في بداية المقال اود ان اتقدم لكل الاخوة المسيحيين الاعزاء باجمل التهاني واطيب الامنيات بمناسبة عيد الميلاد
المجيد, متمنيا لهم جميعا كل السعادة والسلام والمحبة والسرور.
تشرفت في الأسبوع الماضي بالمشاركة في برنامج (أولاد إبراهيم) المتميز ,والذي يقدمه الأستاذ الكريم والإعلامي
الفاضل الشيخ (صمؤيل فوزي) وكانت الحلقة الحوارية حول ميلاد المسيح ونبوات العهد القديم, بمشاركة الأستاذ الكبير والباحث المتميز حضرة الدكتور (فريز صموئيل) والذي تشرفت وسعدت كثيرا بمعرفته والمشاركة معه في حوار شيق ومتشعب.
خلال الحوار وعند الحديث عن نسب السيد المسيح,ذكرت في كلامي ان موضوع نسب السيد المسيح هو (ورطة) مسيحية!
والمتتبع لهذا الموضوع وكيفية طرحه ومناقشته من قبل اللاهوتيين المسيحيين, سيدرك مقدار الحرج والتخبط الذي
يحاول اللاهوتيون إيجاد مخرج منه من خلال وضع تفسيرات متعددة وأحيانا كثيرة متناقضة!
إن أصل هذه الورطة المسيحية يرجع إلى سببين رئيسيين, الولادة العذرية للمسيح وحقيقة المسيح الموعود الذي ينتظره
اليهود.
اليهود ومنذ زمن السبي البابلي والى اليوم ينتظرون قدوم المسيح الموعود , والذي سيكون قائد عسكري ظافر وملك
متمكن يعيد لليهود مجدهم ويجمع شتاتهم ويقيم مملكتهم العظيمة التي ستخضع لها كل شعوب الأرض وسيحل السلام والإخاء في الأرض وللابد.
وهذا الملك اليهودي الموعود سيكون من نسل النبي (داوود) وسينجح في فرض الشريعة الموسوية وفرض السلام بين الشعوب
وسيستمر ملكه في ذريته إلى الأبد, ومن ذلك ندرك ,أنه حسب المعتقد اليهودي , فالمسيح الموعود هو رجل مبارك ومسدد من الله سيكون ممسوح بالزيت المقدس( ماشيح) وسيولد ولادة عادية من أبوين بشريين, وسيتزوج ويكون له ذرية ستحكم الارض من بعده والى الابد
(هكَذَا قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ: إِنْ أَعْطَى الرَّئِيسُ رَجُلاً مِنْ بَنِيهِ عَطِيَّةً، فَإِرْثُهَا يَكُونُ لِبَنِيهِ. مُلْكُهُمْ هِيَ
بِالْوَرَاثَةِ
…وَلكِنَّ مِيرَاثَهُ يَكُونُ لأَوْلاَدِهِ
…مِنْ مُلْكِهِ يُورِثُ بَنِيهِ، لِكَيْلاَ يُفَرَّقَ شَعْبِي، الرَّجُلُ عَنْ مِلْكِهِ) سفر حزقيال 46: 16-18
لذا فاليهود كانوا ولا زالوا ينتظرون مسيحا موعودا, تكون ولادته طبيعية, ولا ينتظرون شخصا مولودا من عذراء او بصفات إلهية.
بالعودة الى النصوص المسيحية , نلاحظ ان قصة الولادة العذرية ليس لها أي ذكر في أوائل النصوص من حيث التسلسل الزمني, فلم يرد لها ذكر في إنجيل
مرقص (اقدم الاناجيل زمنيا) ولا حتى في رسائل بولس التي هي أقدم حتى من إنجيل مرقص, بل على العكس نجد ان بولس يذكر في أحد رسائله فقرة مهمة تقول:
( لكنه أفرغ نفسه, متخذا صورة عبد كونه ولد كما الناس) فيلبي 2\7
ورغم تعمد المترجمين العرب تحوير هذا النص وتزويره من خلال تحريف الترجمة إلى ( صائرا في شبه الناس) الا ان المعنى واضح جدا, ويشير إلى أن
يسوع كان مولود بشكل شبيه بكل الناس, ويؤكد هذا المعنى أيضا قول بولس في رسالته لأهل غلاطية (4:4)
(أرسل الله ابنه مولودا من امراة مولودا تحت الناموس)
ونلاحظ هنا ان بولس لم يذكر اي شئ عن الولادة العذرية واعجازها!
