عهدُنا أن نتصدّى للإمبريالية والصهيونية والرجعية وأن نسحق أداتهم المجرمة عصابة الإخوان المسلمين العميلة.
أمام المرآة رحتُ أُردّد هذه العبارة لأحفظها من دون أن أفكر بفحواها. هكذا طُلب منّا. ردّدتها طويلاً وأنا أقصّ “كنزتي” العسكرية ليبقى منها ياقة أرتديها تحت السترة العسكرية.
في صباح كل يوم كنت ألملم دفاتري السوفييتية التي استُبدِلت فيها صورة ستالين بصورة “قائد مسيرة التصحيح”، وأجمعُ بعض الكتب بما فيها كتاب القومية العربية المشبّعة بأقوال “القائد الرمز” حافظ الأسد، ولاحقاً بأقوال”السيد الرئيس الدكتور بشار الأسد”، وأتّجه إلى المدرسة.
هكذا نشأنا نحن تحت قبعة “البعث” بإشراف “الأب القائد”، مشاريعَ جنودٍ صغارٍ منذ عمر السنوات السبع. إذ من ذاك العمر كان واجباً علينا الإنتساب لمنظمة “طلائع البعث” مروراً بـ”شبيبة الثورة”، وصولاً إلى الحزب “العملاق”.
الساعة السابعة صباحاً، في طابور المدرسة نصطف جميعنا بانتظام، نرتدي قبعات الزي الرسمي (السيدارة)، تكشف الطالبات المحجّبات عن شعورهن، فلا حجاب مسموحاً داخل المدارس. على خصورنا علّقنا “الحزام الزيتي” كالرجال (المعروف بإسم النطاق)، يتم التأكد من خلو ملامحنا من أي تبرّج عبر إمساك رموشنا وحفّها بين أصابع مدرِّبة “العسكرية”. في بعض الحالات تمسك المدربة برأس إحدانا وتضعه تحت الماء وتفرك الوجه بيديها الغليظتين، حتى تتأكد من أن لا شيء سيعكّر الوجه البعثي في الطابور المقدّس الذي تشرف عليه.
نأخذ الإيعاز، نرفع رؤوسنا باتجاه العلم السوري المرفرف على حافة الحائط الحجري الجاف مستعدّين للأوامر العسكرية، وأمامنا يقف أساتذتنا بزيّهم المدني، ثم يصدح النشيد الوطني.
المناسبات الوطنية، ما أكثرها في ظل انتصارات الأسد العديدة: ميلاد الحزب، ذكرى الحركة التصحيحية المجيدة، وحرب تشرين التي انتصرت فيها إرادة “الجيش السوري على العدو الغاشم”، بحسب أقوال “الرئيس الخالد حافظ الأسد” التي غزت جدران المدرسة كلها والتي تترافق مع رسومات تصور “قواتنا الباسلة”.
وكنا نحن نستعد لهذه المناسبات، كما اعتادت ان تتحضر لها كل الدوائر والمؤسسات الحكومية والخاصة، وكان يسبق هذا اليوم المجيد عطلة للتحضير للرقصات والعروض المسرحية والهتافات والأناشيد التي تمجد القائد وتبجّل القائد وتحتفي بالقائد. وكنّا نقف جميعنا “رعايا الأسد” مستعدين، ويبدأ الأطفال مرتدين زيّ الطلائع بالغناء أمام صورة الرئيس: “للبعث يا طلائع، للنصر يا طلائع، أقدامنا حقول، طريقنا مصانع، وتلمع الرايات في مواكب الطلائع، يا راية الحرية يا شعلة القضية….”، وهكذا يتحول الطفل إلى عسكري، ويبدأ بتعلّم أن يكون جزءاً من القطيع، والتبعية الخالصة للقوة الأكبر، ويعتاد على ترداد ما يقال له.
ويهجم “أشبال الأسد” شبيبة الثورة، برقصة عسكرية على وقع أنغام نشيد “تسلم للشعب يا حافظ، أمل الملايين يا حافظ، علّيت الراية يا حافظ …”، فيما يجهِّز رجال “حزب البعث” من طلبة الثانوية عرضهم المسرحي في محاولة لإعادة تمثيل منجزات وانتصارات الحزب بقيادة الأسد. وتختتم الاحتفالات ويشبع النظام غريزته في السلطة برؤية الجيل الجديد خاضعاً له.
