منذ سرقة العلويين للحكم في سوريا تحت ذريعة الثورة في ستينيات العام الماضي، وعلى الرغم من الشعارات الرنانة التي تنادي بالوحدة العربية والأمة الواحدة المرفوعة من قِبَل حزب البعث الذي جعله نظام الأسد واجهةً للاختباء خلف شعاراته، على الرغم من كلِّ ذلك إلا أن هذا النظام منذ زمن حافظ الأسد لم يكن يومًا من الأيام حليفًا للعرب، على العكس فكان الارتباط الوثيق بالإيرانيين واضحًا منذ الحرب العراقية الإيرانية؛ حيث قام “الأسد” بالدعم السياسي الكامل لإيران التي لم تُخْفِ أطماعها التوسعية بعد الإطاحة بالشاه في الثمانينيات.
إيران وسياسة التقية
فقد شكّل نظام الأسد بالإضافة إلى حزب الله اللبناني الأذرع القوية لإيران من أجل العبث بالمنطقة، وكأنهما امتداد طبيعي لحكم الولي الفقيه هناك، واستطاع الطرفان من خلال رفع شعارات المقاومة التغلغل في المنطقة والتحالف مع بعض الأطراف، ومع ذلك فقد اتبعت إيران سياسة التقية، واستمرت في سياسة تجنيد الأنظمة والأحزاب المحلية، كي لا تضع نفسها في حالة احتلال وجهًا لوجه مع شعوب المنطقة.
ولا يخفى على المتابع للأحداث في سوريا أن إيران حرصت منذ البداية على عدم التدخل المباشر، وإنما قامت بدعم النظام استخباراتيًّا وماديًّا ومعلوماتيًّا، وبقي الدعم العسكري الصريح مخفي، ويقتصر على بعض الضباط الذين يعملون في الخفاء، واستماتت في نفي أي مشاركة لها كان الثوار يحاول إثباتها، في حين اعتمد النظام ميدانيًّا على ميليشيات مكونة من الطائفة العلوية التي شكلها بسرعة لمساندة بعض قطاعات الجيش التي كوّنها سابقًا على أساس طائفي بحت.
إيران تحرق كرت حزب الله اللبناني
بعد أن وصلت ميليشيات الدفاع الوطني المساندة للقطاعات العلوية التابعة لجيش بشار إلى حالة شبه انهيار، كانت إيران أمام ثلاثة خيارات، إما السماح للدمية التي وضعتها في سوريا (نظام بشار الأسد) بالزوال عن سدة الحكم، أو التضحية بورقة “حزب الله” وإقحامه في حرب صريحة ضد الثوار في سوريا، وبذلك تنكشف كذبة المقاومة ضد إسرائيل التي كبر وترعرع عليها، أو الكشف عن قناعها الحقيقي والتدخل المباشر.
فاختارت إيران أقل الثلاثة احتمالات ضررًا، وأقحمت حزب الله في حرب استنزفت قواته وطاقاته، وحرقت ورقته السياسية في لبنان باعتباره مناديًا بالمقاومة الوطنية، ويدعو لعدم التدخل الخارجي، ويجاهر بها أمام الفرقاء اللبنانيين الآخرين، فكان أول تدخل صريح وعلني في القصير بريف حمص، ثم دخل مستنقع القلمون؛ حيث تكبد فيه خسائر فادحة من قوات النخبة، وبدأ بريقه يخبو شيئًا فشيئًا إلى أن انتهى بفضائح فرار بعض القيادات من القلمون؛ حيث هرب بعضهم إلى دول أروبية؛ خوفًا من الاستمرار في تلك المحرقة.
سقوط القناع الأخير
السقوط المدوي لميليشيات الأسد ثم لميليشيا حزب الله وعودة الثورة السورية إلى الاشتداد بعد أن تعثرت بعض الشيء؛ نتيجة الدخول المباشر لآلاف المقاتلين الشيعية من حزب الله في المعارك، دفع إيران إلى الكشف عن وجهها الحقيقي، خاصةً بعد اقتراب الثوار شيئًا فشيئًا من العاصمة دمشق بعد التقدم الكبير في ريف القنيطرة وريف درعا.
فقد بدأ الظهور الإيراني الصريح على جبهات محافظة حلب (صاحبة الأهمية الإستراتيجية سياسيًّا وعسكريًّا)، وتجلّى هذا الظهور بدخول عشرات المقاتلين الإيرانيين والأفغانيين بتنسيق من الحرس الثوري الإيراني؛ حيث تمكن الثوار من قتل العشرات منهم في جبهات حندرات والملاح وسيفات، وقاموا بعرض مجموعات من الأسرى الإيرانيين والأفغاني، واعترفوا أن الحرس الثوري يقوم بإخراجهم من السجون في إيران وأفغانستان ويرسلونهم للقتال في سوريا، بالإضافة إلى المقاتلين القادمين تحت ذرائع عقائدية.
أما معارك درعا الأخيرة فقد شهدت، وللمرة الأولى، إعلانًا صريحًا من وسائل الإعلام الرسمية لنظام الأسد بمشاركة ضباط إيرانيين بالإضافة إلى عشرات العناصر، وكذلك أكدت تصريحات قاسم سليماني قائد الحرس الثوري الإيراني قبيل المعارك في مناطق دير العدس ودير ماركر والدناجي والمناطق الأخرى، فلم يَعُدْ لها خيار آخر، وهي ترى الثوار يقتربون من العاصمة دمشق، ويفتحون خطوط الإمداد بين ريف درعا وريف القنيطرة وريف دمشق الغربي؛ حيث وثّق الثوار قتل عدد من الضباط الإيرانيين التابعين للحرس الثوري، بالإضافة إلى عشرات العناصر من لواء الفاطميين.
تناقض دولي عجيب
الواقع الحالي الذي تعيشه إيران وطريقتها في التمدد إلى عدد كبير من الدول وإعلانها صراحة قتالها في سوريا بالإضافة إلى ملفها النووي، يترك إشارات استفهام كبيرة حول الصمت الدولي، وخاصة الدول التي وضعت نفسها في موضع الشرطي للدفاع عن التوازنات الدولية كالولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية، في حين يستنفر سلاح الجو وسلاح البحر لتلك الدول ضد أي تنظيم سني يعلن عن نفسه، ولو حدد أهدافه فقط في دفع الاحتلال عن أراضيه، فهل تحولت إيران فعلًا إلى إسرائيل جديدة؟!