غصّت قاعة كنيسة مار يوحنا المعمدان الأرثوذكسيّة في حيفا بحضور كبير من المُحتفين بشيخنا الأديب حنّا أبو حنّا، وذلك بتاريخ 19-1-2017، في حفل مميّز أقامه نادي حيفا الثقافي برعاية المجلس المِليّ الأرثوذكسيّ الوطنيّ في حيفا. كلمةً ترحيبيّة باسم المجلس الملي الوطنيّ الأرثوذكسيّ في حيفا وباسم نادي حيفا الثقافيّ، افتتح بها الأمسية الاحتفائيّة الأستاذ جريس خوري عضو المجلس المِلّيّ وأمين الصندوق، ، تلتها كلمة المحامي حسن عبادي حول نشاطات نادي حيفا الثقافي المستمرّة وأثرها في المشهد الثقافيّ المحليّ، ثمّ تولّى عرافة الأمسية المحامي فؤاد نقارة مؤسس ورئيس نادي حيفا الثقافيّ، وكانت مداخلات قيّمة لكلّ من د. راوية جرجورة بربارة بعنوان التناصّ الدينيّ مرآة الشاعر حنّا أبو حنّا، ومداخلة الكاتب المُربّي حنّا نور الحاج حول إنتاجه الأدبي، وألقى الشاعر فرحات فرحات نصوص شعريّة من كتابه ريترو تخصّ شيخنا حنّا، وقراءات شعريّة من قصائد حنّا أبو حنّا ألقاها كلّ من: الشاعرة فردوس حبيب الله واليافع مروان محمود سرّيّة، ومداخلات زجلية للزجالين شحادة خوري وحسام برانسي، ثمّ قدّمت له درع تكريم أسرة نادي حيفا الثقافي المؤلفة من الأستاذ جريس خوري والمحامي كميل مويس عضو المجلس المِليّ، والمحامي حسن عبادي عضو نادي حيفا الثقافي والناشط الأدبي، والمحامي فؤاد نقارة، وكذلك أسرة ديوان العرب المؤلفة من الأدباء عادل سالم وآمال عوّاد رضوان قدّمت درع تكريم، والأديبتين د. جهينة خطيب ووالدتها عايدة الخطيب قدّمتا درع تكريم، وكبيرتنا الأديبة سعاد قرمان (أم الطاهر) باقة ورد مغموسة بتاريخ ثقافيّ لا يفنى، ثم ختم اللقاء شيخنا المحتفى به بكلمة متزنة تحمل رسالة للوطن وأمانة التجذّر بالهوية والوطن واللغة العربية، لننتقل إلى التقاط الصور التذكاريّة!
مداخلة الأستاذ جريس خوري: الأستاذ الكبير حنّا أبو حنّا (أبو الأمين) موسوعة أدبيّة تاريخيّة، وذخر يمشي بقدمين ثابتتيْن من يوم مولده عام 1928 في قرية الرينة الجليليّة وحتى يومنا هذا، أطال الله بعمره. حنّا أبو حنّا أديب وشاعر وباحث ينتمي الى الجيل الأوّل من شعراء المقاومة العرب في (إسرائيل)، تنقل بين الكثير من القرى والمدن الفلسطينيّة، بحكم عمل والده في دائرة مساحة فلسطين، ما بين القدس ورام الله، وجفنة وأسدود قرية نجد وحيفا، وقد عاش مناطق فلسطين بطولها وعرضها وجميعها عاشت في قلبه ووجدانه.
أيّها الحضور الكريم، أرحّب بكم باسمي وباسم المجلس المِليّ الوطنيّ الأرثوذكسيّ في حيفا وباسم نادي حيفا الثقافيّ، وأدعوكم للتمتّع بهذه الأمسية التكريميّة لشخصيّة فلسطينيّة حيفاويّة أعني الأستاذ الكبير حنّا أبو حنّا، فأهلا بكم. عمل الأستاذ حنّا أبو حنّا مديرًا للكليّة الأرثوذكسيّة في حيفا، ومُحاضرًا في جامعة حيفا وكليّة إعداد المعلمين العرب، وحصل على الماجستير في الأدب، وشارك في تحرير وإعداد برامج الطلبة في إذاعتي القدس والشرق الأدنى، وشارك في إصدار الجديد والغد والمواكب والمواقف، في عمله في الجديد عمل مع توفيق طوبي، إميل حبيبي، صليبا خميس، جبر نقولا وعلي عاشور طيّب الله ذكراهم، ومع نبيل عويضه أطال الله بعمره، وقد امتاز الأستاذ حنّا أبو حنّا ببلاغته وسِعة آفاقه ونشاطه وتواضعه، وشارك في مهرجانات دوليّة في هنغاريا وبلغاريا وروسيا وأوكرانيا.
أصدر (21) مؤلفًا أدبيّا من دواوين للكبار وللأطفال وأبحاثًا لغويّة وأدبيّة، وبسبب عمله السياسيّ من قيادة مظاهراتٍ ودفاع عن العائدين إلى أوطانهم، فُصِل من عمله إثر قيادته لمظاهرة ضخمة في الناصرة، وفُصل معه يومها صديقه الأستاذ فؤاد خوري. وقد شرع في تأسيس “جوقة الطليعة”، يمدّها بالكلمات والأشعار، وصديقه الموسيقار ميشيل درملكنيان يُلحّنها، وعام 1958 وأثناء تواجده في بيت صديقه فؤاد خوري في الناصرة، داهمته الشرطة واعتقلته. في فترة عمله في قسم البرامج والمناهج التعليميه تمكّن من إدخال موضوع الأدب الفلسطينيّ في المنهاج، كي يتعرّف الطالب العربيّ على تراثه وتاريخه.
من أشعاره: يا إخوتي، كيف ننسى مُرَّ ماضينا/ وحاضرًا لم يزَلْ يَروي مآسينا/ ولم تزلْ حولنا الأغلال تخنقنا/ الغدر يَسعى إلى تشريد باقينا؟
مداخلة حسن عبادي: الأخوات والإخوة، مساؤكم خير. باسم نادي حيفا الثقافيّ وباسمي نُرحّب بكم وأهلا وسهلًا للمشاركةِ في هذه الامسيةِ الثقافيّةِ المميَّزةِ لتكريم الأديب الأستاذ حنّا أبو حنّا. بدايةً، نستنكرُ الهجومَ الشرسَ والاعتداءَ الغاشمَ على أمّ الحيران، وعمليّة التهجير المستمرّة لأهلنا في النقب، ونسألُ الرحمةَ للفقيد والسلامة للمُصابين.
لقد تأسّسَ نادي حيفا الثقافي قبل حوالي ستة أعوامٍ، برئاسةِ زميلي المحامي فؤاد حنّا نقارة، وبدأت الفكرة لمنتدى ثقافي لقراءةِ كتابٍ بالشهرِ،فقُمنا حتى اليوم بقراءةِ ما يقاربُ السبعين كتابًا، وتطوّرت لعقدِ أمسياتٍ ثقافيّةٍ لإشهارِ كتابٍ بحضورِ الكاتبِ، وأقمنا عشراتِ الأمسياتِ وكذلك أمسياتِ تكريمِ أديبٍ ، بمشاركة العديد من المهتمّين وأصحاب القلم من حيفا وخارجها، ومن ثَمّ إحياء مِنبرٍ للشعرِ، ألا وهو أمسياتٌ عكاظيّة حيفاوية، تُشكّلُ مِنبرًا شعريًّا ومنصّةً لشعرائِنا. بكل فخرٍ واعتزاز أصبح هذا المنبرُ صَرْحًا أدبيًّا راقيًا ودفيئةً حاضنة لكُتّابنا وأدبائنا وشعرائنا ومُبدعينا، دون رقابة أو تمييز، رغم محاولات بعض المتسلّقين عرقلته، التطاول على هذا المشروع المُميَّز والمُتَميّز، ونفتخرُ أنّه أصبحَ قُدوةً يُحتذى بها في حيفا وخارجها في سبيل الحفاظ على لغتنا العربيّة، ويشرّفُنا اليوم استضافةُ مَن هوَ من أهل البيت الأديب حنّا أبو حنّا، وقد وافق أخيرًا بعد جهدٍ جهيد تشريفَنا بأمسيةٍ تكريميةٍ تليقُ به. وصفه النقادُ بزيتونة فلسطين، وأسمح لنفسي أن أصفَهُ بأيقونةِ وبوصلةِ فلسطين الثقافيّة الأدبيّة.
