باسم الجسر: الشرق الاوسط
مؤتمر رؤساء الطوائف المسيحية الذي انعقد في لبنان، في الأيام الأخيرة، ليس بحدث عادي يمر به مرور الكرام. لا سيما أن عنوانه الكبير كان «التداول في أوضاع الأقليات المسيحية في الشرق الأوسط ودورها ومصيرها على ضوء ما تعرضت له في السنوات الأخيرة من اعتداءات على الأشخاص والمراجع والمؤسسات والرموز في أكثر من بلد عربي». ابتداء بالعراق وانتهاء بسوريا ولبنان ومرورا بمصر، على يد جماعات من المتطرفين المتعصبين الجهلة الذين قيل لهم، و«اقتنعوا» بأن هذه الاعتداءات تشكل وجها من وجوه الجهاد في سبيل الله والدين! وهي أبعد ما تكون عنه.
إذا كان من حق وواجب رؤساء الطوائف المسيحية أن يعبروا عن مخاوف أبناء رعياتهم فإن من واجب كل عربي وكل مسلم أن يضم صوته إلى صوتهم مستنكرا كل مس بمشاعر إخوته في المواطنة، ورافضا أي اعتداء عليهم، لا من منطلق إنساني أو وطني أو قومي أو سياسي اجتماعي فحسب، بل أيضا وخصوصا من منطلق ديني. فالدين الإسلامي يفرض على كل مسلم حسن معاملة ومراعاة وحماية «أهل الكتاب» أي المسيحيين. ولا داعي للاستشهاد بالآيات التي تقضي بذلك فهي عديدة وأكثر من معروفة. ثم إن المسيحيين الذين يعيشون في مصر والعراق وسوريا ولبنان وفلسطين هم أبناء هذه الأرض التي يعيشون فيها منذ ألفي سنة، أي قبل الفتح الإسلامي، واستمروا في العيش مع المسلمين عليها (وفي ذلك فخر للحكام المسلمين لا يستطيع حكام بعض الدول الغربية ادعاءه). كما شاركوا في بناء الحضارة العربية، وفي معارك استقلال الشعوب العربية والإسلامية. ناهيك بأن كل الدساتير العربية تنص على مساواتهم في الحقوق مع المواطنين المسلمين، ثم إن كل الدول العربية والإسلامية هي أعضاء في منظمة الأمم المتحدة، وبالتالي ملزمة بحماية حقوق الإنسان إلى أي دولة أو دين أو مذهب انتمى.
ليس من مصلحة العرب والمسلمين اضطهاد الأقليات المسيحية العربية التي كان ولا يزال لها دورها في تنمية الاقتصاد الوطني نظرا لصلاتها التاريخية والثقافية والاقتصادية مع الغرب، لا سيما أن الغرب لا يستطيع إلا أن يتأثر بأوضاع مسيحيي الشرق في تحديد علاقاته الخارجية، وخاصة بالدول العربية والإسلامية، وأن ينعكس ذلك سلبا على العشرين أو الثلاثين مليون عربي ومسلم يعيشون في الغرب. أوليس أفضل لنا، ونحن نخوض صراعا مصيريا مع إسرائيل، أن يكون الغرب والعالم إلى جانبنا، وألا يصبح اضطهاد الأقليات المسيحية سببا إضافيا لمعاداتنا أو للتخوف منا؟
في أواخر عهد السلطنة العثمانية أثيرت قضية الأقليات المتمردة على الدولة بتحريض من الدول الأوروبية العاملة على فكفكة الدولة العثمانية وتقاسم أراضيها، فكانت حروب وكانت حملات «تطهير» وتهجير ظالمة ورهيبة. ولكنها كانت تحت شعار سياسي قومي تركي. ولقد مر على تلك التطهيرات العرقية والقومية مائة عام ولا تزال تشكل وصمة على جبين من قاموا بها. وإنما العالم والشرق الأوسط في القرن الحادي والعشرين يختلفان عنهما في القرن التاسع عشر. صحيح أن هناك مصلحة إسرائيلية، وربما دولية، في الحؤول دون قيام أي وحدة أو اتحاد أو جبهة عربية أو إسلامية موحدة، وأن تحريك النزاعات والحساسيات الدينية والطائفية والمذهبية والعرقية في المجتمعات العربية والإسلامية، خطة أو مؤامرة مستديمة، ولكن أين هي مصلحتنا في أن نقع في شباكها؟ في أن نستجر معها إلى عمليات إرهاب وعنف وحروب أهلية؟ في أن «نفش خلقنا» في بعضنا البعض بدلا من توحيد صفوفنا وطي رواسب خلافاتنا العقائدية والسياسية والطائفية والمذهبية، وهي في معظمها تعود ألف سنة أو أكثر إلى الوراء؟!
لم يتراجع الإسلام، لا انتشارا في العالم ولا فتورا في القلوب رغم تراجع المسلمين سياسيا واقتصاديا وحضاريا أمام الغرب منذ القرن الخامس عشر، بل بقيت أنواره تشع من الأزهر والزيتونة. وليس بالصدفة أو الغرابة أن يصل عدد المسلمين في العالم إلى المليار ونصف المليار وأن تحدث هذه الصحوة الدينية من المغرب إلى إندونيسيا، ولكن الغرابة هي في بروز جماعات متطرفة في فهمها للدين؛ «قاعديين» سموا أم سلفيين أم جهاديين أم أصوليين، وانبرائهم لصبغ الإيمان والدين بالعنف والإرهاب وإعلان الحرب على الغرب والشرق وعلى تسعة وتسعين في المائة من المسلمين الذين لا يقولون قولهم أو يشاركونهم في أفعالهم الإرهابية أو يسيرون في درب غلوهم.
لا دفاعا عن الغرب وتاريخه الاستعماري، ولا تقليلا من واجب التصدي للتحدي الإسرائيلي العدواني، نشجب هذا النوع من الجهاد المقتصر على العنف والمعتدي على الأقليات غير المسلمة والمستعدي الغرب بل العالم بأسره، إنما نضم صوتنا إلى صوت الأحبار المسيحيين العرب دفاعا عن حياة الأقليات المسيحية في العالمين العربي والإسلامي. هذا ما يمليه علينا ديننا وقوميتنا ووطنيتنا وإنسانيتنا وشرفنا وأخلاقنا.