من منا لايعرف نوري السعيد،او ما يعُرف بالباشا اذ كان رحمه الله من اكثر السياسيين العراقيين قربا الى مركز الحكم في العهد الملكي ..
فالرجل تسلم الوزارة اي تبوأ منصب رئيس الوزراء لمدة اربع عشرة دورة من مجموع 58 دورة شملها مدة الحكم الملكي في العراق ،من عام 1920م حيث شكل عبد الرحمن النقيب حكومته المؤقتة ،الى الرابع عشر من تموز حيث تم القضاء على الحكم الملكي بثورة 14تموز 1958م..
فضلا عن عشرات المناصب الوزارية اذ شغل مناصب وزارة الدفاع والخارجية والداخلية في دورات عديدة في كتابه اوراق ايامي يتحدث طالب مشتاق السياسي العراقي الذي تقلد في اخر ايام حياته الوظيفية في العراق منصب سفير العراق في تركيا ، عن البنك العربي، اذ كان مديرا له لمدة تجاوزت الثلاثة عشر عاما حيث تم تعيينه حين فصل من الخدمة بوزارة الخارجية بعد احداث ثورة مايس 1941م وكان السيد مشتاق اثناء عمله في السلك الدبلوماسي قنصلا في القدس كان صديقا لعبد الحميد شومان مدير البنك العربي الذي وجد فيه شخصية محترمة اختارها لتكون مديرة فرع البنك في بغداد على الرغم من عداء الحكومة والبلاط في العراق لشخصية طالب لوقوفه الى جانب حركة رشيد عالي الكيلاني كما اسلفنا ،ومن هنا اصبح مشتاق طالب مديرا للبنك العربي فرع العراق من عام 1945م وحتى عام 1958م..
وقد أدار عمله بذكاء وقدرات ذاتية واضحة ، يتحدث في كتابه اوراق ايامي عن كيفية اقتراض نوري السعيد مبلغا من المال من البنك وعن عملية تسديده للقروض بامانة وصدق ، فيقول:
“عندما قدم الى بغداد عبد الحميد شومان لافتتاح البنك العربي قام بزيارة
مجاملة للمرحوم نوري السعيد..
وبعد ذلك اراد نوري السعيد ان يعيد الزيارة فاوفد رؤوف الكبيسي المرحوم يسأل عبد الحميد شومان المكان الذي يراه مناسبا لاعادة زيارته فاجابه : ليتفضل الى مبنى البنك العربي في شارع السمؤال ذهب الكبيسي ثم عاد الى عبد الحميد شومان واخبره ان الباشا يقول :
انني لاادخل الى البنك العربي مادام طالب مشتاق مديره …
امتعض عبد الحميد شومان من هذا الجواب وقال للكبيسي اذا قل للباشا ياسيدي ليس لدي مكان اخراستطيع ان اقبل فيه فخامته وليرجئ زيارته الى وقت اخر..
احدى فروع البنك العربي
… وهكذا رفض الباشا دخول مبنى البنك العربي وبقيت زيارة شومان اياه دون اعادة … اما انا فلم اعر هذا الامر اهمية ولا ادري لماذا كنت اشعر في قرارة نفسي ان نوري السعيد سيدخل الى البنك العربي يوما من الايام حتما؟ وقد صرحت بشعوري هذا الى عبد الحميد شومان نفسه وقلت له مؤكدا : سترى ان نوري السعيد سيدخل الى هذا المبنى مرارا عديدة ، وستبرهن الايام لك صحة ما اقول …
وذهبت الايام سراعا واذا بعامل بدالة التلفون في البنك يقول لي في ذات يوم : ان نوري السعيد على الخط يريد محادثتك .. قلت :
ليتفضل ..
وسمعت صوت نوري السعيد يخاطبني : صباح الخير ياطالب …
اجبته: اهلا وسهلا صباح الخير ياباشا .
قال : لدي موضوع اريد ان احدثك به ، فكيف استطيع ان اراك ؟…
قلت انا اتي اليك متى شئت ياباشا …
قال : اذا تفضل لنشرب الشاي معا في داري اليوم عصرا ..