في يناير 2005 دُعيتُ لأمسيةٍ ثقافية معَه في مقهى أدبي حيفاوي “الدارة”، فقبلتُ الدعوة متلهّفًا للقائِه (بالمناسبة، أُفتتح مؤخرًا مقهى أدبي حيفاويّ جديد في فتوش لصاحبه وديع شحبرات وبإدارة محمد خالد شامي وفيه مئات الكتب الجديدة، مع تخفيض لأعضاء وأصدقاء النادي)، وعند افتتاح المنتدى الثقافيّ الحيفاويّ في شهر يناير 2009 كان ليَ الشرف أن أكون تلميذَه، ليزيدَني قناعةً بفنّ القراءة المُغايرة ، فهو ميسّر وموجّه اللقاء الشهريّ مع كِتاب كلّ آخر أربعاء من كلّ شهر، ومنذ إقامة النادي قبل ستة أعوام بدأت ألقاه كلّ خميس، حيث يواظب على حضور كلّ الأمسيات، ويغضبُ حين يكون النادي في إجازة، وفي السنوات الأخيرة أصبحتُ محظوظًا أن أكونَ سائقَه بطريقنا من وإلى النادي، لأستغلّه في عصفٍ ذهنيٍ ثقافيّ، عدا عن لقاءاتِنا الأخرى التي سرعان ما تتحوّل إلى فستق أدبيّ.
مداخلة فؤاد حنّا نقّارة عريف الأمسية: الأخوات والأخوة مساؤكم خير، الحضور الكريم مع حفظ الألقاب والمقامات، باسم المجلس المليّ الأرثوذكسيّ الوطنيّ في حيفا، وباسم نادي حيفا الثقافيّ وباسمي، نرحّبُ بكم في بيتكم نادي حيفا الثقافيّ الذي تُقام أمسياتُه في هذه القاعة المباركة بحضوركم، قاعة كنيسة مار يوحنا المعمدان الأرثوذكسيّة في حيفا، يشرّفنا أن نستضيف هذه الأمسية “زيتونة فلسطين” أديبنا وشاعرنا الباحث الأستاذ “حنّا أبو حنّا”، تقديرًا ووفاءً لمسيرته الأدبيّة والنضاليّة على مدى أكثر من 60 عامًا، في خدمة الثقافة والأدب والشعر وقضيّة شعبنا، ويَسرّنا أن يشاركنا هذه الأمسية كوكبة من مُفكّرين وأدباء ومُثقفين أصرّوا على مشاركة أستاذنا هذا التكريم الخاصّ، الذي انتظرناه طويلًا من أبو الأمين الذي عارض إقامته، لأنّه كُرّم أكثر من 50 مرّة بدروع وجوائز واحتفالات!
الأديب حنّا أبو حنّا أبو الأمين “زيتونة فلسطين”؛ هو عَلمٌ وشاعرٌ ومناضلٌ وكاتبٌ وباحثٌ وراعي الأدباء والشعراء ومُعلّمٌ مُرَبٍّ، مِن الرعيل الأوّل من شعراء فلسطين البارزين بعد النكبة، ممّن حملوا وزر النكبة، وانطلق في طول البلاد وعرضها يدعو ويُحرّض مَن تبقّى مِن شعبنا في وطنهم رغم النكبة، للوقوف مرفوعي الرؤؤس وللتشبّث بأرضهم ومقاومة سياسة الحكم العسكريّ، في حين آثرَ أغلبُ المثقفين والشعراء في ذلك الحين “التقية” والتقوقع وعدم المقاومة، وقد وقف شاعرنا حنّا من على مَنابر منصّات المهرجانات السياسيّة والشعريّة، وأعلن موقفه صراحة بوجه المحتلّ الغاصب دون وجلٍ ومُواربة. هو من نخبة رفاق ورجالات الحزب الشيوعيّ وأهمّ مُثقفّيه وكُتّابه وشعرائه، ضحّى بوظيفته لأجل مبدأ آمنَ به وسار عليه وأعلنه صراحة، حتى أنّه كان مُستعدًّا للخروج من حزبه والتخلّي عن الحوافز ومغريات المناصب، إخلاصًا لمبدئه مع الحفاظ على “الاختلاف وليس الخلاف” مع رفاق الأمس. كتب وحرّر في صحيفة الاتّحاد. مِن مؤسّسي مجلة الجديد الأدبيّة ومجلة الغد التي تتلمذ في مدرستهم وعلى يديّ أبو الأمين الرعيل الثاني بعد النكبة، من كُتّاب وشعراء وأدباء ممّن كان أبو الأمين مثالًا ومُعلّمًا ومُرشدًا لهم، وما زال بيته مفتوحًا لكلّ المثقفين والأدباء لكلّ استشارة أو مراجعة أو نصيحة. أنتم يا أبا الأمين نواة الخلية الثقافيّة في البلاد بعد النكبة، وما الخليّة بدون نواة؟
ولن ننسى السيّدة الفاضلة سامية فرح أبو حنا أم الأمين، الزوجة المثقفة بامتياز والمتذوّقة للأدب والشعر، وما زالت تقفُ بجانب رفيق دربها أبو الأمين، ونحن نعلم أنّ حياة المبدعين ليست بالسهلة، تحتاج إلى قوّة ومَحبّة كبيرتين، لا يستطيع كلّ إنسان أن يصمد ويعيش ويتعايش، ونشكر فضل الله مجدلاني لمرافقتنا الدائمة بتهيئة القاعة لاستقبال الأمسيات، والشكر الكبير للمجلس المِليّ الأرثوذكسيّ الوطنيّ في حيفا راعي الأدب والعِلم والمثقفين.
مداخلة د. راوية بربارة بعنوان التناصّ الدينيّ ومرآة الشاعر حنّا أبو حنّا: مساءٌ حَنّائيٌّ بامتياز إذا التعبيرُ جاز، فالمحتفى به حنّا أبو حنّا، والمتحدّثان حنّا الحاج وراوية بربارة “أمّ حنّا”، ويعتقد العرب بأنّه إذا اجتمع ثلاثةٌ ولهم نفس الاسم وُجدَ الكنزُ، وهذا صحيحٌ فأنتم كنزُ الأمسية وكلِّ الأماسي الأدبيّة الثقافيّة التي ترفع شأن مجتمعِنا وتحتفي بأدبائنا وتكرّمُهم.
