يمضي السيناريو كما كان متصوَّراً ومتوقّعاً، وما تحقّق منه في اللحظة الراهنة أمران: الأول، أن النظام لم يعد له قرار في ما يتعلّق بمستقبل سورية سواء كان يعمل للتقسيم أم لا، وأن المعارضة أُنهكت ووُزّعت على معازل ولم تعد قادرة على الدفاع عن وحدة سورية. والآخر، أن روسيا تتولّى التنسيق مع الولايات المتحدة من جهة، ومع إيران وتركيا من جهة اخرى، لرسم خرائط «مناطق النفوذ» وحدودها، ولتحديد الأطراف المقبولة أو المرفوضة فيها.
منذ بداية ولاية دونالد ترامب لم يُسجّل لأي مسؤول سياسي أو استخباري أي موقف يحذّر من تقسيم سورية على غرار ما فعل الوزير السابق جون كيري أو المدير السابق لـ «سي آي اي» جون برينان. وبدلاً من استراتيجية أميركية «جديدة» في شأن سورية كانت مرتقبة بها منذ ايار (مايو) الماضي، تبدو واشنطن مكتفية باتفاقات تكتيكية مع موسكو، ولو متقطّعة ببعض التوتر والاستفزاز من الجانبين. والثابت أن هناك قبولاً أميركياً بدور روسيا من دون الجهر بإطلاق يدها في سورية، وفي المقابل هناك قبول روسي متفاوت الدرجة بدور أميركا، فهو مشروط بالنسبة الى محاربة «داعش» في الرقّة، وغامض في دير الزور، وغير محسوم حيال خطّة أميركية – (اسرائيلية؟) لـ «مناطق آمنة» في جنوب سورية. الثابت أيضاً أن مستوى التنسيق بين تركيا وروسيا ينمو باستمرار اذا صحّ أنهما ستتشاركان السيطرة على ادلب والريف الشمالي الشرقي لحلب، فيما يشهد التفاهم بين تركيا والولايات المتحدة تراجعاً مطّرداً. لكن خلاف روسيا مع الجميع، أميركيين وعرباً وإسرائيليين، يتعلّق بالدور الإيراني المتوسّع في سورية. ولم يصدر عن الروس سوى اشارات ايجابية تجاه الإيرانيين، اذ اعتبروا أنهم موجودون مثلهم بدعوة من «الحكومة الشرعية»، ومثلهم «يحاربون الإرهابيين (بالأحرى معارضي النظام)» ويساعدون نظام بشار الأسد على البقاء والصمود. وفيما نأت موسكو بنفسها عن النزاع الإيراني – الإسرائيلي، مطمئنّة الى أنها وإسرائيل متّفقتان في دعم بقاء نظام الأسد، إلا أن التنسيق الإستراتيجي بينهما أعطى اسرائيل ترخيصاً لتوجيه ضربات لـ «حزب الله» والميليشيات الاخرى التابعة لإيران في أي موقع سوري، وهي ضربات تحقّق أحياناً أهدافاً روسية غير معلنة. وفي الردّ على الاحتجاجات العربية، تشير موسكو الى واقع أن الدولتَين العربيتَين المحاذيتَين لسورية (العراق ولبنان) هما تحت الهيمنة الإيرانية، لكنها ومن موقع مسؤوليتها الدولية لا تبدي رأياً في ما يخصّ الحدود السورية مع هاتَين الدولتَين، مع علمها أن الحدود من لبنان باتت تحت سيطرة إيران – «حزب الله» امتداداً الى دمشق وحمص، ومن الجانب العراقي يضاعف الإيرانيون جهودهم تحت غطاء «الحشد الشعبي» لاختراق الحدود وتكريس حال احتلالية ناجزة لما يسمّى «سورية المفيدة».
لم تكن موسكو قادرة، وهي تحاول تسويق مناطقها الأربع لـ «خفض التصعيد»، على الدفاع عن «قوات النظام» وهي تقترب من حدود الاردن في درعا أو من حدود اسرائيل في القنيطرة. فهذه ليست «قوات النظام» بل ميليشيات تابعة لإيران، وليس لدى النظام سوى أعداد قليلة العدد يفرزها لتغطية تلك الميليشيات. كذلك لم تكن موسكو قادرة على اطالة وقف التنسيق الجوي مع الأميركيين الذين أسقطوا طائرة «سوخوي 22» للنظام حين حاولت مؤازرة «قوات النظام» في هجمات على «قوات سورية الديموقراطية» التي تقاتل «داعش» في الرقّة بتكليف وحماية أميركيَين. ولم يُسمع أي تعليق روسي على وقائع ثلاث مهمة: تزايد الاحتكاكات بين الأميركيين والإيرانيين، وإطلاق إيران صواريخ من أراضيها على دير الزور، والغارات الاسرائيلية على «قوات النظام» في القنيطرة.
