ميشيل كيلو – الشرق الاوسط
هما دبلوماسيان سابقان: روسي وأميركية. وقد جاءا إلى لقاء صير بني ياس، أو دافوس الرملي، في دولة الإمارات العربية المتحدة، ليقولا رأيهما، شبه الرسمي، ويتناقشا مع حضور متنوع الجنسيات والمناصب والأدوار، في بعض مشكلات عالمنا الاستراتيجية والراهنة.
ومع أنهما كانا من أكثر الناس أهمية في بلديهما، فإنني لن أذكر اسميهما، وسأكتفي بسرد بعض الوقائع التي جرت بينهما وبيني، بعد أن أثار اهتمامهما أنني مواطن من بلاد تصنع ثورة ستمس نتائجها بالتأكيد مصالح بلديهما ومكانتهما من المشرق العربي خاصة، والمنطقة العربية عامة. وكنت قد قدمت ما يشبه خريطة طريق للخروج من الأزمة السورية، فجاءا يستوضحان بعض مفرداتها وتفاصيلها.
سأل الروسي بعد أن قدم شرحا طويلا حول موقف بلاده: وكيف ستوقفون اندفاع بلادكم إلى الحرب الأهلية، في حال استمر تصاعد دور المتطرفين فيها، وازداد عجزكم عن السيطرة عليهم، وتحولوا إلى قوة رئيسية أو حاسمة على الأرض؟ ألم يكن التفاهم مع بشار الأسد أفضل لكم من السقوط تحت رحمة من لن يقبلوا بكم، وليس بينكم وبينهم أي قواسم مشتركة؟
وقالت الأميركية إن بلادها لن تتدخل في سوريا خشية أن تجرها إيران إلى معركة بلا نهاية قد تخسرها، وليس لأنها لا تملك الأدوات والقوة اللازمة للتدخل، وأضافت أن الصراع مع إيران قد يقوض توازنات القوة القائمة اليوم في المنطقة، والتي تريد واشنطن الحفاظ عليها، بعد أن بذلت جهودا حثيثة من أجل إقامتها وإدامتها.
قلت للروسي: أنتم تقفون وراء صعود التطرف الرسمي وغير الرسمي في سوريا؛ الرسمي لأنكم تساندون وتسلحون نظاما أنكر أن يكون في بلاده أزمة تتطلب حلا، وسد أبواب السياسة وفتح أبواب الحرب على من طالبوه بحقوق أقر أنها شرعية، ثم انقض عليهم طيلة الفترة الماضية قتلا وتدميرا. وأنتم لا تحاولون ثني هذا النظام عن عنفه الذي طاول جميع السوريات والسوريين دون أي استثناء، وفرض عليهم تضحيات جسيمة قوضت وجودهم، وإنما شجعتموه على المضي في جرائمه بأمل تمكينه من الانتصار، ولم تفكروا في ما سيبقى له من شرعية في حال انتصر فعلا على مواطنيه، وحول سوريا إلى ركام. كما أنكم تقفون وراء التطرف غير الرسمي، لأنكم، بمساعدتكم النظام، تطيلون أمد الصراع وتسهمون في دفع السوريين إلى تطرف متزايد ردا على تطرف النظام المتزايد. أنتم تخشون توطن المتطرفين في سوريا وإحرازهم مكانة مميزة وقيادية فيه يمكن أن تلعب دورا مهما في انتقاله إليكم، لكنكم تستقدمونه بقوة إلى دياركم لأنكم تزرعونه بعمق في الأرض السورية، فكأنكم تنتحرون خشية أن تموتوا. وما لم تتخلوا عن النظام وتتبنوا مطالب الشعب، فإنكم تكونون كمن يزرع عاصفة خوفا من نسمة، ولن تلبثوا أن تعانوا الأمرّين من التطرف الذي تغذيه سياساتكم الخاطئة في سوريا، عندما سينتقل إليكم، علما بأنكم لن تواجهوا شيشانا جديدة، بل تمردا قد يكون واسعا ويشمل قسما كبيرا من مواطنيكم، الذين يفتقرون إلى الكثير مما كان يجب أن يحصلوا عليه من حقوق وثروة. وإذا لم تتحركوا بسرعة وبمبادرات جدية وصادقة، فإنكم لن تجدوا أي صديق يدافع عنكم بين السوريين، وستخسرون سوريا وجزءا واسعا من شعبكم في روسيا ذاتها، فضلا عن ملايين المسلمين في العالم بأسره، وستضعون أنفسكم خارج العالم الأخلاقي الذي لا بد أن تنهض عليه حياة الإنسانية اليوم.