عندما كنتُ صغيرةً كانتِ الأسماءُ الكبيرةُ تطنُّ في قلبي، وتجلجلُ في جنباتِ عينِ العذراءِ وبيتِ الصداقة، ويحتفي أبي وأصدقاؤه بكلِّ عددٍ يصدرُ من مجلّة “الجديدِ” و”الغد”، فتسكن معنا الأسماءُ ونتخيّلُ ملامحَ أولئكَ الذين يبثّون الحياة في الورق وفي المجتمع، واسم حنّا أبو حنّا يتردّد في البيت والسوقِ والشارعِ والجريدةِ واجتماعات الأصحابِ والرفاق، وأنا لم أره، أتخيّلهُ كبيرًا عملاقًا بقدرِ عطائِه وبقدرِ محبّةِ الناسِ له، ويومًا ما خرج الماردُ من قمقمه، فكان أجملَ من الأسطورةِ، وأكثر ريًّا من بعل، كان أستاذي في جامعة حيفا وعلّمني مساق “الشعر الحديث”، علّمني مدارسَ الشّعر من الكلاسيكيّة ونيو كلاسيك والرومانسيّة والواقعيّة الاشتراكيّة والرمزيّة، وأخذنا معه في تيّار الفن للحياة والفن للفنّ، وتركَنا هناك نتساءَلُ، لماذا ما زال شعراؤنا إلى اليوم يكتبون بكلّ مدارس الشعر، فلا تنقطع مدرسةٌ ولا يختفي نوعٌ، فنجد الجواهريَّ يسبَحُ على بحور الخليلِ وأدونيس يبحث عن الجديد، ونازك والسيّاب يدوْزنان تفعيلتيْهِما، وحنّا أبو حنّا يشقّ طريقتَه بحذرٍ وجرأة، فيواربُ وراءَ الرمز تاركًا لنا أن نستعينَ بثقافتنا المتنوّعة لنسبرَ أغوارَ قصائدِه، أو أن نحذفَ قافيةً منتظرةً ونعاودَ البحثَ، أو أن نستعينَ بالجمهورِ الذي بدأ يدرك أنّ حنّا عرف أنْ يختارَ وقرّر أن يتطوّرَ، لذا نجدُهُ يحاسبُ نفسَهُ، يضَعُ المرآةَ أمامَ قصائدِه ليرى انعكاساتِها، ويقرّرُ أن يغيّرَ هندامَ أوزانِها وتسريحةَ قوافيها ورائحةَ عطرِ صورِها كلَّ مرّة، فهو منذ عام 1949، قرّر بوعيِ المثقّفِ الدارسِ أن يكتبَ “أوّل تجربة له بإيقاعٍ متغيّر ينبع من “دراميّة” الموقف ويسايرها”[1]، فنراه يُعلن “طلاقَ الرومانسيّة”، مقرًّا بأنّه لم يكتب من أجل الفنّ، بل من أجل الناسِ، فهو لم يكن “فوق” الورى، ويعترف بجنون الشاعر مشبّهًا إيّاه بالبزّاق الذي ينزوي في أصدافه في الوحول معتقدًا بأنّه ربُّ السهول، مُحْدِثًا جلبةً بقصائده وإبداعِهِ، كالطفل الذي يمتطي عصًا ويظنّ بأنّه يحلّقُ بينما هو على رجليْه يعدو:
كنتُ بالأمسِ شاعرًا/ ينسجُ الشعرَ/ من سُدى الأحلامِ/ سارحًا بين النجوم/ هائمًا فوق الغيوم/ لم أعش “فوق” الورى/ غير أنّي/ مثلما ينزوي البزّاقُ في أصدافِهِ/ بين الوحولِ/ حالمــــًا/ واهمًا/ أنّه ربُّ السهول/ مثلما/ يركب الطفلُ العصا “فارسًا”/ وهو على رجليْه يعدو/ حافيًا.. طائفًا دون هدى/ هكذا “أهل الخيالْ”/ يركبونَ الخشبةْ/ واهمين بالمحالْ/ مُحدثينَ جلَبةْ..![2]
وهذا الشاعر أحدثَ جلبةً، أتدرون لماذا؟ لأنّه أوّلًا وقبلَ كلّ شيء كتب بشاعريّته وطعّمها بالدراسةِ، فلم يفقد توازنَه من طغيانِ النظريّات على الشاعريّة أوِ العكس؛ وثانيًا لأنّه طوّرَ أدواتِه الشّعريّة على مدى سنواتٍ، لم يتقوقع في مدرسةٍ، ولا في أسلوبٍ، بل فتحَ الأبوابَ لقدرتِهِ لتقودَهُ ولتجربتِه الحياتيّة، المعيشة، المهنيّة لتوجّهَهُ؛ وحنّا أبو حنّا أحدثَ جلبةً لأنّه انتقل بسلاسةٍ، من الشعر التقريريّ، التوثيقيّ التأريخيّ، إلى الشعر الرمزيّ، الحداثيّ، وما بعد الحداثيّ؛ وحنّا أحدثَ جلبَةً لأنّه طرق موضوعاتٍ عدّةً فمن الأرضِ، إلى الطبيعة، إلى الهمّ الفلسطينيّ، إلى الهمّ الإنسانيّ، إلى الغزلِ والحبّ والمعشوقة والحياةِ اليوميّة البسيطةِ المعيشةِ، ولهذا الشاعر الجريءِ المجدّدِ، المنتقِدِ نفسَه وقصائدَه قبل حبرِ النقّاد، ستكون مداخلتي التي سأبدأها بما يتلاءَم مع الوضع الراهن، وكأنّ التاريخَ يأبى أن يمسحَ بصماتِهِ عن خدودِنا وأخاديدِنا، فكلّما تجاهلْنا أفعالَه معَنا، عادَ وصفعَنا على خدّنا الأيمن، ومهما كان إيمانُنا قويًّا لن نديرَ له الأيسر، بل سنديرَ له ترابيّاتِ أدبِنا وقصائدِنا، لنعلّمَه درسًا لن ينساه. فها هو محمود درويش يقول في حديث له: “الجديد الذي أعطانا إيّاه حنّا أبو حنّا هو ما أستطيع أن أسمّيَه بشكلٍ مجازيّ، أعطانا ترابيّةَ القصيدة، عندما جاء حنّا أبو حنّا وحوّل الأحداثَ اليوميّةَ والهمومَ اليوميّةَ والأخبارَ اليوميّة إلى قصائد، أعطانا وعيَ ترابيّةِ الشّعرِ ويوميّتِهِ[3]”، وما أحوجَنا الآن الآنَ أن نستشعرَ عبقَ الترابِ، وأن نقرأ معًا مقطعًا من قصيدته “تقاسيمُ على سقسقات سرب القرابين”:
كانت لنا وبنا/ في البدءِ/ فيها نَبَتُّ على جذورِ التين والزيتون/ وسريتُ في نبضِ الدوالي/ في اخضرار العلتِ والزعتر/ في نفحةِ الفيجن/ في تنفّسِ العبْهَر/ وجريتُ في القندولِ/ في السمّاقِ والعنبرْ/ نُسُغًا/ أنا والفصول/ أنا الفصول/ أنا والتراب/ أنا التراب:/ آدم والأديم/ أنا السمادُ/ والبذارُ والثمرْ/ ويراد لي أن لا أكون سوى السماد/ أن لا أكون سوى../ أن لا أكون!![4]
وهل يمكن لشعبٍ عنده شعراؤه ألّا يكونَ؟ ألم يحيي الشعراءُ والأدباءُ الماضيَ والحاضرَ، يقول أبو حنّا مستذكرًا الماضي الجميلَ في الكرمل معَ محبوبته: وأعودُ في الذكرى إلى سفحِ العبيرْ/ المقعد المهجورُ في عينيْهِ طيفُ أسًى كسيرْ/ والجذعُ مالَ إليَّ يسألني عن العهدِ النضيرْ/ والزهر والدمعُ بالندى الشاجي تعزّيه العطورْ[5]
ومن هذا الماضي الشخصيّ القريب، نراه يستذكر مع الجدّة ماضي هافانا: “يا حفيدي../ قبل ما يقرُبُ من خمسينَ عام/ حينما كنتُ أنا ما زلتُ طفلة/ هتك الفجرُ الظلام/ ورعى النورُ شذى مليونِ فُلّة/ أحرق العبد صليبَ الرقِّ في ثورةْ/ وغدا حرّا .. وكان النير قد حدّبَ ظهره![6]
