بعد أن صمت قادة الدول العربية والإسلامية التي فاق عددها الخمسين دولةً، وأصاب البكم ألسنتهم والصم آذانهم، وماتت في نفوسهم حمية العروبة ونخوة الإسلام وشرف المقاومة وعزة الأمة ونبل رجالها، واستخذوا أمام الغاصب الجديد القادم من وراء البحار، في ظل وجود الملوك والرؤساء والقادة والزعماء، والشيوخ والأمراء، ها هي نيكي هيلي مندوبة الولايات المتحدة الأمريكية في الأمم المتحدة تجاهر بعالي صوتها وبقوة بلادها الطاغية، وأسلحتها العاتية، بوجوب تصنيف حركة المقاومة الإسلامية “حماس” حركةً إرهابيةً، تقتل وتدمر، وتفسد وتخرب، وتروع وتخيف، وترهب وتفزع، وتريد من مندوبي الدول العربية والإسلامية أن يؤيدوا مقترحها، وأن يصوتوا إلى جانب مشروعها، وألا يعترضوا عليه خجلاً أو خوفاً، أو يمتنعوا عن تأييده نفاقاً أو توريةً، بل تطالبهم بموقفٍ واضحٍ وصريحٍ يتطابق مع موقف بلادها وينسجم معه.
وكان الرئيس المخمور بمنصبه والمغرور بأفكاره قد صنف في عقر عاصمة العرب الرياض، حركة حماس وقوى المقاومة العربية التي تقاتل الكيان الصهيوني وتدافع عن حقها بأنها إرهابية، ودعا إلى محاربتها، فصمت العرب صمت القبور، وران الصمت على قادة المسلمين، وكأن على رؤوسهم الطير، فلم يحركوا ساكناً ولم يعترضوا، ولم يهمهموا ولم يتهامسوا، ولم يقولوا لضيفهم أن يحترم أصول الضيافة وآدابها، وأن يراعي حقوق المضيف وخصوصياته، وألا يشتمهم في دارهم، وألا يسيئ إليهم في بيتهم، وألا يطالبهم بالتخلي عن أثوابهم، والتجرد عما يسترهم ويقيهم عار الفضيحة، فكأنه نثر في وجوههم التراب، وأصاب عيونهم بالعمى، وقلبه يقول لهم “ألا شاهت الوجوه”.
ليس غريباً ولا مفاجئاً أن تقدم الإدارة الأمريكية بالتعاون مع حكومة الكيان الصهيوني على فتح ملف المقاومة الفلسطينية عموماً، والفصائل العسكرية المقاتلة على وجه الخصوص، والمباشرة في تقسيمها وتصنيفها وفق رغباتها إلى قوى معتدلة وأخرى متطرفة، وفصائل ينبغي محاربتها وتجريدها من أسلحتها، وأخرى يجوز تأييدها ويمكن مساعدتها، بغية تمرير ما يخططون له من حلولٍ تسوويةٍ يصفونها بأنها ستكون صفقة القرن ونهاية عصر التوتر في منطقة الشرق الوسط كله، ولعل الإدارة الأمريكية لا تتفرد في قراراتها ولا تتصرف وحدها في هذا الملف، بل إنها أشبعته بحثاً ودراسة، وجمعت له العديد من قادة الأجهزة الأمنية العربية والغربية إلى جانب الإسرائيلية، وخبراء آخرين من مناطق مختلفة، ليضعوا معاً تصوراتهم العملية لتطهير الكيان الصهيوني والجوار المحيط به، مما قد يهدد وجوده ويعرض استقراره وأمنه وسلامة مواطنيه للخطر.
ما كان للإدارة الأمريكية أن تتجرأ بهذه الطريقة الوقحة، ولا أن تجاهر بتصنيفاتها الفجة، لولا أنها رأت صمتاً عربياً أقرب إلى القبول والموافقة، بل أدعى إلى الرضى والارتياح، إذ أن بعض الأنظمة العربية قد غصت بالمقاومة، وضاقت بها ذرعاً، وباتت تتبرم بها وتشكو منها في كل مكان، وتسعى لتقليم أظافرها والتضييق عليها، ومحاصرتها وتجفيف منابعها، وملاحقة عناصرها ومحاسبة المؤيدين لها ومعاقبة الداعمين لها، وقد قرأت الإدارة الأمريكية كل تلك الإشارات الواضحة، فأقدمت بلا خوف، وأعلنت رغبتها بلا تردد، وهي تنتظر من القادة العرب أن يباركوا خطوتها، وأن يؤيدوا مقترحها، وأن يسيروا في ركابها محاربين لحماس ومن شابهها عملاً أو تحالف معها فعلاً، ومضيقين عليها، ولو أدت سياستهم إلى تجويع الشعب ومحاصرة السكان جميعاً، إذ لم تعد تعنيهم فلسطين التاريخية بقدر ما يعنيهم سلامة وأمن الكيان الصهيوني الضامن لبقائهم، والذي يتعهد بلادهم بالاستقرار وأنظمتهم بالثبات والبقاء، ويتربص بعدوهم ويتوعده بالثبور وعظائم الأمور.
