العلاقة بين المعتقد المسيحي والديانة اليهودية علاقة شائكة تتسم بالغرابة والتناقض
ففي الوقت الذي لا تعترف اليهودية بصحة العقيدة المسيحية وتعتبرها نوعا من أنواع الوثنية والانحراف, وهذا أمر مفهوم
ومنطقي
لان الاعتراف اليهودي بصحة العقيدة المسيحية سوف يعني بالضرورة انتهاء دور الديانة اليهودية
بنفس الوقت نجد العقيدة المسيحية مضطرة للاعتراف والقبول بكل التراث اليهودي العقدي السابق لولادة السيد المسيح
لأن أي نفي
او رفض لهذا التراث سوف ينسف العقيدة المسيحية من أساسها.
بدأت علاقة المعتقدين على شكل صراع بين ديانة قائمة وراسخة الجذور والأصول, وبين حركة متفرعة منها كانت تهدف للإصلاح
واحداث تغيير في المفاهيم والتصورات وارساء اسس جديدة للعدالة الاجتماعية, لكن مع فشل الحركة الإصلاحية الذي انتهت بإعدام مؤسسها يسوع ( ايشو ابن يوسف النجار) اتخذ الصراع بين اليهودية واتباع المصلح المصلوب شكلا جديدا واصبحت المسيحية تمضي في مسار عقدي مخالف, كنوع
من ردة الفعل تجاه الخيبة من فشل الحركة الإصلاحية وأيضا رفضا وكرها لليهودية التي ناهضت الإصلاح وكذبت المصلح ,ومنذ ذلك الوقت بدأ أتباع يسوع الناصري بتشكيل فرقة يهودية جديدة تتنكر لأفعال الفرقة الأم وتستنير بتعاليم المصلح المصلوب ,ثم حدث تغيير دراماتيكي مبكر
بظهور شخصية شاؤول (بولس) ذلك الرجل الذي كان متطرفا في معاداة المؤمنين الجدد ثم انقلب وانضم اليهم بنفس القدر من التطرف ,ولكن بالاتجاه المعاكس ,فقاد حركة تهدف إلى الانسلاخ التام من العقيدة الام وتؤسس لعقيدة جديدة متطرفة في ردة فعلها , فجعلت من المصلح المقتول
إلها متجسدا وحصرت الخلاص بالإيمان فقط بهذه الفكرة ذات الأصول الوثنية.
اما اليهود فلم يكونوا ينظرون الى ذلك الشاب المدعو (ايشو ابن يوسف النجار) سوى انه مدعي آخر من بين مدعين للمسيحانية
من الذين تكاثروا في ذلك الزمن الذي انتشرت فيه نبؤات ظهور المسيح المنتظر الذي سيخلص اليهود من الظلم والإذلال ويعيد لهم مجدهم وملكهم المفقود ,فيتمتع اليهود بزمنه بالقوة والملك العظيم ويتسيدون العالم تحت قيادته.
لقد كان انتشار هذه النبؤات وكثرة ترديدها في تلك الفترة أمرا طبيعيا نتيجة لاشتداد ظلم المحتل الروماني وغطرسته
وتماديه في اضطهاد واحتقار الشعب اليهودي, وكذلك نتيجة تحالف طبقة سلطة المعبد مع المحتل لضمان استمرار منافع وامتيازات كهنة المعبد على حساب الطبقات الفقيرة والمحرومة التي تشكل غالبية الشعب اليهودي في ذلك الوقت
كل هذه الأمور جعلت طبقات الشعب اليهودي المسحوقة تلجأ إلى النبؤات وانتظار المخلص القادم للحصول على الأمل بانقاذها
من واقعها المرير ,فادى ذلك الى ازدياد اعداد الثائرين و الطامحين او الاصلاحيين وكل شخص يظهر يدعي أنه هو المسيح الموعود.