ألم يكتبِ الشعراءُ نبوءةَ المستقبل؟ ألم يوثّقوا التاريخ؟ فهذه أبياتٌ لأبي حنّا تحيّي الوحدة بين سوريا ومصر: من الناصرةْ/ إلى القاهرةْ/ تحيّاتُ نشوتِنا العاطرةْ/ بطيبِ عروبتنا الظافرةْ.[7]
ألم يحفظوا لنا الجغرافيا؟ تلك الجغرافيا لوطنٍ وقد تغيّرت معالمُه، ومُحيَت لولا بقايا ديرٍ وكنيسة مهجورة تصلّي فيها الريح: نمر الصادق/ ذرّتْهُ العاصفةُ الهوجاء/ ولْمجيدل/ أطلالًا صارت/ ومعالمها تُمحى/ ومُحيتْ/ لولا ديرٌ وكنيسةْ/ تصلّي فيها الريح/ ترتّلُ فيها الغربان[8]
والطبيعة، والبيئةُ، والبشرُ والحجر، ألم يكن لهم النصيبُ الأكبر من شِعر أبي حنّا؟ ففي رثائه للشاعر راشد حسين يجلب معه إلى القبر من كلِّ بلدٍ ذكرى، ليؤكّدَ شموليّةَ التضحية والعطاء: على الضريح المؤرّق/ جئتُ أضع إكليلا/ مضفورًا فيه قَندولُ الكرمل/ وسَرّيسُ الشاغورِ/ وغارُ الجرمق/ عابقًا.. من بيّارات الرملة/ وحبقِ الناصرة/ وطيّونِ وادي عارة/ وسنابلَ مرجِ ابنِ عامرِ/ الجبينُ الذي تطاولَ فوقَ الدخان والغيوم/ ليحالفَ الضياء/ جئتُ أمسحُه بقطراتٍ من زيت الجليل/ وفي ركنٍ من الضريح المستعيدِ كنزُه/ جئتُ أخبّئ خابيةً من عصير عنب الخليل.[9]
في ظلّ كلّ هذا الماضي والحاضر، والتوجّع والفقدِ كان لا بدّ للشاعر مِن مرجعيّة، فهل تعرفون إلامَ لجأ حنّا في قصائده؟ لقد اتّكأّ حنّا أبو حنّا على التناصّ الدينيّ، والتناصّ من أبرز سماتِ الشعر الحداثيّ، ومن أدقّ خصائص بنيتِه التركيبيّة والدلاليّة، إذ يمثّل التناصّ استحضارَ نصوص غائبة، سابقة في النصّ الحاضر، لوظيفة معنويّة، أو فنيّة أو أسلوبيّة؛ وقد حاولت تتبّع التناصّ في قصائد أبي حنّا، فإذ بأغلب القصائد تفاجئني باتّكائها على الرمز الدينيّ، ولعلّ القصائدَ على امتداد الشعر الفلسطينيّ من بداياته إلى يومنا لم تحفل بهذا الكمّ من التناصّ الدينيّ المسيحيّ والإسلاميّ، فلماذا فعل كذلك؟ ولماذا التجأ إلى الدين؟ أهي ثقافتُهُ، والإناءُ بما فيه ينضح؟ أم هي حاجةُ الإنسانِ إلى القوى الخارقة والمعجزات في زمنٍ تراكمت فيه النكباتُ والنكسات والمصائب والمصاعب فلم يكن للشاعر مخرجٌ إلّا البحث َ عن قوّة خارجيّة تساعده على الصمود والاستمرار؟
ففي رثاء عمر القاسم، قصيدةِ “في حاشيةِ العوسج” يعترف بحاجةِ الشعر إلى أسطورة: الشّعرُ يفتّشُ عن أسطورة/ أمّا أنتَ الأسطورة/ فأكبرُ/ أكبرُ من كلِّ الشّعرِ[10]
إذًا هو الألم سرُّ الوجودِ، فعلى خلاف: أنا أفكّر إذن أنا موجود، يقول حنّا أبو حنّا: أنا أشكو إذن أنا موجود، فالوجع هو سرّ وجودنا: نحن نحيا/ لأنّنا/ لم نزل نشكو/ فيا لوعةَ اكتشافِ الوجودِ/ **/ نتساقى الشكوى/ نسرّي/ ولكن/ نفتحُ الجرحَ للنزيفِ الجديدِ.[11]
وهذا الشاعر المتألّم يطفئ لهيبَ ألمِه بتعلّقه بتراب وطنه، بدغدغات اللوف والزعتر الممنوع، بأعشاب بلاده التي يبقّلها لتُقيتَهُ، لتلذعَهُ، لتبْرُدَ لسانَهُ؛ والشاعر يملأُ جرّته من عرق الجباه، من دموع الشريد، ودموع العروس يومَ زفّتها ومن شفَةِ الربيع التي تملأ البيّارات بالرعود: حملتُ سلّتي/ أبقّل العلّيقَ والمرّار/ واللوفَ- مِبرَدَ اللسانْ/ يلذعُهُ مدغدغًا/ والزعترَ الممنوع/ قرّبتُ جرّتي من عرقِ الجباه/ من مقلةِ الشريدْ/ من زفّةِ العروس/ من بيّارة الرعود/ من شَفَةِ الربيع.[12]
وهو مستعدّ أن يضحّي بدمه كما فعل المسيح في العشاء الأخير “خذوا اشربوا هذا هو دمي الذي يُسفَك عنكم وعن كثيرين لمغفرة الخطايا”، فماذا يقول شاعرنا بعد أن شبع وارتوى من آلام ودموع بلاده؟ يقول بأنّه سيضحّي بدمه لينفّضَ الرماد عن مجامر الإباء، ليُبعِدَ هذا الرمادَ الرابضَ على مجامرِ كرامتِنا، لتَهُبَّ النخوةُ والشهامةُ والعزّةُ فينا من جديد، ولنستيقظَ من خدَرِنا وغفوتِنا: “خذوا اشربوا/ هذا دمي/ يُنفِّضُ الرمادَ عن مجامرِ الإباءِ/ ويلغَمُ الخدَرْ”[13]
ولماذا يضحّي الشاعرُ بنفسه ليستيقظ النوَّمُ؟ لأنّ الأسماءَ اغتيلت، ولأنّ جبلَ الكرمل يعتري عورتَهُ بحّارةُ الأساطيل الحربيّة، ولأنّ مار الياس يطلّ من مغارته ويتساءَل هل قمّلت لحيةُ هذا الجبل؟ هذا الوطن؟ وما أجمله من تعبيرٍ استوحاه الشاعر من حياتِنا المعيشة، عندما نقول “قمّلت لحيتُه” كناية عن العفن والإرادة المسلوبة وقلّةِ العزيمةِ والفقرِ، فأيُّ تعبيرٍ فصيحٍ كان سيفي بالمعنى؟ وإنّما يستعين الشاعر بالتناصّ الدينيّ مع القرآن “ولا تعثَوْا في الأرض مفسدينَ” ليقول قولًا هامًّا؛ بأنّ مثلَ هذا الخراب ليس جديدًا، إنّما المفسِدون كانوا على مرِّ التاريخ، مشيرًا فيما وراءَ السطورِ إلى عقابِهم ونهايتِهم، ونراه يمزج ما بين الأسطورة والدين والواقعِ الكئيب ليشرحَ لنا مدى عدمِ وضوح هذا الحاضر الذي تعبث فيه كهنةُ الأساطير ويعيث فيه المفسدون، ويهاجَم فيه الكرمل: في “جادة الكرمل”/ حيثُ اغتيلتِ الأسماءْ/ تحت عيون “قبّة البهاءْ”/ حيثُ يقرفصُ الجبلْ/ يمدُّ ساقيهِ إلى الميناءْ/ ويعتري عورتَهُ بحّارةُ الأسطولِ/ السادسِ…السابعِ../ مهما شئتَ من أرقامْ/ وحيث “مار الياسْ”/ يُطلُّ من مغارة الدهشةِ في عينيه: – هل قمّلَتْ لحيتُهُ؟ – كهنةُ البعلِ يعيثون بها ويفتنون الناسْ[14]