مع التنبيه إلى ان استخدام لفظة (ابن) في الفهم اليهودي تعبير مجازي يعني العبد المؤمن, فكل مؤمن هو (ابن) للأب الذي هو الرب.
ان أول ذكر لقصة ولادة يسوع الناصري العذرية يظهر لنا في إنجيل(متى) ومن بعده إنجيل ( لوقا) حيث يرد ذكر هذا الحدث الاعجازي مع الحرص على ابقائه
(سرا عائليا!) لا يعلم به الا السيدة مريم و زوجها \ خطيبها (يوسف النجار) مع مفارقة غريبة ان كاتب الانجيل او كتبته لم يعلمونا من أين عرفوا هذا السر الذي لم يتحدث عنه ابدا لا السيد المسيح ولا السيدة امه ولا زوجها يوسف؟!!
ان فكرة الولادة العذرية للآلهة المتأنسة كانت رائجة ضمن الاساطير الاغريقية والرومانية المنتشرة في ذلك الزمن في جميع ارجاء الامبراطورية
الرومانية والتي كانت فلسطين القديمة جزءا منها, وهناك أمثلة كثيرة على أبناء للرب ولدتهم أمهاتهم ولادة عذرية
مثل (اوزيريس, هيراقليس, حورس, اتيس) وغيرهم, وكلهم كانوا أبناء آلهة وولدوا في يوم 25 ديسمبر بالمصادفة!!
ونتيجة لتأثر كتبة الأناجيل بالمناخ الفكري العقدي الرائج , وتلبية لنوازع الرغبة في (اسطرة) الشخصية المقدسة, تسللت فكرة الولادة العذرية
للنصوص الإنجيلية, لتتطور لاحقا ليصبح المولود ابنا حقيقيا( لا مجازيا) للرب ,ثم يصبح فيما بعد هو الرب نفسه!
وبالعودة الى انجيل (متى) الذي أورد كاتبه لأول مرة, قصة الولادة العذرية, نجد الكاتب يصر في بداية إنجيله على نسبة يسوع الناصري الى (داوود)
ابن ابراهيم ,من اجل غرض مهم ثم يسرد نسب يسوع من أبيه (يوسف النجار) بعدها يذكر أن مريم كانت (مخطوبة) ليوسف وقد حل عليها روح القدس فحبلت, ثم رأى (يوسف) في المنام ملاكا يخبره ان (امراته) حبلى من الروح القدس!
وفي انجيل متى لا نجد اي دليل على ان الجنين هو ابن(حقيقي) لله أو جزء منه ,حيث لم يذكر الكاتب سوى أن الروح القدس حل على السيدة مريم, ولا
يعني هذا ان الروح القدس قد قام مقام الزوج!, وخصوصا ان الروح القدس قد حل على (اليصابات) ايضا اثناء حملها بابنها (يوحنا المعمدان) وامتلأت منه! (وَامْتَلأَتْ
أَلِيصَابَاتُ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ) لوقا 1/41
وكعادة كاتب إنجيل (متى) في سعيه لربط القصص التي يخترعها بإشارات من العهد القديم, حاول أن يربط بين الحكاية التي اخترعها مع فقرة واردة في
سفر اشعيا (7\14) تقول:
( هاهي العذراء تحبل وتلد ابنا وتدعو اسمه عمانئويل)
ولأجل ان يجعل الربط متسقا ومصدقا للقصة المخترعة عمد الكاتب إلى اجتزاء النص والتحريف ,فقام بوضع كلمة (العذراء) بدلا من كلمة( الشابة) ليمرر
فكرته ويعطيها سندا نصيا من خلال تزوير معنى الكلمة واقتطاع قصة حدثت وانتهت قبل مئات السنين, ليجعلها بشارة مستقبلية تحققت بولادة يسوع!