إذاً لا عيب ولا غرابة أن يرتفع صوت المندوبة الأمريكية في مجلس الأمن الدولي في نيويورك، تطالب أعضاءه جميعاً بإصدار قرارٍ يجرم حركة حماس ويخرجها عن القانون، ويمهد لاستصدار جملةٍ من القرارات والقوانين الوطنية في مختلف الدول العربية وغيرها لمعاقبتها وملاحقتها، ومنعها ومناصريها من القيام بأي نشاطٍ أو فعاليةٍ بتهمةِ التحريض والدعوة إلى العنف والكراهية، وحق للكيان الصهيوني حكومةً وشعباً أن يحتفي بها ويبش في وجهها، ويهب لاستقبالها مرحباً بها، وهي التي تقول بأن زمن إدانة “إسرائيل” قد ولى، وأنها هنا في مجلس الأمن لحماية الكيان والدفاع عنه.
لا عيب في أداء هذه المرأة التي نذرت نفسها للدفاع عن الكيان الصهيوني، إنما العيب في الذين استضافوا رئيس بلادها واحتفوا بزيارته، وأكرموا وفادته وبالغوا في المنح والعطايا له، وقد اصطفوا أمامه وجلسوا قبالته يسترقون النظر إلى نسائه، ويتغزلون بزوجته وينظرون باشتهاءٍ إلى ابنته، وقد جاؤوا إليه من كل حدبٍ وصوب ينسلون، وربما بين يديه يسجدون، وقد تجشموا عناء السفر وبعد المسافات، ليستمعوا إلى خطاب رئيسٍ قد جاء ليذكرهم بذلهم، ويبين لهم بؤس حالهم، وسوء أوضاعهم، ويعدد أمامهم مخازيهم، ويملي عليهم شروط استسلامهم، وأشكال وهيئات الطاعة والولاء لبلاده، ويسلب عنوةً أموالهم من بين أيديهم، ويسوقهم كالخراف أمامه ينفذون سياسته، ويتبعون منهجه، ويجلدون الأمة بسوطه، ويهشونها بعصاه، لتخضع لسياسته، وتلتزم بمنهجه، وتسلم لإرادته فلا تعارض ولا تثور، ولا تنتفض ولا ترفض.
ألا تعلم الإدارة الأمريكية ومندوبتها إلى مجلس الأمن الدولي أن حركة المقاومة الإسلامية “حماس” ومعها مختلف القوى والفصائل الفلسطينية تمثل المقاومة الأصيلة، وترفع رايتها العزيزة، وتحمل لواءها الأبي، وتقوم بواجبها تجاه شعبها وقضيتها، تحميه وتدافع عنه، وتصونه وتذود عنه، وهو الواجب الذي تقره القوانين الدولية وتبيحه الشرائع السماوية، وتحض عليه الفلسفات والمُثل العصرية والقديمة، التي شرعت كلها وعلى اختلافها الحق بمقاومة المحتل، والعمل على طرده وتحرير الأرض منه بكل السبل والوسائل، والآليات والأدوات، حتى تُستعاد الحقوق وتُحرر الأرض، وتطهر البلاد من رجسهم وبقايا وجودهم، وتعود البلاد إلى أصحابها والأرض إلى ملاكها، والحقوق إلى أهلها، واللاجئون إلى ديارهم، والنازحون إلى بلداتهم، ويخرج المعتقلون ويتحرر الأسرى من سجونهم، وهذا الذي بإذن الله سيكون مهما طال الزمن ووعرت الطريق، مهما نفخ كبيرهم في كيره، وحشد لقتالنا خدمه وعبيده، وسخر لحربنا أدواته وأساليبه، فلا يحلمن أبداً قبل أن نحقق أهدافنا أن تنكسر لنا إرادة، أو أن تسقط لنا راية، أو أن تنحني لنا هامة.
بيروت في 10/7/2017