قلت : امرك ياباشا …
وذهبت في الوقت المعين واستقبلني الباشا بترحيب حار واخذ يلاطفني كعادته مع كل الناس الذين يتودد اليهم … وبعدذلك صار يعاتبني على بعض تهوراتي واندفاعاتي السياسية وقال يخاطبني : انك حرمت الدولة من خدماتك بمثل هذه التصرفات …
قلت : اذا كانت الدولة قد حرمت خدماتي فالشعب لم يحرم منها وقد يكون الشعب اولى بهذه الخدمات من الدولة …
قال : يالله انك لانسان غريب … لقد كنت نجما لامعا في وزارة المعارف وموضفا ممتازا في وزارة الخارجية ، ومديرا حازما للمحاسبات العامة
كل ذلك قد يكون شيئا طبيعيا بالنظر الى تدرجك في الوظائف وكسبك الخبرة
المطلوبة للعمل المثمر الناجح …كل ذلك حسن ، ولكن قل لي :
كيف اصبحت مدير بنك ناجح ؟..
اجبته مبتسما : ان الفضل في ذلك يعود اليك ياباشا ..
اجاب باستغراب : الفضل يعود لي ؟
قلت :نعم ، لو لم توعز بفصلي من وظيفتي وزجي في المعتقل لما عينت مديرا للبنك العربي ومارست عملي بجد واخلاص حتى برزت مديرا ناجحا كما تقول. فضحك وضحكت معه حتى جاء الى اصل الموضوع الذي طلب مواجهتي من اجله … قال عندئذ :طلبتك اليوم لاكلمك في موضوع خاص .. انني في حاجة شديدة الى ستة الاف دينار ، ومستعد لرهن اسهمي في معمل الغزل والنسيج لقاء تسلم المبلغ فهل بامكانك ان تدبر ذلك في البنك العربي ؟
قلت :بكل ممنونية ياباشا تفضل غدا الى البنك لنجري ما يلزم تنفيذا لرغبتك ؟
فانفجرت اسارير وجهه عندئذ عن ابتسامة تنم عن الرضى وقال:
شكرا،ساكون عندك في صباح الغد ان شاء الله
وقد كرر الباشا زياراته للبنك عدة مرات حتى انتهينا من معاملة رهن الاسهم ، وغير ذلك من الاعمال الرتيبة وبعد ذلك تسلم الباشا المرحوم المبلغ المطلوب وزال مابيننا من جفاء من تلك اللحظة ..
وارى من الانصاف ان اذكر في هذه المناسبة ان تصرفات نوري السعيد المرحوم في تسديد هذا القرض كانت دقيقة وسليمة للغاية ،فالاقساط سددت في مواعيدها والفوائد دفعت عند استحقاقها “
الى هنا انتهى كلام المرحوم طالب مشتاق وهنا لنا وقفة مستوحاة من النص أعلاه ،فالنص يتحدث عن رئيس وزراء مطلع على تفاصيل الحياة الوظيفيه لموظف بدرجة مدير عام، وهذا يدل على عظمة الاهتمام ،اهتمام القادة بتفاصيل حياة الرعية ممايؤثر على نسق العلاقة ومردوداتها خدمة للصالح العام ، النص يتحدث ايضا عن رئيس وزراء محتاج الى مبلغ من المال ومن الممكن ان يوظف سلطته للحصول عليه من الدولة بشكل او باخر الا ان النزاهة واحترام شرف الوظيفة فضلا عن قوة القوانين المعمول بها كل ذلك حال دون ان يكون هناك فعل يشوه صورة العلاقة الجميلة بين المسؤول ومؤسسات الدولة، النص يتحدث عن رئيس وزراء لم يطلب من البنك ان يرسل موظفا منه لتكملة معاملة القرض بل ذهب بنفسه ولاكثر من مرة دون ان يشعر الاخرون بانه فوق القانون ، وفوق الضوابط والاجراءات..
أحمد مختار بابان
ملاحظة: في تموز 58 كان السعيد رئيس وزراء الأتحاد الهاشمي وكان احمد مختار بابان رئيسا لوزراء العراق
د. علي العكيدي