أما إنجيل (لوقا) فقد أورد قصة الحمل والولادة بشئ من التفصيل في الإصحاح الأول 31-35
(وَهَا أَنْتِ سَتَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ ابْنًا وَتُسَمِّينَهُ يَسُوعَ.
هذَا يَكُونُ عَظِيمًا، وَابْنَ الْعَلِيِّ يُدْعَى، وَيُعْطِيهِ الرَّبُّ الإِلهُ كُرْسِيَّ دَاوُدَ أَبِيهِ،
وَيَمْلِكُ عَلَى بَيْتِ يَعْقُوبَ إِلَى الأَبَدِ، وَلاَ يَكُونُ لِمُلْكِهِ نِهَايَةٌ
فَقَالَتْ مَرْيَمُ لِلْمَلاَكِ: «كَيْفَ يَكُونُ هذَا وَأَنَا لَسْتُ أَعْرِفُ رَجُلاً؟»
فَأَجَابَ الْمَلاَكُ وَقَالَ لَها: «اَلرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ، وَقُوَّةُ الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ، فَلِذلِكَ أَيْضًا الْقُدُّوسُ
الْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ابْنَ اللهِ )
ومن النص المتقدم نلاحظ ان الملاك أخبر السيدة مريم بأن جنينها سيكون ابنا لداوود ووارث لملكه العظيم ولن يكون لملكه نهاية, (وهذا الأمر لم
يتحقق!) وأنه (سيدعى) ابن العلي وابن الله ولم يقل لها انه ( سيكون) ابن الله أو ابن العلي! والفرق كبير جدا!
فحسب نصوص الانجيل, لم يكن السيد المسيح الوحيد الذي (يدعى) ابن الله, فكل من يصنع السلام سيدعى كذلك
(طُوبَى لِصَانِعِي السَّلاَمِ، لأَنَّهُمْ أَبْنَاءَ اللهِ يُدْعَوْنَ) وكذلك كان اليهود يدعون بابناء الله, وقد (دعى) الكتاب المقدس قضاة
اليهود بانهم ابناء العلي ( أنا قلت إنكم آلهة، وبنو العلي تدعون كلكم) مزمور 82\7
ويتضح لنا أن النصوص الإنجيلية التي ذكرت حمل وولادة يسوع الناصري الاعجازية, لم تشر الى أن المولود سيكون الها مستقبليا ,ولا مولودا بصفات
إلهية, وإنما ذكرت ان حمله وولادته جاءت بقرار ومباركة الروح القدس, كما كان الأمر مع ام يوحنا المعمدان وحملها الاعجازي ايضا, والذي تم بشكل مختلف عن حمل مريم بيسوع ولكنهما متشابهان من ناحية حلول بركة الروح القدس في الحالتين .
وقد بقي موضوع الحمل العذري للسيدة مريم سرا , واعتقد المجتمع ان السيدة مريم حامل من زوجها يوسف النجار.
ويصر اللاهوتيون على تصوير هذا الأمر وكأنه تدبير رباني لأحكام خطته, من خلال خداعه للناس وايهامهم ان (ابنه) يسوع هو (ابن) الرجل اليهودي
الطيب (يوسف) وبذلك مرر الله خطته باستغفال الجميع ما عدا مريم وزوجها, والأشخاص الذين كتبوا الأناجيل لاحقا!
وبالعودة إلى نسب يسوع الناصري, فقد كان طبيعي جدا أن يعامله مجتمعه اليهودي على اساس انه ابن يوسف النجار, وأنه منحدر من سلالته ويحمل نسبه
, وفي حال ادعائه (المسيحانية) فمن الطبيعي جدا ان يفحص كهنة اليهود نسبه وتسلسل آبائه ليتأكدوا أنه فعلا من سلالة داوود التي لها شرعية وراثة ملكه
وهنا تبرز مشكلة, وهي ان احد اجداد يسوع من ناحية نسب (يوسف) كان اسمه (يوهاقيم) وقد تم لعن هذا الشخص من قبل الرب والحكم عليه بحرمان كل
ذريته من وراثة الملك بسبب قيامه بعمل شنيع وهو تمزيق احد اسفار التوراة!
