والآن، وبعد أن دخل النظام إلى حمص، رمز وحاضنة الثورة، التي ضحت بالغالي والنفيس في سبيلها، وقدمت من أجل حرية السوريات والسوريين ما لم يقدمه غيرها في تاريخ العرب القديم والحديث، وكانت وستبقى منارة كرامتنا وعنوان ما نريده لأنفسنا ووطننا من عدالة ومساواة مقرونتين بالحرية، لا بد من قول بضع كلمات صريحة حول ما حدث.
بداية، لم تقصر حمص في فعل المستحيل من أجل كل مواطن سوري. ولم تبخل طيلة ثلاثة أعوام ونصف عن تقديم كل ما يتطلبه انتصار الشعب في معركته من أجل الحرية، وتكبدت من الخسائر ما لم يتكبده غيرها خلال عامين ونصف من القتال ثم الحصار. ولم تتردد في حمل أمانة الحراك الثوري، وفي إدارته – وأكاد أقول قيادته – دون تعب، رغم ما انصب عليها يوميا من قذائف ورصاص وحمم، وقدمته من بناتها وأبنائها على مذبح الكرامة الوطنية. هل ننسى أن من غادروا المدينة صمدوا طيلة سنين عجاف قاتلوا خلالها بمفردهم وهم محاصرون في حالات كثيرة، وجاعوا وماتوا، وهجروا وشردوا، وفقدوا الأهل والدار، دون أن يجدوا من يسمعهم أغلب الأحيان؟
سيقول كثيرون إن النظام هو الذي أسقط حمص. لا شك في أن النظام استقتل كي يسقطها، لكنها ظلت عصية على السقوط حتى أصابه اليأس منها وأيقن أنها هي التي ستسقطه، فلا عجب أن اعتبرها مصدر الخطر الرئيس – ولفترة من الزمن – الوحيد عليه، وأن يحاصرها قبل غيرها، ويخصها بالقسم الأكبر من عنفه ووحشيته، وأن يلقي عليها عشرات آلاف الأطنان من أشد ذخائره فتكا، ويفرغها من سكانها ويدمر مقومات وجودها، ويمحوها عن وجه الأرض. ومع أن عدد من قاتلوه فيها تناقص بمرور الوقت، فإن أحدا من أهلها لم يتردد في تقديم قدر أسطوري من البسالة والإقدام.
بالمقابل، أعتقد أن انقسامات المعارضة، وأنماط الولاء المنتشرة في صفوفها والبعيدة كل البعد عن الوطنية، والحسابات الصغيرة والشخصية لكثير من ممثليها، والخلافات القائمة بينها التي تعكس الخلافات العربية على الداخل السوري، والتدخلات الإقليمية والدولية في شؤون الثورة وما تنتجه من صراعات تستعر بقوة فيها، وافتقار المعارضة إلى برامج وخطط توجه الحراك وتعبر عنه وتقيه الزلل والشطط وألاعيب النظام المتنوعة، والتشبث بحرب المدن والعجز عن تحويلها إلى حرب عصابات متحركة، والافتقار إلى جيش وطني مهني وموحد، وضعف وحدة مجتمعنا، ودخول أغراب على خط الصراع من أجل الحرية، وحرفه في اتجاه قوض تدريجيا هويته الأصلية وجوهره التحرري، وغياب الجهود المنظمة لإحباط خطط النظام للعب ورقة الطائفية ضد الثورة، ولفك وحدة مكوني المجتمع المدني والأهلي، وخروج الثورة من أيدي الذين صنعوها وسقوطها المتزايد في أيد غريبة عن سوريا: متطرفة ومعادية للحرية والعدالة والمساواة، ترى في السياسة عبادة السلاح والعنف، وتقصير المعارضة الديمقراطية في اتخاذ مواقف واضحة حيالها، وأخيرا وليس آخرا تخاذل قطاعات واسعة من الانتلجنسيا السورية، وامتناعها عن سد الفراغ السياسي الناجم عن مواقف المعارضة الحزبية، التي قصرت في فهم ما يجري وعجزت عن تطوير خيارات برنامجية وعملية من شأنها المحافظة على مساراته ورهاناته الأصلية.
لم يكن دور المعارضة في إسقاط حمص قليلا أو محدودا، بل كان الوجه الآخر لدور النظام. لقد تمسكنا بأخطائنا لفترة طويلة كانت كافية لمحو ما أبدته حمص من بطولات. واليوم، وإذا كنا نريد حقا المحافظة على ما في أيدينا من مناطق محررة ومواقع مقاومة، من الضروري أن نتعلم سياسيا وعسكريا مما جرى في مدينة ابن الوليد العدية، وأن نبني قوات عسكرية وهياكل سياسية فاعلة ومتماسكة تمكننا من كسب معركة لم تطل إلا لأننا أهملنا أساسيات نجاحها، وخضنا معارك ضد بعضنا كانت أشد ضراوة في أحيان كثيرة من تلك التي خضناها ضد النظام.
ماذا بعد حمص: أهو انتصار تنتجه سياسات صحيحة ووحدة وطنية ضاربة، أم هزيمة تنتجها الفوضى والانقسامات السياسية والعسكرية، والافتقار إلى القرار الوطني السوري المستقل؟
نقلا عن الشرق الاوسط