وخلال الفترة ما بين السنة الميلادية الأولى وبين عام 70 ميلادي فقط كان هناك 8 أشخاص ادعوا أنهم (المسيح المخلص)
وانتهى بهم الأمر جميعا الى الموت اما قتلا او صلبا وكان الشاب المصلح يسوع (ايشو) واحدا منهم.
فاليهود والى يومنا هذا لايرون في (ايشو ابن يوسف النجار) إلا أنه مدعيا اخرا للمسيحانية ,وكان كاذبا في ادعائه
ولم تنطبق عليه شروط ومواصفات النبوءات التوراتية التي بشرت بالمسيح المخلص والذي لم يظهر لحد الآن وقد عاقب الرب كل الذين ادعوا هذه الصفة كذبا بالموت وهم في حالة خزي وعار.
وفي خضم حالة الصراع العقدي بين الديانة الام والعقيدة الجديدة كان لابد للمؤسسين للمعتقد الجديد من ايجاد اسس وتأصيلات
عقدية لإضفاء الشرعية والحقانية للمعتقد الذين كانوا بصدد إنشائه وتسويقه ,ولم يكن امامهم الا التراث اليهودي فقاموا بمزج مقاطع من النصوص اليهودية المقدسة مع تأويلات وتمحكات لتمرير عقيدة امتزجت بتراث الرومان الوثني ومن بعد ذلك بالتراث الوثني السكندري
لذلك نجد المؤسسين الأوائل للديانة المسيحية قاموا بعملية سطو واضحة على التراث والنصوص المقدسة اليهودية ليتخذوا
منها الحجر الأساس في إيمانهم الذي يناقض اليهودية شكلا ومضمونا ,ولم يكن ذلك بسبب الإعجاب المسيحي بالتراث اليهودي وإنما بسبب الحاجة والاضطرار, فبدون الأصل اليهودي لن يكون هناك أي مصداقية ولا سند شرعي للدين الجديد الذي اتخذ من مصلح يهودي شاب مسيحا مخلصا ثم إلها
وجعلوا الدين كله يتمحور حول شخصه فهو يبتدأ به وينتهي إليه.
الايمان المسيحي كله قائم على فكرة المسيح والصلب والفداء وحول ذلك تمحورت كتابات الأشخاص الذين كتبوا الأناجيل
ونقلوا لنا اخبار ليست بالضرورة انها احداث حقيقية وانما ما أرادوا اقناعنا انها الحقيقة او ربما ما توهموا هم أنفسهم بأنها كانت الحقيقة وخصوصا اننا بازاء نصوص تمت كتابتها بدافع ومنطلق ايماني, فكاتب النص الانجيلي مدفوع ومشبع بايدلوجيا مسبقة يحاول تمريرها وترسيخها
واضفاء مصداقية وواقعية عليها ,ومن أجل ذلك نجد المؤسسين للديانة المسيحية يهرعون للنصوص التوراتية لاستقطاع نصوص وكلمات تثبت مصداقية عقيدتهم الجديدة
ومن هنا نجد ردود اللاهوتيين اليهود على تفسيرات اللاهوتيين المسيحيين تتسم بالاستهزاء والاستخفاف من طريقة السطو
الساذجة والاجتزاء والتفسيرات الخاطئة للنصوص التوراتية فاليهود اعرف بتراثهم وبلغتهم الام القديمة ومعاني كلماتها و دلالة ألفاظها.
لذلك نجد الردود اليهودية تنسف وبشكل منطقي ومقنع الحجج والأسانيد التي يعتمدها اللاهوتيين المسيحيين لتثبيت صحة
عقيدتهم فكل النبؤات التي يحاول المسيحيين تحشيدها من العهد القديم لإثبات مسيحانية او الوهية يسوع الناصري يرد عليها اليهود بتهكم وسخرية لانهم يعرفون ان هذه العبارات قد تم التلاعب بمعانيها او أخرجت من سياقها او جاءت لاشخاص اخرين وكأن لسان حال اليهود يقول للمسيحيين
(لا تبيعوا الماء في حارة السقايين!!)