أنت كسوري مراهق مُجبَر على الانتساب لشبيبة الثورة ومن ثم حزب البعث، خيارك فيهما أن تنتسب أو أن تنتسب. أما أن تكون مراهقاً كردياً سورياً، فعليك أنت غير العربي أن تقول، على نحو ما حصل مع زميلتي: “أمّة عربية واحدة ذات رسالة خالدة”، فهذه مفارقة لا تعنيهم. عليك أن تقول ذلك، حتى لو لم تكن مؤمناً به. قلُه وغادر إلى منزلك ونم.
لأول مرة تشعر بأن لسانك تخدر، وأن أطرافك بدأت ترتجف، وهنا تتعلم الانصياع لأوامر النظام وتشعر بالخوف للمرة الأولى على نفسك وعلى أسرتك، تتعلم الصمت تحت قسم الانتساب وفق الفساد الدستوري للمدرسة والقائمين عليها، فيما يتعلم الطلبة في بلاد أخرى كيفية التعامل مع مرحلة البلوغ.
10 حزيران 2000 مات حافظ الأسد، وكان موته معجزة سماوية، كنّا نظن أن الديكتاتور “الأب” لا يموت، فتمجيده اليومي أثناء تعلّمي للنطق، جعل موته عصياً حتى على الآلهة.
حينما استلم بشار الرئاسة دخلتُ إلى المدرسة بعد عطلة صيفية توزّعت بين الحزن على موت “الخالد”، والتهليل بتعيين الابن، كنا مرتبكين حول ما سنردّده من شعارات، وإذ بها لم تختلف إلا بإضافة كلمة خالد ملازمة لإسمه، بقي قائدنا إلى الأبد الأمين (الخالد) حافظ الأسد، و”استرح”…
دخل الجميع إلى صفوفهم، دفعني فضولي المراهق إلى الركض نحو المديرة. أخذتُ نفساً عميقاً ووضعت رأسي في الأرض (بحسب العادة) وقلت لها: “بما إنو حافظ مات واستلم بشار، ليش ما بنقول قائدنا إلى الأبد الأمين بشار الأسد”، أمسكتني من شعري في حينها وأدخلتني الى مكتبها وأغلقت الباب، وقالت بصوت خافت: “الرئيس حافظ الأسد ما بيموت، متل الله”.
فتحَت الباب، وضعَت يدها الثقيلة على كتفي الصغير، نادت مدربة “العسكرية” وقالت لها: “نزّليها لتحت خلّيها تزحف كل الساحة، وبعدين توقف على رجل وحدة طول النهار”. لم تسألها عن السبب ولم يكن يحق لي الاعتراض آنذاك.
ذاك اليوم أصابني إرهاق قوي بما يريدونني أن أكون، مراهقة تمارس بعثهم بكل استسلام، إلى أن تم تسريحي من المدرسة بعد الثانوية، وبدأتُ مرحلة أخرى أركل فيها كل ما في داخلي من نظامهم، بحذر.. عبر غزة ومصر وليبيا، إلى أن أتت اللحظة لأفجّر كما فعل الكثيرون الخوف من الأب الخالد والابن، ومن نظام المخابرات الذي ألصق نفسه على نضوجي، وكانت الولادة الحقيقية والبلوغ الطبيعي لأجيال عدّة تربّت كالعسكر الخاضع لتخدم الأسد، بأن تلعن روحه وتثور ضده وضد 40 عاماً من تاريخهم معه.
الساعة الواحدة ظهراً في أحد أيام آذار 2012 خرجَت 3 فتيات في وسط دمشق، حملن لافتات الحرية، وتوجّهن نحو المدرسة التي تلقّين فيها تعليمهن. وقفن أمامها، على رغم وجود رجال الشرطة وعناصر الأمن في كل ثقوب الشارع. على مرأى من كل العابرين، رفعن لافتاتهن في وجه 18 عاماً.
لقد نفّذت هؤلاء الفتيات الثلاث ثورتهن الخاصة في وجه النظام وانتقمن لطفولة دمّرها نظام”البعث”.
صحيح أن لكل سببه كي ينخرط في الثورة على النظام، لكن كل السوريين تعرضوا لتشويه واحد في مدارس “البعث” العسكرية.