هذه المشكلة حاول كاتب انجيل (متى) التخلص منها من خلال التدليس! لكنه لم يفلح!
فقد قام بإخفاء اسم (يوهاقيم) من سلسلة نسب المسيح وإحلال اسم (يكنيا بن يوشيا) بشكل مفاجئ ليتخلص من هذه الورطة!
أما كاتب إنجيل(لوقا) فقد حاول الالتفاف على هذه الورطة من خلال اختراع سلسلة نسب مختلفة تبدأ بيوسف النجار (أبو يسوع) ويكون ارتباطها بداوود
عن طريق ابنه (ناثان) وليس (سليمان) كما هو في إنجيل (متى) .
ولو تجاوزنا موضوع (الجد الملعون) و(المحرومة ذريته) من الملك, تبقى الإشكالية الأهم قائمة ,وهي:
عدم اتساق القول بأن يسوع هو ابن الله(الحقيقي) وأنه ولد بلا تدخل بشري , وبنفس الوقت يتم نسبته إلى اباء واجداد من البشر ليس لهم دخل في
غرسه وانجابه؟!
فهل كان الله محدود الخيارات ولم يجد طريقة لتثبيت شرعية استحقاق ابنه إلا من خلال التدليس على المجتمع واستغفاله؟!
بعض اللاهوتيين تنبه لهذه الإشكالية , وحاول التهرب من هذا المأزق بتخريجة مختلفة ,وهي الادعاء ان انتساب يسوع للملك داوود هو عن طريق نسب
والدته مريم!
وهذه التخريجة لا تنفع ايضا لعدة اسباب, منها ان اليهود لا يعتمدون تسلسل نسب الأم في استحقاق وراثة ملك داوود ,ويحصروه في الذكور فقط, وأيضا
بسبب أن مريم ,وبحسب الأخبار الأكثر شهرة وقوة, تنتسب مع اهلها الى فرع (لاوي) وليس فرع (يهوذا) المستحق وحده لوراثة الملك.
والخلاصة, أن اللاهوتيين جعلوا من نسب المسيح أحجية غامضة تحتاج لخبراء في الأنساب اليهودية لكي يستطيعوا فك رموزها!
رغم أن أصحاب الشأن أنفسهم ( اليهود) يسخرون من هذا الادعاء ويرفضون النسب ولا يعترفون بشرعيته وواقعيته!
وهذه نتيجة طبيعية لحالة التخبط والتكلف التي لجأ إليها اللاهوتيون المسيحيون لغرض صنع (توليفة) عجيبة تجمع تناقضات ادعائهم وتنقذهم من الورطة
التي فرضها الواقع!
فيسوع الناصري – بحسب التصور اللاهوتي المسيحي- هو ابن الله ( الحقيقي) وليس المجازي, وبنفس الوقت هو ابن (يوسف النجار) حسب ما كان متعارف
عليه وشائع في المجتمع الذي نشأ فيه يسوع وترعرع, وايضا هو ابن (الملك داوود)المستحق لوراثة ملكه إما عن طريق (يوسف) أو عن طريق(مريم) رغم أن الطريقين لا يصلحان !
ومن هنا نستنتج أن ( التوليفة اللاهوتية) المخترعة ورغم تهافتها وتناقضها , جاءت لتكون اجابة على الاسئلة المستحقة حول حقيقة يسوع الناصري
ونسبه واستحقاقه لمنزلة المسيحانية المقدسة, وما على السائل أو المتحير الا التقاط أي خيار من الخيارات المتعددة والمتناقضة التي وضعها له اللاهوتيون!….وصلى الله وبارك !!!
د. جعفر الحكيم