وبنفس النهج نجد الرد اليهودي في موضوع المعاجز التي يحاول المسيحيون تحشيد أكبر عدد منها ونسبتها ليسوع الناصري
,فاليهود يردون ببساطة على ذلك بأن المعاجز ليست شرطا في إثبات النبوة فحتى الشياطين تستطيع الإتيان بالمعجزات والخوارق!
والمعجزة الإلهية في المفهوم اليهودي لها شروط ومناسبات خاصة من قبيل أنها تأتي في وقت حرج لإحداث تغيير خارق في
المسار الطبيعي للأحداث كما حصل مع معجزة شق البحر و انقاذ بني اسرائيل ولا تأتي المعجزات بالطرق الاستعراضية التي ينسبها المسيحيون ليسوع الناصري.
ومن خلال متابعة الجدل اللاهوتي اليهودي المسيحي يلاحظ ان المنطق اليهودي اقوى واكثر اقناعا فالعهد القديم تراثهم
وكتب بلغتهم ويعكس ثقافتهم وفهمهم وهم أعرف الناس به ومن غير المنطقي القبول بتفسيرات آخرين بعيدين عن هذا التراث والثقافة , ومن هنا نلاحظ ان القنوات التبشيرية المسيحية والتي تنشط بمهاجمة وتسخيف كل العقائد الغير مسيحية تتجنب وبشكل ملفت الاحتكاك بالعقيدة اليهودية,
لان الكنيسة الراعية للقنوات التبشيرية لاتريد فتح صراع عقدي فكري مع اليهود مخافة ان يقوم اليهود بنشر (الغسيل كله) وإظهار سخف وسطحية الأسس التي تعتمدها الكنيسة في بنائها اللاهوتي لذلك فهم يشترون صمت اللاهوتيين اليهود ويتملقون رضاهم تماشيا مع منهجية الانتهازية
الدينية و اللا مبدئية التي اتسمت بها الكنيسة طوال تاريخها لغرض جعل الديانة متماشية مع الظروف
وبالعودة للمسار التاريخي فقد كان شاؤول (بولس) من المؤسسين لمنهج السطو على النص المقدس اليهودي والتصرف به وتكييفه
لتمرير المعتقد الجديد وهذا أمر ليس بمستغرب ,فالسيد شاؤول هو نفسه كان صاحب المبدأ الشهير
(
فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ صِدْقُ اللهِ قَدِ ازْدَادَ بِكَذِبِي لِمَجْدِهِ، فَلِمَاذَا أُدَانُ أَنَا بَعْدُ كَخَاطِئٍ؟) رومية 3-7
فقد
أسس شاؤول لمنهج (الكذب المقدس) من اجل اعلاء مجد الرب ,خصوصا انه كان يخاطب برسائله التأسيسية للايمان الجديدة أقوام ليسوا بيهود ولا علم لديهم بنصوص كتاب اليهود المقدس او معانيه ولا الأفكار التي يتضمنها.
