكاء والعويل رغم أن الكسوف عندنا كان جزئيا !!!
و”في خلافة عمر بن عبد العزيز حدث زلزال فكتب إلى عماله (ولاته) في البلدان وأمرهم أن يأمروا المسلمين بالتوبة إلى الله والضراعة إليه والاستغفار من ذنوبهم. إنه ما نزل بلاء إلا بذنب، وما رُفِع إلا بتوبة، وصنائع المعروف تطفئ غضب الرب، والواجب على المؤمنين أن يكونوا على وِجلٍ من ذنوبهم كما قال الحسن البصري رحمه الله إن المؤمن لا يصبح إلا خائفاً ولا يصلحه إلا ذاك”. (أي الخوف).
“وأكدَ أحد المفكرين الإسلاميين المعاصرين أن هذه الزلازل “لا شك أنها نذر وعقوبات، وفيها عبر وعظات، ودلالة على قدرة الله الباهرة، حيث يأذن لهذه الأرض أن تتحرك بضع ثوان أو دقائق فينتج عن ذلك دمار وهلاك وربما رعب وفزع، لعل الناس يراجعون أنفسهم لعلهم يتوبون، لعلهم يستغفرون. لعلهم يتضرعون ويكثرون من العبادة.. الخوف والخشية والإنابة والإقلاع عن معاصيه والندم، كما قال بعض السلف لما زلزلت الأرض: “إن ربكم يستعتبكم (من العتاب).”
http://www.saaid.net/Minute/285.htm
المتتبع للتراث الإسلامي قديما وحديثا يجد كما هائلا من هذه الترهات البليدة ومع ذلك يقول شيخنا الغزالي: “والمجتمع الذي يلده الإسلام أو يولد فيه الإسلام، هو المجتمع الذي يسود فيه جو صحو من الدراسات الأصيلة الحرة. ينمو فيها العقل الإنساني وتتوطد فيه أواصر الصداقة بين الإنسان وبين ما في العالم من عناصر قوانين”.
فأين هذا الصحو وهذا العقل الإنساني الذي تتوطد فيه أواصر الصداقة بين الإنسان وبين ما في العالم من عناصر قوانين” عندنا منذ قرون؟ بينما واقع المجتمعات العربية الإسلامية عموما لا يعكس هذه المزاعم بل لا يزال المسلم يترعرع ضمن هذه التربية الترهيبية التي تنتزع منه ملكة الفضول والشك بوصفهما من خاصيات البحث العلمي والإبداع والابتكار.
لكن الغزالي لا يهمه الواقع في شيء، وهو يحسب أوهامه واقعا ملموسا لهذا نراه يكتب يسذاجة متناهية: “ما هي الميزة التي جعلت كفة آدم ترجح على غيره وجعلت الملائكة تشعر بتفوقه؟ ص 145.
ويجيب بثقة عمياء: “لقد أجاب (يقصد آدم) عن السؤال الذي عجز الآخرون عنه. عرف أسماء كل شيء وتبين أن له عقلا يدرك به ما حوله من مخلوقات.. “.