لكنّه في خضّمِ انتقاده للوضع القائمِ، ودعوتِه للتحرّكِ والتيقّظ، يذكُرُ فرسانَ اليقظة، يذكُرُ من ناضلَ، وعملَ، ونسجَ، وحاكَ مستقبلًا وضفّرَ أحلامَهُ بالنارِ، والظبيةُ تحدّت قنّاصًا لتصيدَ الفجرَ، ما أجملها من مفارقةٍ بين صياد يلاحق الظبية ليصيدها، و ظبيةٍ تلاحقُ الفجرَ لتصيدَ يومًا جديدًا تحياه، ما أبدعَ أنْ يكونَ الشعرُ مكثّفًا، واضحًا، جميلًا، أصيلًا، بِكرًا، يرسِم في جملةٍ شعريّةٍ واحدةٍ لوحةً مذهلةً، مليئةً بالكناياتِ والاستعاراتِ، فقد اشتعلَ الفتيلُ ، لكنّه فتيلُ الطيبِ والرائحةِ الجميلةِ، فتيلُ الريحان، هذه الكلمات التي تبدّل المألوفَ تُدهِشُنا، تدعونا أن نصبحَ قرّاءً مشاركين، أن نُشعِلَ فتيلَ ثقافتِنا ومخزونِنا الأدبيِّ لنجاري الشاعرَ، لنشاركَهُ تناصَّه الدينيَّ حين يقول: تتحدّى الظبيةُ قنّاصًا لتصيدَ الفجرَ/ اشتعلَ فتيلُ الرّيحانِ/ تحرّكَ نوْلُ النَسّاجْ/ يُضفِرُ بالنارِ الحُلُمْ/ فرسانُ اليقظةِ فوق الأبراجْ/ لا تأخذهم سِنَةٌ/ لا يأخذُهم نوْمُ.[15]
هذا الشاعر مرّ بمراحلَ مختلفةٍ، فبعد طلاقه الأوّل مع الشعر التوثيقيّ الواقعيّ، طلّق الرومانسيّة، وامتطى جوادَ الرمز، فبعد أن كان توثيقيًّا، علّمته الدنيا أن يكون مراوغًا، لا يصرّحُ بحقيقة الأشخاصِ، ولا بحقيقةِ الحدث، إنّما يحتالُ على النصِّ بمفرداتٍ يستقيها من بيئته، من ثقافته، من أمكنةٍ لا يُعيّنها بالاسم، وأناسٍ لا يناديهم جهرًا، فمن هي الظبيةُ؟ أهيَ فلسطين؟ ومن هم فرسان اليقظة؟ الثوّار؟ المناضلون؟ من بقيَ في الوطن؟ وكيف تجرّأ وكنّاهم بكنية الحيّ القيّوم الذي لا تأخذه سِنةٌ ولا نَوْم؟ كلُّ الإجاباتِ متعلّقةٌ بمشاركةِ القارئ، فالرمز في القصيدة، وفي قصائد عَدّة في الديوان يرتقي من الإشارة sign، إلى الرمز symbol، إلى الأليجوريا، المبنى الرمزي المتكامل الذي يوظّف فيه الشاعر عدّة إشارات وعدّة رموز، وهكذا بقدرِ محليّةِ القصيدةِ وخصوصيّتِها نرى انفتاحَها على العالَم العربيّ، على اللامكان واللازمان، لتصبحَ قصيدةَ كلِّ مكانٍ وكلِّ زمانٍ، فتضمنَ بالمراوغةِ الذكيّةِ خلودَها.
حتّى قصائدَ الغزل لم تخلُ من المراوغة حفاظًا على المحبوبة من كشفِ سرِّها، وربّما تحفّظًّا منفلِتًا، حفاظًا على هيبةِ هذا الشاعر الشقيّ، الذي عاج يسألُ عن النبيذ المشتهى في نهدَي محبوبتِهِ، راسِمًا صورًا شعريّة جميلةً مُطلِقًا أسرابَ الغزلان على الردفيْن، مطهّرًا نفسَه بالنار التي تشعلُه، بنار العيون، ولا بدّ للتناصّ الدينيّ أن يظهر ولكن أين؟ فلنستمع: مَنْ نسجَ الخمرَ وشاحًا/ للنهديْن؟/ مَنْ أطلقَ أسرابَ الغزلانِ/ على الردفيْن؟/ بالنارِ يطهّرني/ هذا السّحرُ الكامنُ/ في الجفنيْن/ لأرى خارطةَ الجنّةِ/ ما بينَ القرطيْن.[16]
وهذه المحبوبةُ التي تسكرُه بخمر نهديها، هي التي تُسكرُ الكؤوسَ وتكسرُ القدح، أو ربّما هي محبوبةٌ ثانيةٌ، لا أوسّع ذمّتي، ولا أقول إلّا على ذمّةِ الراوي: على شجر القلبِ/ باسمِكِ/ تشدو العصافيرُ تسبيحةً/ للفرح/ حضورُكِ نبعُ الذهولِ/ فأنتِ التي تُسكرين الكؤوسَ/ وأنتِ التي تكسرينَ القدحْ
وفي حواريّة بين المحبوبيْن، حين تتساءَل المحبوبةُ إذا كان الحبُّ يسلِبُ قلبَ المحبِّ؟ نرى الشاعرَ يُكذِّبُ دموعَ العاشقين الشعراء الذين يستمرئون البكاءَ ليصيدوا الهلال، لكنّ الحبّ بريءٌ، لم تثبت إدانتُه لأنّ بوصلةَ الروحِ هي التي تتوجّه نحو المحبوب، نحو الشمال: تساءلْتِ:/ هل يسلبُ الحبُّ قلبَ المحبِّ..؟/ إذا كان حقًّا فقلبُكَ عندي/ وقلبيَ عندكَ/ – تلك شَكاةٌ/ تناقلها العربُ في خيمةِ الغزوِ/ فاستمرأَ العاشقونَ البكاءَ/ لعلّ الدموعَ تصيدُ الهلال/ تبرّأَ من ذلكَ الحبُّ/ فهو الذي يوجّهُ بوصلةَ الروحِ/ نحو الشمال[17]
وفي عزّ الحبّ ولحظاتِ العشق يتّكئ بقوّةٍ على التناصّ الدينيّ، أظنّه يقدّسُ هذا الحبّ، يدرس الوصايا العشر من احتضان شفتي المحبوبة التي تجمعُ كلَّ الأقانيمِ في واحدة، وكأنّها الآبُ والابنُ والروح القدس، هذه المحبوبة مؤلّهةٌ سرًّا وتلميحًا، وهذا الشاعر لا ينفكّ الماضي يعلّمه ويعاوده، وهذا سرّ الحداثة في الشّعر وما بعد الحداثةِ، هذا الانفصالُ عن الماضي وهذا التواصلُ معَه، فها لهفةُ ذاكرةِ البدويّ إلى تمتمات الحليب ونجوى العسل، هي نفسُ لهفةِ الشاعر إلى شفتَي المحبوبة، وهذه المراوغاتُ الذكيّة، تأخذُنا إلى هناكَ عبرَ الزمان، وتحطُّنا هنا، من صحراء البدوي وطعمِ العسل إلى الغابة وفوح طيب نيسان، وتحاصرنا بالدين والوصايا، وتُفرِجُنا بالحبّ والغزلِ والشبق والعبقِ، هذه المراوغاتُ إنّما تؤكّد الحديثَ القائلَ بأنّ الشعراء لا يتّبعهم إلّا الغاوون: أحضن بالشفتيْن الوصايا/ أرسِم هذا البهاءَ/ بلهفةِ ذاكرةِ البدويّ/ إلى تمتمات الحليبِ/ ونجوى العسلْ/ أيا غابةَ الطيبِ في حضنِ نيسانَ/ أنتِ الأقانيمُ/ في واحدةْ[18]
وهكذا نراه ينوّع في المبنى، فمن الموزون المقفّى إلى شعر التفعيلة، وينوّع في موضوعاته وثيماته، فمن الأرض والتراب وكلّ نبتةٍ تشارك الشاعرَ قصائدَه ومعانيه، وتتراسل الحواسُّ فيها فنشمُّ ما نرى، ونسمعُ ما نتذوّق، إلى الأماكن والأحداث التي يعيّنها حينًا ويعمّمها أحيانًا، فيخلّدُ الفعلَ والحدثَ المحليَّ ويغورُ في أعماق الُهنا، وبذكاءٍ مراوغٍ يحمل الأماكنَ على الرموز، لتصبحَ صالحةً لكلّ الأماكن والأزمنة، وتصبحَ خالدةً؛ ومن الأماكن إلى التاريخ وما اجترحه، والجغرافية وما محت من معالم، وما تركت من ذاكرةٍ يحملها الشاعر ويوزّعها للقرّاء حزنًا وحثًّا، ويتّكئ على التناصّ الدينيّ بشكلٍ ملحوظٍ وبكثافةٍ غير ِمسبوقةٍ في الشعر الفلسطينيّ المحليّ وذلك لحاجةِ هذا المتبقّي في أرضه إلى الإيمان والأمان، والحمايةِ الإلهيّة والأسطورة الدينيّة التي ستحيي الموتى.