وبعد ذلك سار المؤسسون على خطى شاؤول في تثبيت أركان الإيمان الجديد عن طريق التلاعب بالألفاظ ومعانيها واختراع
تأويلات وتفسيرات مبتكرة من أجل تدعيم ذلك الإيمان بأي وسيلة حتى لو كانت تغيير الكلمات او اللجوء للمماحكات اللفظية والترجمات المغلوطة
ومن الطريف ان اللاهوتيين المسيحيين تعمدوا التلاعب بالصفة التي أضفوها على شاؤول نفسه , فاختاروا وبشكل ذكي صفة
الرسول ليضيفوها الى اسمه الجديد (بولس) لكي يتجنبوا صفة النبي رغم ادعاء شاؤول تواصله مع السماء من خلال ظهور المسيح (الرب) شخصيا له وتزويده بالتعليمات السماوية لكي يبلغها للمؤمنين ,وهذه كما هو معلوم من وظائف النبوة, ورغم ذلك تجنب اللاهوتيين هذا الوصف له لكي
لا يقعوا في مأزق النص الإنجيلي التحذيري على لسان السيد المسيح في متى إصحاح 24
(فإن كثيرين سيأتون باسمي قائلين: أنا هو المسيح ويضلون كثيرين
ويقوم أنبياء كذبة كثيرون ويضلون كثيرين
لأنه سيقوم مسحاء كذبة وأنبياء كذبة ويعطون آيات عظيمة وعجائب، حتى يضلوا لو أمكن المختارين أيضا
ها أنا قد سبقت وأخبرتكم)
ومن أمثلة تلاعب مؤسسي الديانة المسيحية بمعاني كلمات العهد القديم فكلمة (الوهيم) مثلا والتي تعني الإله عند اليهود
وأحيانا تأتي بمعنى السيد صاحب السلطان الإلهي كما جاء في سفر الخروج عندما يعطى وصف الوهيم للنبي موسى
(فقال
الرب لموسى: انظر، أنا جعلتك إلهاً لفرعون)
نجد
اللاهوتيين المسيحيين يحاولون بشكل متنطع ان يعطوا كلمة (الوهيم) صفة الجمع للآلهة لكي يستدلوا بها على أنها تعني (الأقانيم الثلاث) التي اخترعوها لوصف الرب الذي قاموا بتشكيله في العهد الجديد!
وغير ذلك من الأمثلة مثل قلب كلمة (الصبية) الى كلمة (العذراء) كما جاء في سفر اشعيا لتمرير فكرة الولادة العذرية
(ها
هي العذراء تحبل وتلد ابنا وتدعو اسمه عمانوئيل)
فكلمات مثل (الرب ,الاب ,الابن ,الابن الوحيد
) والكثير غيرها تأتي في سياق النص المقدس لتعطي معنى معين لكننا احيانا نجد المكرزين يقتطعون هذه الألفاظ ويطرحوها على المستمع للإيحاء له بمعنى آخر غير موجود في النص الأصلي!
فيقع المستمع ضحية للمراوغة اللفظية التي يجيدها المبشرون مثل إجادتهم للاستعراضات العاطفية والتسويق الدعائي للعقيدة.
ومن خلال سلسلة التلاعب واللصوصية على النص اليهودي تم تأسيس ديانة مبتكرة خلطت الأساطير الوثنية وأفكار تأليه الإنسان
وتأنيس الآلهة ,مع رد الفعل الغاضب تجاه اليهود الذين رفضوا المصلح يسوع وتسببوا بقتله.
وبذلك أقام المؤسسون الأوائل للمسيحية إيمانهم المستند على الاستغراق بتقديس المصلح المقتول إلى درجة إعطائه صفة
الألوهية مع مفارقة بلا رجعة لكل تعاليم الديانة اليهودية المستغرقة في الطقوسيات والتكاليف التشريعية التي تعتني بادق التفاصيل حول المأكل والملبس وطهارة الجسد وغيرها ,فجاء الإيمان المسيحي الوليد متحررا من كل هذه التشريعات ومعتمدا فقط على أفكار طوباوية وقيم روحية
رومانسية مطاطة لجلب أكبر عدد من الأتباع الذين تستهويهم فكرة عبادة (امل جميل) مع التخلص من الفروض والتكاليف الدينية لأن الدين المسيحي قد لخص الأمر كله وحدد الخلاص بأمر واحد فقط وهو :
الإيمان (بفكرة غير معقولة) والتي لن يستطيع المؤمن فهمها الا (بعد) ان يؤمن ويقتنع بها (مسبقا) ليحصل على خلاص
ابدي ونقاء إيماني وطهرانية مريحة وجالبة للشعور بالسعادة والاستعلاء الروحي , ولكن كل ذلك ينهار عندما نرجع للفصل الأول من القصة والموجود في التراث اليهودي (حيث البداية ومسرح الأحداث) لذلك كانت اليهودية ولا زالت وستستمر عقدة مستعصية في طريق الإيمان المسيحي لا
يمكن أبدا التخلص منها.
د.جعفر الحكيم