فأي فضل لآدم أو لعقله إذا كان الله هو الذي (علمه الأسماء كلها) ولم يعلمها الملائكةَ؟ هل يعقل أن يصدر هكذا سؤال عن ذي عقل؟
وتبلغ السذاجة أوجها في شرح ابن كثير لآية ” وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ” وهي الآية التي قصدها الغزالي ليشيد، بغير حق، بموقف الإسلام من العلم والعقل لكنه يتعمد الانتقائية والخداع. لنقرأ مثلا شرح ابن كثير لها: “هذا مقام ذكر الله تعالى فيه شرف آدم على الملائكة بما اختصه من علم أسماء كل شيء دونهم وهذا كان بعد سجودهم له… قال: علّمه أسماء ولده إنسانا إنسانا والدواب، فقيل: هذا الحمار هذا الجمل هذا الفرس… قال علمه اسم الصحفة والقدر. قال: نعم، حتى الفسوة والفسية (؟) …وقال مجاهد: وعلم آدم الأسماء كلها. قال: علمه اسم كل دابة وكل طير وكل شيء. وكذلك رُوي عن سعيد بن جبير وقتادة وغيرهم من السلف أنه علمه أسماء كل شيء وقال الربيع في رواية عنه: أسماء الملائكة . وقال حميد الشامي: أسماء النجوم . وقال عبد الرحمن بن زيد: علمه أسماء ذريته كلهم . …عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ” يجتمع المؤمنون يوم القيامة فيقولون لو استشفعنا (طلبنا الشفاعة) إلى ربنا فيأتون آدمَ فيقولون: أنت أبو الناس خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء فاشفع لنا إلى ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا. فيقول: لست هناكم ويذكر ذنبه فيستحي. ائتوا نوحا فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض . فيأتونه فيقول: لست هناكم ويذكر سؤالَه ربه ما ليس له به علم فيستحي . فيقول: ائتوا خليل الرحمن (إبراهيم) فيأتونه فيقول لست هناكم . فيقول ائتوا موسى عبدا كلمه الله وأعطاه التوراة فيأتونه فيقول: لست هناكم ويذكر قتل النفس بغير نفس فيستحي من ربه . فيقول: ائتوا عيسى عبد الله ورسوله وكلمة الله وروحه فيأتونه فيقول: لست هناكم. ائتوا محمدا عبدا غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فيأتوني فأنطلق حتى أستأذن ربي فيأذن لي فإذا رأيت ربي وقعت ساجدا فيدعني ما شاء الله ثم يقال: ارفعْ رأسك وسَلْ تُعْطَهُ وقل يُسْمَعْ واشفع تُشفع فأرفعُ رأسي فأحمده بتحميد يُعَلَّمُنِيه ثم أشفع فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة ثم أعود إليه فإذا رأيت ربي مثله ثم أشفع فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة ثم أعود الثالثة ثم أعود الرابعة فأقول ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن ووجب عليه الخلود. هكذا ساق البخاري هذا الحديث”.
فعلا هذه المعرفة الساذجة لا تليق إلا بإيمان العجائز، وهو إيمان كبل عقول الناس حتى وجدوا فيها إعجازا تُلَقِّنُهُ مؤسساتُنا التعليمية في جميع مراحل التعليم لناشئتنا، وتعقد له الجامعات مؤتمرات ترصد لها الملايين لبحث الإعجاز العلمي في القرآن بينما هم يتطفلون على موائد الغربيين من الباحثين والعلماء الحقيقيين. وهي معرفة لا علاقة لها بنشوء اللغات على الأرض كما استنتجها علماء اللغة من دراسة تطور اللغات.
ثم يقول الغزالي: “فمن عرف الحياة وتأدَّى منها إلى الإيمان بالخالق الكبير فهو إنسان، أما من لم يعرف هذا العالم أو عرفه بطريقة مقلوبة لا تصله بالله فهو حيوان أو شيطان” مسترشدا بآية: “إن شر الدواب في الأرض الذين كفروا فهم لا يؤمنون” الأنفال 55.
هكذا يتجلى العقل الإسلامي على حقيقته عند الشيخ بعد أن سَوَّدَ عشرات الصفحات حول حقوق الإنسان في الإسلام والتي جعلها أرقى من حقوق الإنسان كما صاغتها الحضارة الحديثة.
لكن من يعتقد مثله بأن “الدين- كما جاء من عند الله- هو الخلاصة النقية السهلة التي جمعت الحق كله في أسلوب من القول بعيد عن اللغو والتعقيد وهو الهدى المغني عن تجارب الخطأ والصواب ومتاعب العثور والنهوض” لا بد أن يكون له هذا الموقف العنصري المقيت.