وهذا أستاذي الشاعر يحمل مسؤوليّة مجتمعٍ، مسؤوليّةَ جيلٍ قادمٍ يخاف عليه من عثَرات الزمان، لذلك كلّما رآني دعاني وقال لي تعالي لزيارتي عندي وصيّة لك، وتكرّرت دعوتُهُ والأيّامُ تسرقني، وفي يومٍ حلمتُ بأنّه يجب أن أزورَه اليوم، قمتُ مسرعةً اتّصلتُ وردّت أمُّ الأمين مرحّبةً، وكانت الزيارةُ التي لا تُنسى، هناك على قمّة الكرملِ، وفي بيتٍ مشرفٍ على كلّ ما في حيفا من جمالٍ، على البحر والميناء اللذيْن يشبهان الشاعرَ، باتّساعه، بعمقِه، بامتلائه، بمحبّته، بالرسوّ عندَه، كانا في الانتظار، وكان يومًا مميَّزًا لن أنساه أبدًا، قرأ الشعرَ، وحكى وروى وحمّلني وصيّته؛ قال لي: أولادنا واللغةُ العربيّةُ أمانةٌ عندكِ، فعليكِ الاهتمامَ بالمطالعةِ، لأنّنا بالمطالعةِ نبني الإنسان، نبني اللغة، نطوّر التفكير، ننمّي مجتمعَنا، نحافظ على مستقبلِنا، وأنا أقول لكَ أستاذي العزيز، بأنّني حملتُ وصيّتَكَ وعملتُ بها، وأعلنتها سنةَ القراءة والقارئ المميَّز، ونعمل على المطالعةِ من رياض الأطفالِ، من مكتبةِ الفانوسِ إلى المكتباتِ الصفيّةِ، إلى مسيرة ِالكتابِ، والمشاريعُ قادمة، والوصيةُ أمانةٌ في عنقي، وأخيرًا، ومن وحي اتّكاءاتكَ، ومن وحي عيد الغطاس الذي يصادف اليومَ، أقول لك إنّ المسيحَ تعمّد بالروح القدس، ونحن تعمّدْنا بطهرِ عطائكَ وشاعريّتكَ، فكلَّ عام وأنتَ وأم الأمين بألف خير.
مداخلة حنا نور الحاج: مساؤكم خيرٌ وسلام. لقاءاتي بأبي الأمين وجهًا لوجهٍ حتّى اليوم لا أظنّ أنّ مجموعَها يتجاوزُ عددَ أصابع اليدين الِاثنتينِ بكثير. من بينها لقاءُ اليوم، ولقاءان في مدرسة مار الياس الثانويّة في عبلّين، في أحدهما استضفنا هناك الأديبَ العزيز، فالتقى بنحو ستّين من طلبة الصفوف العاشرة يحسنون الإصغاءَ ويحترمون الموقف، صاروا اليوم في الخامسة والعشرين. في ذاك اللقاء الجميل، شَرُفتُ بتقديم الأستاذ حنّا أبو حنّا وبمحاورته، واليوم هئنذا أحظى بشرف المشاركة في تكريم هذا الكريم النبيل. أقلّ ما يمكنني فعلُه أن أشكر من أعماق القلب مَن أتاحوا لي هذا الحضورَ وهذه المشارَكة في التكريم.
ولأنّ التكريم لا يَحتمل إفاضات الكلام، سأحاول أن أوجز قدْر المستطاع. وإن صدر منّي ما يشبه المديح، فعذري أنّي مقتنع بأنّ ذاك ليس بمديح. هو حبّ وتقديرٌ يرتدي ثوبًا كالمديح. وإن بدا في بعض ما أقوله تعظيم، ففي الأمر بعضُ توهُّم. العظيم لا يحتاج إلى تعظيم -وإن كان يستحقّه ويستحقُّ كلَّ خير. صحيحٌ أنّ لقاءاتي الِاعتياديّةَ به لم تكنْ كثيرةً بما يرضيني، بيدَ أنّي التقيت به كثيرًا من خلال أبنائه /مؤلّفاته –وإن كنت لا أزال أشعرُ بالتقصيرِ في هذا الصدد.
بتأخّر سنواتٍ قرأتُ سيرةَ أبي الأمين الذاتيّة. صدر الجزء الأوّلُ من ثلاثيّتِه الحلوةِ تلك (“ظلُّ الغيمة”) عامَ ألفٍ وتسعِمئةٍ وسبعةٍ وتسعين، وأنا شرعتُ ألتهمُهُ في نهايةِ عامِ ألفين وسبعة. وحين انتهيت من قراءتِه، قلت في سرّي بتوبيخٍ معنِّف: “يا عيب الشوم عليك يا حنّا!” (وبالطبع لم يكن الموبَّخ حنّا هو أبا الأمين. بل كان الموبَّخُ هو سَمِيَّه المُعِزّ. كان الموبِّخُ نفسُه هو الموبَّخَ).
أمّا الجزآن الآخران (“مَهْرُ البومة” وَ “خميرةُ الرماد” الصادران عامَ ألفين وأربعةٍ)، فقد حظِيتُ بقراءتِهما بعدَ أيّامٍ قليلةٍ منَ انتهائي من قراءةِ الجزءِ الأوّل. بدأتْ رحلتي القرائيّةُ تلك في العشرينَ منْ كانونَ الأوّلِ عامَ ألفين وسبعةٍ، وانتهت في منتصفِ كانونَ الثاني عامَ ألفين وثمانية. هي أربعةُ أسابيعَ رافقتُ فيها حنّا أبو حنّا منَ المنبعِ إلى ما بَعدَهُ بكثير. لست أنسى مقاديرَ الإحساسِ بالِاغتناءِ والِامتلاءِ الذي رافقني خلال تلك الرحلة، أدبيًّا وفكريًّا وروحيًّا. وكعادتي حين أنفعلُ وأتفاعلُ معَ ما أقرأ، لم يستطعْ لساني إلّا أن يتحدّثَ ويتحدّثَ ويتحدّث… حدّثتُ الطلّاب، وحدّثتُ الزملاء، وحدّثتُ الأصدقاء. وكان منَ اللطيف جدًّا أنّ عددًا غيرَ قليلٍ من بينهم عبّروا عن رغبتِهِم في اقتناءِ كتب حنّا أبو حنّا تلك وغيرِها، فتمكّنّا بمساعدةٍ منَ المؤلّفِ نفسِه أن نوفّرَ لهُمُ المطلوبَ بأثمانٍ شديدةِ المعقوليّة؛ إذ كانت أبعدَ ما تكون عنِ التجاريّة. ولم يكتفوا بالِاقتناء، بل انضمّوا إلى فئة القرّاء.
يا أبا الأمين، لو نجحتُ في استذكار كلِّ ما قاله قرّاؤك المحبّون وما يقولون، ولو دوّنتُه وقلته، لطال الكلام. لكنْ دعني في هذا المقامِ أتخيّرْ لك ما لا أنساه ممّا قاله المرحوم صديقي الدكتور جبّور خوري، الذي عُرِفَ باهتماماتِهِ الكثيرة والمثيرة، ومن بينها شَغَفُه العظيمُ بالقراءة، ولا سيّما قراءةِ الروايات، وبأكثرَ من لغة (بالعربيّة والعبريّة والإنجليزيّة والإيطاليّة). صديقيَ المرحومُ الطبيبُ الطيّبُ جبّور، صاحبُ الذائقةِ الصعبةِ المتشدّدةِ التي لا يُعجبُها إلّا العَجَبُ العُجاب، حين أتمّ قراءةَ تلك الثلاثيّة، قال لي بحماسة المعجَب المنفعل: “يا رجل. صدّقني… لا أتردّد إطلاقًا في القول إنّ هذا حقًّا أدبٌ عالميّ، عالميٌّ بكلّ المقاييس”. لست أنسى كم سُرَّ صديقي، كم سُرَّ وسَرَّ حين بادر إلى التحدّثِ هاتفيًّا معَ أبي الأمين على مَسمعٍ واشتراكٍ منّي، ونقل إليه رأيَهُ وانطباعاتِهِ بصدقٍ وحبٍّ وتقدير!