سألت الأميركية باختصار: لو هزم الشعب في المواجهة مع النظام، هل كنتم ستعتبرون أنفسكم منتصرين أمام إيران لأنكم تركتموها تهزمه هو وتنقذ نظامه؟ لم تهزموا أمام إيران في سوريا، لأن شعبها حال دون ذلك بفضل الهزيمة التي ينزلها بنظامه وبحليفه الإيراني. لقد خاض الشعب السوري معركة لم تكن من اختياره، جعلتها ضرورات استراتيجية كثيرة معركتكم، وحقق انتصارا تحول بقوة الواقع إلى انتصار لكم، مع أنكم لم تقدموا له أي عون، ولم تقوموا بدوركم المفترض في الصراع باعتباره فرصة يمكن أن تحرزوا من خلالها انتصارا مؤكدا، لذلك توقف كل شيء على تضحيات السوريين، الذين أخرجوا لكم الكستناء من النار، لتأكلوها وأنتم تتفرجون باستمتاع على موتهم، كما لم تسهموا بأي دور أو تعبروا بأي شكل ملموس عن امتنانكم لهم، ليس فقط لأنهم وفروا عليكم تضحيات كثيرة بالرجال والمال، بل كذلك لأنهم أنقذوكم من هزيمة أمام إيران كان من شأنها أن تحول لفترة طويلة بينكم وبين تحقيق أي شيء في صراعكم معها، وأن تمكنها من تحديكم في أي بلد من المنطقة. بدل أن تبرروا عزوفكم عن القيام بدور تمليه عليكم مسؤولياتكم الدولية، تمسكتم بأكاذيب حول وحدة المعارضة، وانقسام الشعب السوري، وقوة جيش السلطة، وكان عليكم أن تسألوا أنفسكم: إذا كان شعب سوريا حقق إنجازاته ضد جيش السلطة «القوي» رغم عدم وحدة المعارضة وانقسام مجتمعه وبأقل قدر من السلاح، ماذا كان سيحدث لو تمت مساعدته وتمكن من تجاوز انقساماته وتهافت معارضته؟
أنتم لم تفعلوا شيئا من هذا، بل تركتم السوريين يموتون عوضا عنكم، مع أنهم لم يقرروا يوما خوض معارككم الإقليمية، لسبب بسيط هو أنها ليست معاركهم، ولأن من فرض عليهم الصراع مع إيران هو نظامها الذي قاتلهم بلا هوادة، ونظامهم الذي مكنته أسلحتها وذخائرها من قتلهم بالجملة.
وعلى العموم، فأنتم لم تفهموا بعد المنطويات التاريخية لثورات الربيع العربي، وإلا لما اتخذتم منها مواقف سخيفة وحتى عدائية.
أقرت محاورتي بأن الشعب السوري يخوض بالفعل معركة أحد أطرافها المعادية له هو إيران: حليفة نظامه، وقالت: إن انتصاره فيها يجنب أميركا هزيمة استراتيجية الدلالات. قلت وأنا أدير ظهري منصرفا: ويربحها معركة أخرى هي شطب سوريا من خارطة القوى في المنطقة، ويجعلها تضرب عصفورين بحجر واحد، دون أن تبذل أي جهد أو تخسر أي جندي.
كان وقت العشاء قد حان، فدعتني إلى الجلوس قربها لإكمال حديثنا. كان الغضب والاستياء يتصاعدان في نفسي، فتركتها وقصدت مائدة أخرى وقد فقدت رغبتي في تناول الطعام!