عدنان فرزات : القبس
لحمامات السلام البيضاء قصة غريبة مع الفاتيكان، أو تحديداً مع البابا الراحل بولس الثاني والبابا الحالي بنديكت السادس عشر، فبينما كان الأول يسير قبل سنوات في استعراض جماهيري، وإذا بحمامة بيضاء تقف على رأسه، وأمام دهشة الناس الغفيرة قال البابا جملة ذكية تدل على سرعة بديهة «لقد عادت إلى عشها»، ثم حدث موقفان آخران في عامين متتاليين عن الحمام في الفاتيكان في عهد البابا الحالي بنديكت السادس عشر، فبينما كان يطلق، العام الفائت، حمامتين من شرفة الفاتيكان إلى الفضاء الخارجي، فوجئ بهما تعودان إلى الداخل، وقبل أيام، أيضاً، أطلق البابا حمامة بيضاء، وإذا بها تتعرض إلى هجوم من نورس شرس يبدو أنه من الطيور المتطرفة.
حمام الفاتيكان ذكّرني بدجاج كنيسة تاريخية مجاورة لحينا في الطفولة بمدينة دير الزور، وما سأرويه، الآن، هو بمنزلة رسالة من ذاكرة طفل سوري إلى من يحاول أن يروّج لإمكانية وقوع حرب أهلية في سوريا:
خلال السبعينات، كان يعيش قسيس في كنيسة تدعى «كنيسة اللاتين»، ولها اسم عامي نتداوله هو «الكبوشية»، كان يرتدي الثياب السوداء، وله لحية صغيرة بيضاء تمنحه وقاراً وبشاشة في وقت واحد، وإمعاناً في لطافته، فإنه يقوم بتوزيع حبات تمر علينا، نحن مجموعة أطفال خليط من المسلمين والمسيحيين، نقطن في الأحياء المجاورة للكنيسة، ومن دون أن يسألنا عن ديننا، وكان يحضر لنا التمر من نخلة شاهقة تنمو في حديقة الكنيسة. وفي المقابل، كنا أثناء عيد الفصح نهديهم البيض الملون، وأذكر أننا كنا نغلي البيض مع قشور البصل حتى يصبح لونه أقرب إلى الأصفر المعتق، وأحياناً ننقش عليه بعض الزخرفات ونقدمه لهم. وفي أعياد المسلمين، كان قساوسة الكنيسة يشاركون المسلمين احتفالاتهم بالدخول إلى المسجد وإحياء المولد الذي يسبق العيد عند أول الصبح، وكنا ندخل الكنيسة بطريقتين، إما من الباب الرئيسي أثناء الدوام الرسمي للمدرسة الابتدائية التي كانت ملحقة بهذه الكنيسة، وإما أثناء إقامة شعائر الصلاة، حيث تفتح الأبواب فنمضي مع الأطفال الذين يذهب ذووهم إلى الصلاة، فنتسلل نحن إلى الحديقة لنجمع حبات التمر المتساقطة من النخلة.
ذات يوم، اختار أحد الأطفال الأشقياء طريقة أخرى لدخول هذه الحديقة، حيث تسلق سورها المنخفض، وفوجئنا به يصعد من السور حاملاً دجاجة من خم موجود في الحديقة، ثم أسرع هارباً بها نحو بيته، وظنّ الولد أننا سنحميه ونغطي عليه فعلته كونه من ديننا، وكون الدجاجة مسروقة من رجل دين آخر، لكن حساباته جاءت مثل حسابات الغرب اليوم في سوريا، فما كان منا إلا أن ركضنا وراءه وأمسكنا به ثم خلصنا الدجاجة وأعدناها إلى حديقة الكنيسة، وتوجهنا إلى الأب الذي بدا حزيناً لهذا التصرف، وقدّمنا له اعتذاراً طفولياً، ولكنه مؤثر جداً، عن هذا السلوك «المتطرف».
كان تصرفنا، على بساطته، يعكس حقائق أكبر تتمثل في ثقافة التعايش التي زرعها فيها أهلنا في هذه المدينة الصغيرة بجغرافيتها، الكبيرة بوعيها، من أصحاب الديانتين، فعن أي حرب أهلية يتحدثون اليوم؟!