كم حاولتُ (وأظنّ أنّه أحيانًا حالفني النجاح) أن أستثيرَ الطلبةَ والزملاءَ والأصدقاء، عبْرَ تعليقٍ على مؤلّفات الأستاذ حنّا أبو حنّا بقولي على مَسمعٍ منهم: “ما ألطَفَ أن تعرفَ وطنَك، تاريخًا ومكانًا، من خلالِ كتابٍ أدبيّ. في “ظلّ الغيمة”، وفي “مَهر البومة”، وفي “خميرة الرماد”، أنت تسافرُ في وطنِكَ الذي حرمَتْكَ مناهجُ التدريس أن تتعلّمَ تاريخَه كما يجدرُ وينبغي. بتلك الثلاثيّةِ تتعرّفُ وطنَكَ بعينِ أديبٍ وفؤادِ أديب وروحِ أديب وفِكرِ أديب. تتعرّفُ وطنَكَ فتحبُّهُ وتحبُّ مَن حبّبَكَ فيه بيـراعتِهِ البارعةِ الصادقةِ الحاذقة”.
وكم حاولتُ أن أستميلَهُم إليك، وإلى الأدبِ بعامّة، حين علّقتُ على أناقتِكَ ومهارتِك في صياغةِ عناوينِ كتاباتِك (لستُ أنسى سحْرَ كتابِك “فستق أدبي” عنوانًا ومضمونًا). في العنوان الجميل “ظلّ الغيمة” تتعدّدُ الإيحاءاتُ والدلالات. وكم أشغلني هذا العنوانُ الأنيقُ العميق. أتُراه عنوانًا ينطوي على إيحاءٍ بتواضعِ صاحبِ السيرة، إذ يعتبرُ عمرَهُ ظلًّا لغيمة، ظلًّا عابرًا سريعًا كسرعةِ سَهْمِ الوهم؟ أَمْ تُراه عنوانًا ينطوي على إيحاءٍ بحسرةٍ ما، حسرةٍ تسكنُ قلبَ الكاتبِ على انقضاءِ العمْرِ مهرولًا متعجّلًا؟ أَمْ هو يحملُ إيحاءً بتقديرٍ ما للنفسِ، باعتبارِ الغيمةِ رمزَ خيرٍ وعطاء؟ ولا تنتهي التساؤلات… غزيرةً تنثال، وفي ثنايا كلّ منها احتمالٌ لإجابة. وإن كان هنالك بَعدَ الإعجابِ مجالٌ لمخالفةٍ ما، فاسمح لي بذلك، أبا الأمين… هل سيرتُك الذاتيّةُ حقًّا ظلُّ غيمة؟ لو تُركَتِ التسميةُ لي، لكنت جعلتُها “ظلُّ الخـيمة”. كتابُك كمثلِكَ هو؛ خيمةٌ تجمعُنا بك. أراه ظلَّ خيمة، في صحراءِ الخيبةِ الملتهبة. يحلو لي أن أراها على هذا النحو، وبخاصّةٍ الآن ونحن أمامك، معَكَ في مساءٍ مشرقٍ كهذا المساء، على الرغم من سواد الأرضِ واكفهرارِ السماء. وقبل أن أنسى… حين استضفنا الأستاذ حنّا أبو حنّا في مدرستنا، سُقْتُ تساؤلاتيَ السابقةَ كلَّها عليه، بشأنِ دلالاتِ العنوان “ظلُّ الغيمة”، وبأدبٍ جمٍّ -وتمامًا كما يليق حقًّا بفارسٍ مُجَلٍّ في مضمارِ الأدب- امتنعَ عن إعطاءِ إجابة. بلطفٍ شديد أصرّ أن يتركَ الأمرَ لتفسيراتِ القرّاء، نائيًا بنفسِهِ عن تقييدِ المخيِّلة والفهمِ وحصرِهما في زاويةٍ محدَّدة، أو محدِّدة.
أمّا عنوانُ الجزءِ الأخيرِ منَ السيرة، “خميرة الرماد”، فلم أبخلْ على الطلبةِ بالتوضيح أنّ الخميرةَ والرمادَ مقترنانِ بالكهولةِ وما بعدَ الكهولة، وبما فيهما من نضْجِ واختمارٍ للتجربة.
وأمّا الجزءُ الثاني، “مَهر البومة”، فلم أشرح لأيّ كانٍ سببَ اختيارِ الكاتبِ لهذا العنوان. اكتفيتُ بإشارةٍ عاجلةٍ أنَّ الإجابةَ تتكشّفُ للقارئِ في الكتابِ نفسِه، ولا تحتاجُ إلى إعمالِ التخيُّل. وهي إجابةٌ مفاجِئةٌ مذهلة. وأنتم، أيّها الحضورُ الكرام، لن أجودَ بتوضيحٍ على أيٍّ منكم ممّن لديه فضولٌ لمعرفةٍ دلالةِ ذاك العنوانِ المدهشِ الغامضِ (“مَهر البومة”)، وليتَ مَن يعرفُ ينافسُني في البخلِ المتعمَّد! ليتنا نتابع تكريمنا لهذا الرجل المهمّ، حنّا أبو حنّا، من خلال قراءتِنا لأدبِه البديعِ الرفيع (ونحنُ من ذلك كاسبون). ودعوني أُسرُّ لكم بأمنيةٍ قرائيّةٍ شخصيّة: كم أشتاقُ وأرغبُ في قراءةِ تلك الثلاثيّةِ مرّة أخرى!
أستاذَنا أبا الأمين، إنّ وجودَكم -أنت وسائرِ القاماتِ العاليةِ من أهلِ الأدبِ والفنِّ عامّةً- نعمةٌ تُشكَرُ الأقدارُ عليها. وجودُكم -أنت وهُمْ- يزيلُ بعضَ الهمّ أوِ الكثيرَ منه، ويوفّرُ لنا متعًا وفوائدَ لا تُنكرُ إطلاقًا. وجودكم يهوّنُ على المرءِ بعضَ حَيرتِهِ وارتباكاتِه. منكَ وممّن هم كمثلِكَ من نبلاءِ حقولِ الأدب، نتعلّمُ الصبرَ والأناةَ والوطنيّةَ والإنسانيّة. منك ومنهم، نتعلّمُ كيف تكونُ المبادئُ والقِيمُ خبزًا يوميًّا. أنت ممّن تعلّمنا منهم -ولا زلنا نتعلّمُ- كيف يكونُ الحزنُ نبيلًا نقيًّا بهيًّا لا يُفقِدُ حاملَهُ البوصلةَ بالرغم منَ العواصفِ والأعاصير؛ فأنت الذي قلتَ في بوّابة حدائق صبرك:
لم أخبزْ كعكًا في فـُرني/ بالدمع عجيني/ بالأحزانْ/ لكنّ خميرتَهُ الإيمانْ/ وجياعٌ أهلي/ لا مائدةَ/ ولا سكّينَ ولا شرشفْ/ في أرغفتي طعمُ المنفى/ نكهةُ أقمارٍ صَرعى/ وطعمُ ترابٍ مغدورْ/ ونبيذٌ من روحي ينزف
أنت ممّن تعلّمنا منهم -ولا زلنا نتعلّمُ- كيف نبكي ونتماسك، فنُحيل بكاءَنا أشرعةً من تفاؤلٍ عاقلٍ وأملٍ لا يحيا المرءُ بدونِه. فأنت الذي قلت قبل إحدى وأربعين سنة، في يوم الأرض الخالد:
على جبين السحَرْ/ دماؤُهمْ/ تطلُّ من براعمِ الرمّانْ/ تُطلُّ من شقائقِ النعمانْ/ من مُهَجِ البِطّيخِ في البطّوفْ/ وفي تَوَهُّجِ الجذوعِ/ في مواقدِ الشتاءْ/ جمرًا يُشيع الدفءَ والحنانْ/ قبورُهُمْ في القلبْ/ في الميجنا../ في الأوفِ../ في العتابا/ يا قلبُ يا مقبرةَ الأحبابْ!/ سربُ العصافيرِ الذي بدمِهِ تضرّجَ الجليلْ/ سربُ العصافيرِ / القرابينِ الذي/ يَرِفُّ فوقَ هامةِ الجليلْ/ على سفوحِ الوجدْ/ على ذُرى العذابِ والأملْ/ قنطرةٌ جديدةٌ حتّى يَهِلَّ الفجرْ
وإلى مضمارٍ آخرَ وأخيرٍ أنتقل. أقرّ وأعترف… قلّما يستهويني ما يُكتبُ لدينا من شعرٍ وقصص على أنّه مكتوبٌ للأطفال. ومَرَدُّ هذا أنّي أستشعرُ أحيانًا في ما يُكتبُ باعتبارِهِ أدبًا للأطفال، أستشعرُ إهانةً للأطفالِ أنفسِهِمْ غيرَ مقصودةٍ أوِ استهانةً بهِمْ واحتمالَ تخريبٍ لذائقتِهِمُ الخاصّةِ الغضّة. وذلك أنّ تقديمَ المعلوماتِ والنصحِ والتوجيهِ في قالَبٍ منَ الوعظِ الفجِّ، والمباشَرةِ المزعجةِ، يهبطُ بالأدب إلى مزالق ومَهاوٍ تحرمُهُ أن يُدْرَج ضمن ما تصحّ تسميتُهُ بالأدب.