ربما تعتقد روسيا أن كل ما يجري معارك جانبية لا تمسّ مصالحها، فهي توزّع الأدوار وتديرها، تسهّلها أو تعرقلها وتكبحها، وهي متحكّمة بقرار النظام في النزاع الداخلي وبتحرّكات المعارضة عبر تركيا وقطر، ولم يحدث أن أقلقها الدور الأميركي المقتصر على محاربة «داعش» بل لعلها باشرت منافسته بضرباتها الصاروخية وإعلانها قتل ابي بكر البغدادي، أما النفوذ الإيراني فتتعايش معه كأنه مجرد دفاع عن مصالح في سورية متغاضيةً عن كونه جزءاً من مشروع توسّعي. لذلك يبقى الأهم عندها أن تواصل الإيحاء بأنها تمسك بمفاتيح حل الأزمة عسكرياً وسياسياً، اذ ربطت حركة مسار جنيف بتقدّم مسار آستانة، لكن خططها تفتقد وجود قوات لها على الأرض، بل تعاني من تعويلها على القوّة التي توفّرها ميليشيات إيران ميدانياً ولو لم تكن تحت سيطرتها، وتعاني خصوصاً من اخفاقها في اعادة بناء الجيش السوري وتوحيده. كان يمكن هذا المشروع أن يمحض روسيا صدقية، والأهم أنه كان يمكن أن يكون ورقة محورية في إنجاز حل سياسي وإحباط تقسيم سورية الذي أصبح مشروعاً إيرانياً.
كان الروس أسّسوا الفيلق الخامس وروّجوا أنه إطار معدّ لاستيعاب فصائل وميليشيات شتّى، لكنه يبدو اليوم وفقاً لأحد ضباطه (في رسالة فايسبوكية موجّهة الى الأسد) «أسوأ تشكيل مقاتل»، إذ يشكو من العتاد والخطط «الفاشلة» ومن اهانات القادة الروس والنيران الصديقة التي تقتل ضباطاً من الفيلق الذي خاض معارك حاسمة في تدمر وحماة. أما الفيلق الرابع، الذي كان يُفترض أن يلمّ الشراذم الميليشياوية التي أنشأها ضباط علويون في اللاذقية ومناطق الساحل، فلم يتمكّن من هدفه، لأن «قوات النمر» و «مغاوير البحر» و «صقور الصحراء» و «درع الأمن العسكري» وغيرها رفضت الإنضواء فيه، مفضّلةً بقاءها منفلتة لممارسة السلطة والنفوذ (تعفيش، تشبيح، خوّات…). هذه الشراذم تنشط محتمية بقاعدة حميميم الروسية وهي التي نظّمت قبل أيام مسيرات تتحدّى قرارات بالحد من امتيازات الضباط ومحاسبة الفاسدين، وكان الأسد أعلن شخصياً هذه القرارات خلال ترؤسه للمرة الأولى منذ فترة طويلة جلسة لحكومته مخصّصة لـ «الاصلاح الاداري»، لكن المتمرّدين ذكّروه بأنهم ينفّذون قوله سابقاً إن «سورية لمن يدافع عنها». وقد أثبت الروس والإيرانيون أن ذلك القول يسري أيضاً عليهم، اذ دافعوا عن النظام واستأثروا بسورية.
ما الذي أيقظ الأسد على سيرة «الاصلاح الاداري»؟ رسائل كثيرة من دول غربية على اتصال بروسيا تجاوزت مسؤوليته عن جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية الى عدم التشكيك بـ «شرعيته» مع استعداد للاعتراف بها (كما فعل الرئيس الفرنسي الجديد)، ومع ذلك أشارت الى صعوبة وحتى استحالة العمل مع «دولة فاشلة». لكن استفاقة الأسد متأخرة جداً، صحيح أن نظامه لم يعد في خطر إلا أن الدول المتدخّلة لم تعد تلتفت اليه، فالروس والإيرانيون يتداولون الخرائط وينسّقون معه في الحدّ الأدنى، وإذا كانت بيئته المذهبية لا تزال تحتضن النظام إلا أنها تتبرّم الآن من حلفائه جميعاً ولا تبدو مرتاحةً أو مندفعةً الى مشروع التقسيم، بل ان بعض القريبين منه يتخوّفون من تحالف تركي – إيراني يضيفون اليه قطر ولذا يتساءلون عن حلفاء عرب أو دوليين يمكن أن يساعدوا النظام على تبديد احتمال كهذا يظنّون أنه سيفرض عليهم «الإخوان المسلمين» كثمنٍ للتسوية.
مطلع حزيران (يونيو) تحدّث الرئيس الروسي ووزير خارجيته في مناسبتَين لتأكيد أن «مناطق خفض التصعيد» الأربع ليست مشروعاً للتقسيم وإنما محاولة لوقف القتال بغية إعطاء دفع للمفاوضات السياسية. لكن قراءة الخرائط تشير الى مناطق نفوذ موزّعة مبدئياً كالآتي:
أولاً – الشمال والوسط لروسيا وإيران وتركيا، والجنوب لأميركا وإسرائيل.
ثانياً – 1) محافظة ادلب وريف حلب الشمالي بإشراف روسي – تركي، 2) دمشق – الغوطة الشرقية – حمص بإشراف روسي – إيراني، 3) درعا و 4) القنيطرة تحت نظر أميركا واسرائيل، 5) الساحل الغربي منطقة عسكرية للروس، 6) الرقة ودير الزور والبادية يحُسم مصيرها بعد طرد «داعش» منها وسط تنافس حادٍّ عليها… تبقى هذه خريطة أولية، وفيما تحدّ روسيا وأميركا من وجودهما على الأرض، كما تضع موسكو ضوابط للتدخّل التركي، وتكتفي اسرائيل بغاراتها الهادفة، تتمتّع إيران وحدها بالقدرة والسهولة لتغطية الأرض بمزيد من المقاتلين.
* نقلا عن “الحياة”