فلماذا لم يهضم المسلمون هذه ” الخلاصة النقية السهلة “؟ ولم تعصمهم هذه ” الخلاصة النقية السهلة” عن الوقوع في لتلك الفتن والأهواء والأنانيات حتى عندما كان نبي الإسلام بينهم (يتلقى الوحي من الله مباشرة)، أما بعد أن رحل عنهم فلم تتوقف صراعاتهم الدموية إلى يوم الناس هذا؟ رغم “الخلاصة النقية السهلة التي جمعت الحق كله” التي وضعها الله بين أيديهم، وزودهم بـ” الهدى المغني عن تجارب الخطأ والصواب ومتاعب العثور والنهوض”.
ويتمادى في هذه الحماقات وهو يكتب بتبجح زائد: “والواقع أن الله لما ارتضى لنا الإسلام دينا أراحنا من عنت المشي في الظلام والتردي في هاويات الأهواء والأوهام”. يقول هذا وكأن العالم الإسلامي لم يمر بفترة انحطاط مظلمة طويلة تواصلت قرونا ولا تزال.
ولا شك أن خضوع الناس في هذا العالم الإسلامي البائس لهذا الحقن الأيديولوجي النرجسي قد تسبب في نفورهم من البحث والإبداع وركونهم إلى الزهد والقناعة والرضا بالقضاء والقدر خيره وشره لأن الدنيا متاع الغرور، ووقوفهم ضد المفكرين الذين حاولوا الخروج من هذه الشرنقة مثل المعتزلة والفلاسفة قديما والذين مازال الغزالي يناصبهم العداء حتى في كتابه هذا رغم تبجحه بحرية الفكر المطلقة التي منحها الإسلام كما قال، وضد كل الأفكار الجديدة في العالم بوصفها أفكارا مستوردة ما أنزل الله بها من سلطان، تريد بالإسلام شرا.
ويكتب: “إن الإيمان بالله هو أساس الفضائل ولجام الرذائل وقوام الضمائر وسند العزائم في الشدائد وبلسم الصبر عند المصائب….” 153.
ويكتب: “فالذي لا ريب فيه أن القرآن معصوم من الخطأ، وأن آياته هي لباب الحق وأن الاهتداء بها منار يقود إلى الدنيا والآخرة”.
الغزالي بكلامه هذا يضعنا أمام خيارات عويصة مضحكة مبكية ونحن نشهد هذا الانحطاط المستفحل في بلادنا وفي جميع المجالات وعلى رأسها الأخلاقية:
إما أن ما يقوله صحيح، وهو ما يقودنا مباشرة إلى الحكم على شعوبنا وعلى رأسها متعلموها ونخبها بالبلادة الذهنية التي تقترب من العته والجنون لأن المسلمين بين أيديهم الدواء الشافي والحل المثالي لكل مشاكلهم بوصفهم أصحاب دين ” هو أساس الفضائل ولجام الرذائل وقوام الضمائر وسند العزائم في الشدائد وبلسم الصبر عند المصائب….” وبين أيديهم كتاب جامع شامل مانع ” معصوم من الخطأ، وأن آياته هي لباب الحق وأن الاهتداء بها منار يقود إلى الدنيا والآخرة”. ومع ذلك لا يعملون به ولا يستفيدون منه وقد بلغ بهم الأمر درجة جعلتهم عاجزين عن تحقيق أمنهم القومي والغذائي والدوائي وحتى المائي بعد أن مروا بانحطاط طويل انتهى باستعمار بلدانهم.
وإما أن حالهم كحال المريض الذي التزم ببلاهة ما وصف له من دواء فراح يحقن بدنه وعقله به دون جدوى لأن الدواء الموصوف لا علاقة له بالمرض المشخص ولأن الطبيب مدلس.
ماذا نختار لحالنا؟ هل نحن معتوهون لا نعرف ما ينفعنا وما يضرنا أم نحن ضحية طبيب مزيف ودواء مغشوش؟
وفي كلتا الحالتين، نحن لسنا بخير بسبب هذا الفكر البليد الذي تحالف على فرضه علينا حكام الاستبداد ورجال الدجل الدين على طراز شيخنا.