في عُجالةٍ أشيرَ إلى لطفِ وظَرفِ ما كتبَهُ حنّا أبو حنّا في ديوانِ الأطفال “راعي البراعم”، ديوانِهِ الذي أعتقدُ أنَّه يحملُ طاقةً حقيقيّةً في أن يُعجَب به الصغارُ والكبارُ على حدٍّ سواء. لديّ اقتناع عميق أنَّ أجملَ أشعارِ الصغارِ هي تلك التي لا تتخطّى اهتمامَ وإعجابِ الكبار. في ما يلي بعض مقتطفات من تلك اللطائف التي يتضمّنها “راعي البراعم”، أسوقها دونما تعليق.
تقول قصيدته “بهدوء”: لي أذُنٌ تسمعُ همسَ النسيمْ/ ولي بهذا الرأسِ عقلٌ سليمْ/ أفهمُ صوتًا ناعمًا دافئا/ يقولُ ما يريدُهُ هادئا/ لا أفهمُ الزعيقَ والزاعقينْ/ أفهمُكُمْ إنْ كنتمْ هادئينْ
وتقول قصيدته “لماذا؟”: قل لي:/ لماذا الكبارْ/ لا يُكرمونَ الصغارْ؟/ مِنْ دونِ أنْ يسألوا/ يتّخذونَ القرارْ!/ نمشي على رأيِهِمْ/ في الليلِ أوْ في النهارْ/ أريدُ أنْ يعرفوا/ حقّيَ أنْ أُستشارْ!
وقصيدته القصيرة “أختي”:/ هذهِ أختي سميرةْ/ أصبحَتْ حالًا كبيرةْ/ لبسَتْ كندرةَ الماما/ وسارَتْ كالأميرةْ
وفي المقابل تقول قصيدته “أخي”:/ لَـمّا وُلدَ أخي/ أحسسْتُ بأنَّ الكلَّ يحبّونَهْ/ أمّي تحضنُهُ بحنانٍ/ وتُقبّلُ فمَهُ وجبينَهْ/ وأبي يتأمّلُهُ فرِحًا/ ويُقبّلُ خدَّهُ وعيونَهْ/ وأنا مثلُ الثوبِ البالي/ يُهملُهُ الناسُ ويرمونَهْ/ حِبّوهُ.. لكنْ لا أرضى/ أنْ أُصبحَ في حبّي دونَهْ/ إنّي أحببْتُ حلاوتَهُ/ لكنَّ الغَيْرةَ ملعونَهْ
أمّا قصيدته “محتار” فتقول:/ أمّي تَعجبُ/ وأبي يسألْ:/ “ماذا تصبحُ في المستقبلْ؟”/ لـَمّا مرضَتْ أمّي قلْتُ:/ “أتمنّى لوْ كنتُ طبيبا!”/ وقرأْتُ كتابًا أعجبَني:/ “ما أحلى لوْ صرْتُ أديبا!”/ نادتْني الطيّارةُ قالَتْ:/ “هيّا لتصيرَ الطيّارْ”/ لكنّ السفُنَ تناديني:/ “بلْ أحلى لوْ أنّكَ بحّارْ”/ أمّي تَعجبُ/ وأبي يسألْ:/ وأنا محتارٌ../ محتارْ!!
وبعد… ذاك الطفلُ المتحيّرُ الذي سكنَ في أعماقِ أبي الأمين، ذاك الطفلُ الذي دغدغتْهُ الأحلامُ وحيّرتْهُ، ذاك الطفلُ المتحيّرُ بشأنِ ما سيكون عليه حين يكبَر (هل سيكونُ طبيبًا أمْ أديبًا أمْ طيّارًا أمْ بحّارًا)… هذا الطفلُ الذي وُلِد بعدَ ولادةِ المرحوم أبي بسنة ونصف السنة، هذا الطفلُ أصبحَ كلَّ تلكَ وأكثر… أصبح طبيبًا وأديبًا وطيّارًا وبحّارًا… وأدبُهُ خير شاهد على ما أقول. تصبحون دومًا على أدب جميل… وشكرًا لكم
مداخلة الشاعر مجيد حسيس في رسالة تعذّر: الأستاذ الشاعر الأديب أبو الأمين حنّا أبو حنّا، جدير بتقدير واحترام المجتمع العربي بأسره، على ما قدّم وأعطى خلال سنوات طويلة، من العمل التربويَ والأدبيّ، وأنا كأحد طلابه في الكليّة العربيّة الأورثوذكسيّة وفي جامعة حيفا، أرفع قبّعتي منحنيًا أمام هذه القامة الأدبيّة الرفيعة، وأمام مُربٍّ أعطى من نفسه ليُثري ألباب طلّابه. وللأخ الصديق فؤاد نقاره تقديري واحترامي على لفتاته الكريمة بتكريمه كلّ الذين تركوا بصماتهم المشرّفةٓ على صفحات مجتمعنا. أرجو الاعتذار عن الحضور، بسبب نقص المناعة عندي، متمنّيًا لأستاذنا الحبيب العمر المديد ، صحةً سعادةً وهداة بال، ومزيدًا من عطاء لا ينضب معينه. فلا كانت سنينُ العمرِ تُحصى إذا خانت عهودًا للمُـربِّـــي
الصور المرافقة بعدسة الزميل الإعلاميّ رائف حجازي
[1] أبو حنّا، الأعمال الشعريّة، ص. 465.
[2] أبو حنّا، الأعمال الشعريّة. ص. 465.
[3] طه، إبراهيم. البعد الآخر في الأدب الفلسطينيّ المحليّ، ص. 45، الناصرة، 1995.
[4] حنّا أبو حنّا، الأعمال الشعريّة، ص. 305، مؤسّسة المواكب- مجلّة “مواقف”، الناصرة 2008.
[5] ن.م. ص. 452
[6] ن. م. ص. 432.
[7] حنّا أبو حنّا، الأعمال الشعريّة، ص. 503.
[8] أبو حنّا، الأعمال، ص. 253.
[9][9] ن.م. ص. 346
[10] ن.م. ص. 194.
[11] حنّا أبو حنّا، الأعمال الشعريّة. “هموم القندول”، ص. 273، المواكب، الناصرة 2008.
[12] أبو حنّا، الأعمال الكاملة. ص. 256
[13] ن.م. ص. 258.
[14] أبو حنّا، الأعمال. ص. 237.
[15] ن.م. ص. 187.
[16] أبو حنّا، الأعمال الكاملة، ص. 17.
[17] ن.م. ص. 18
[18] ن.م. ص. 29