أندروز وايس
كان من الصعب على المرء تفويت فرصة تحليل المناقب القيصرية التي حفلت بها مفاجأة الرئيس فلاديمير بوتين للرأي العام بإعلانه إطلاق سراح ثري النفط الروسي ميخائيل خودوركوفسكي خلال المؤتمر الصحافي الطويل، الذي جرى عقده في التاسع عشر من ديسمبر. ويبدو التعليق الذي صدر عن بوتين وراء الكواليس، والذي قال فيه إن عشرة أعوام وراء القضبان تعد فترة عقاب كافية لخودوركوفسكي، محملا بمزيج مثالي من الجبروت والرغبة في عمل الخير، يضاف إليهما الصلاح والورع.
وداخل القاعة التي عقد فيها المؤتمر الصحافي، كانت الأجواء بعيدة تماما عن المهابة، الأمر الذي لم يكن ليتسامح فيه أبدا المثل الأعلى لبوتين: القيصر ألكسندر الثاني نيكولايفيتش رومانوف. لوح الصحافيون المتذللون بأشياء كانوا يمسكونها بأيديهم في محاولة منهم للفت انتباه بوتين، حتى إن أحدهم قام بإلقاء قصيدة شعرية يتوسل إليه فيها أن يصدر قرارات بترشيد صناعة الطاقة، وهو ما يمكن أن يدفع الشعب الروسي لرد الجميل له بأن يطالبه «بالبقاء في سدة الحكم طوال حياتك».
للوهلة الأولى، يظن المرء أن المنحى الذي اتخذته الأحداث في موسكو تشير إلى حدوث تغيير كبير في روسيا منذ أكتوبر من عام 2003 عندما جرى اقتحام طائرة خودوركوفسكي الخاصة في أحد مطارات إقليم سيبريا من قبل عملاء ملثمين في جهاز الأمن الفيدرالي الروسي. وتقول الرواية الشائعة إن بوتين يتمتع بسلطة، تقريبا، غير محدودة، وإنه استطاع إخضاع جميع الأثرياء الروس، كما أحيا الدور المركزي للسلطة السياسية وفكك المؤسسات الديمقراطية التي كانت لا تزال في طور النمو، وأخيرا أعاد الاقتصاد إلى بيت طاعة الدولة. ومن خلال مخالفته لجميع التوقعات بأن خودوركوفسكي سيقبع مدى الحياة في غياهب السجن، دحض بوتين شكوكا ضعيفة حول اقترابه من السيطرة الكاملة على المشهد السياسي في روسيا.
ورغم ذلك، ينبغي لنا أن نعرف أن حكم النخبة الثرية في روسيا ما زال حيا وبخير. وبوتين، الذي يعتقد الكثيرون أنه يتحكم بشكل كامل في السلطة، يخصص جزءا كبيرا من وقته لإحياء الصراع بين أعضاء النخبة الثرية الحاكمة في روسيا. ويعد أثرياء السلطة هؤلاء الذين يعيشون في نفس الحقبة الزمنية، والذين استطاع كثير منهم بناء إمبراطوريات اقتصادية اعتمادا على علاقتهم الطويلة ببوتين، جزءا من التقليد السياسي المعروف والذي يضرب جذوره في تاريخ روسيا القديم.
ويمكننا أن نجد وصفا دقيقا للشكل السلطوي الخاص بنظام الحكم في روسيا في مكان غير متوقع: إنه مقال غير مشهور لإداورد كينان، أستاذ التاريخ في جامعة هارفارد، وكان كينان أعد ذلك المقال لصالح وزارة الخارجية الأميركية في منتصف سبعينات القرن الماضي. وسيبدو ذلك المقال، الذي يحوي وصفا رائعا للمؤامرات وأسرار وسياسات السلطة في بلاط قيصر موسكو، مادة مشوقة للقراءة. الأكثر أهمية هو أن البروفسور كينان يصور الغموض الذي يحيط بالقيصر الذي يمتلك السلطة في يده، حيث يشرح كيف أن النظام الذي يسيطر عليه النبلاء والبيروقراطيون، الذين يفرضون قيودا على حاكم الدولة، كيف أن هؤلاء أصبحوا مرتبطين ارتباطا عضويا قويا بالثقافة السياسية في روسيا.
بعد الحرب الأهلية المدمرة في القرن الخامس العاشر، قررت تلك الفئات وضع أساس لزعيم قادر على لعب دور الوساطة في النزاعات، وكذلك توزيع السلطة والإقطاعيات عليهم. ومنذ ذلك الوقت، اتجه النبلاء والبيروقراطيون لوضع غطاء من السرية على النظام الحاكم وبالغوا في رسم صور الدور الذي يلعبه القيصر في أذهان العامة.
ولسوء الحظ، يبقى فهمنا لطبيعة نظام بوتين وأكثر اللاعبين أهمية في ذلك النظام مشوها بسبب الإحباط الذي يتملكنا من أن روسيا فشلت في التطور والسير على خطوات دول الغرب. وبالنظر إلى نزعة بوتين السلطوية وعدائه لمصادر النفوذ الخارجية، فضلا عن مقاومته للإصلاحات الغربية، فنحن بذلك نتغاضى عن فكرة أن تقييم بوتين للنظام الحاكم، تقوم على الحفاظ على التوازن بين جماعات المصالح المتنافسة فيما بينها. وكما كان الحال منذ خمسة قرون، تظل المعارك داخل الكرملين بين جماعات المصالح تلك تدور حول السلطة والمال وكيفية الحصول على الامتيازات الخاصة، وليس صراعا حول الآيديولوجيات.
* خدمة «نيويورك تايمز»
عن الشرق الاوسظ