تناقلت الأخبار في الأيام القليلة الماضية أن نظام بشار الأسد المجرم قام بحملات مكثفة بطيرانه العسكري بقصف شديد على حي الوعر بمدينة حمص.. مبان بأكملها يتم تسويتها بالأرض، أعداد غير معلومة من الأبرياء يتم قتلهم، وأكثر منهم في تعداد المصابين والمفقودين. إنها صفحة جديدة من كتاب نظام بشار الأسد، بينما «تنتهك» أجواء بلاده من تنظيمات وقوات تقاتلها لا يجرؤ «جيشه» الملقب زورا وبهتانا بحماة الديار، لا يجرؤ على التصدي لها، ولكنه يستطيع فرد عضلاته و«برم شواربه» في وجه العزل من شعب حمص، ولكن هذا ليس بغريب على نظام كان يحمي حدوده مع إسرائيل التي احتلت هضبة الجولان السورية ولم يقم هذا النظام برد واحد على هذا الاحتلال، ولا رد على العشرات من الإهانات والاعتداءات العسكرية التي حصلت، ولا تزال.
حمص، أو كما تسمى عاصمة الثورة السورية، فاجأت الكل بموقفها الشجاع والأسطوري في مواجهة نظام قمعي متوحش لا يرحم؛ خرجت عن بكرة أبيها في مظاهرات سلمية رافضة كافة أشكال الظلم والفساد والقمع والترهيب، ورد عليها النظام بالتجويع والحصار والقصف والتنكيل والقتل العشوائي الجماعي. سقط في حمص وبشكل يومي العشرات من زهرات شبابها، كثيرون منهم سقطوا في أعمال تطوعية وإغاثية وخدمية، وكان من الواضح أن الغرض من استهداف هذه النوعية من الشباب هو إرسال رسائل مدوية لحمص أن النظام لن يستثني أحدا، وأن العقوبة سوف تكون جماعية للمدينة التي «تجرأت» ورفعت رأسها وطالبت بإنهاء حال العبودية والطغيان.
ضربت حمص أروع النماذج والأمثلة في «سلمية» الثورة، قدمت أيقونات لن تنسى في الأغاني والأناشيد الحماسية التي صارت بمثابة وقود نفسي لأهلها.. قدمت أقوى الأفلام الساخرة والباهرة التي تعكس روح الطرافة الفطرية التي عرف بها أهل هذه المدينة، فكانوا يسخرون من رموز النظام بدءا من الرئيس بشار الأسد (الذي كان يوصف في هذه الأفلام بطاغية الصين، إمعانا في السخرية السوداء من الوضع الحاصل) وصولا إلى كافة رموز النظام الآخرين معه. وفي الأعمال الخيرية والإغاثية قدم أهل حمص أمثلة خيالية من التواصل والترابط والتكافل العابر للحدود والكاسر للخوف الذي وحد بين المحتاجين في الداخل والقادرين في الخارج، محققة نتائج فعلية نافعة تنقل الحال من الشفقة والتعاطف إلى تحقيق المنفعة العامة.
حمص مدينة زراعية في الأساس تقع في قلب سوريا، وهي على نهر العاصي، ولها تاريخ وطني مهم ومشرف، وهي تعتبر سلة الغذاء الزراعي لسوريا بأكملها كمحافظة، وبالتالي معظم الذين يسكنون فيها هم من الطبقة المتوسطة، على عكس مدينتي دمشق وحلب؛ فالأولى فيها قاعدة مهمة للغاية من كبار التجار، والثانية فيها طبقة مميزة من كبار الصناعيين، وعليه فإن الثمن والتكلفة التي تكبدها أهالي حمص على الصعيد المادي والاقتصادي لا يمكن احتسابه إلا بأنه عظيم جدا، ولا يمكن الاستهانة به ولا التقليل من حجمه، مما يجعل موقف حمص من الثورة موقف مبادئ وأخلاقيا وإنسانيا، وهو الذي يجعل الرغبة الجامحة في الانتقام منهم من قبل نظام الأسد مسألة وحشية لأنها أسقطت القناع وعرته تماما.
حمص التي تعرضت كافة أحيائها الأساسية إلى حرب إبادية لم تسلم رموزها التاريخية، بما في ذلك مسجد وضريح سيدي خالد بن الوليد الذي تم تدميره على أيدي نظام الأسد وميليشيات التنظيم الإرهابي التكفيري «حزب الله»، لا تزال تتعرض مجددا لحملة جديدة وسط انشغال العالم بعين العرب (كوباني) ونسيان جرائم نظام الأسد على سائر المناطق السورية، بل والكشف عن «تعاون» الأسد مع تنظيم «داعش» الإرهابي في بيع وتسويق النفط الذي استولت عليه وبات تحت سيطرتها.. عصابة تتعامل مع عصابة أخرى.
حمص تقصف مجددا، والعالم مستمر في السكوت عن جريمة الأسد ومن معه، فعلا كما قال سيد حمص سيف الله المسلول ذات يوم «فلا نامت أعين الجبناء»! حمص التي عرفت قديما بأنها أم الحجارة السود، حمص العدية، وبخفة أهلها، لن يكتب التاريخ عنها إلا باحترام وعزة لأنها تستحق.