حكاية آصف شوكت والأرانب البيضاء

يوسف بزي: تلفزيون سوريا

في أمسية بيروتية، قبل أيام، روت سيدة دمشقية القصة التالية: “كان أطفالي وأطفال جارتي أيضاً زملاء لأطفال بشرى الأسد (وزوجها آصف شوكت) في إحدى المدارس الراقية. ولذا، كان من الطبيعي أن يلبوا دعوة لحضور حفلة عيد ميلاد أحد أطفال بشرى الأسد في مزرعة قريبة من العاصمة. وحدث في منتصف الحفل أن بادر آصف شوكت إلى جمع الأطفال، واصطحبهم جميعاً إلى سوق الطيور والحيوانات الداجنة في دمشق. وهناك، اشترى لكل طفل أرنباً أبيض، ثم عاد بهم إلى مزرعته ليكملوا الحفل واللعب مع أرانبهم الصغيرة. فجأة، خطر ببال آصف شوكت أن يشارك الأطفال مرحهم، فجمعهم حول بركة وقرر أن يعلّمهم كيف يقتلون أرانبهم. هكذا بدأ بأخذ كل أرنب وإغراقه في الماء حتى ينفق. الأطفال جميعهم أُصيبوا بصدمة عنيفة، ولكن طفلة جارتي التي لديها علة مزمنة في قلبها شارفت على الموت من شدة هذه الصدمة وتم نقلها على وجه السرعة إلى المستشفى”.

لم نعرف رد فعل السيدة بشرى عما اقترفه زوجها آصف شوكت، ولا ندري ما الذي شعر به هذا الأخير وهو يرى الرعب على وجوه أولئك الأطفال. لكن يمكننا التخمين أن رجل المخابرات وابن النظام (المقتول فيما بعد) كان “يتسلى” بمجزرته الحيوانية،

قد يكون آصف شوكت في طفولته من هؤلاء الساديين الصغار الذين يتلذذون بتعذيب قطة أو جندب. لا يمكننا الجزم بذلك، لكنه كرجل ناضج كان أغلب الظن متدرباً على التعذيب والقتل بحكم مهامه المخابراتية والأمنية

وربما غمرته لذة خفية فيما الأرانب تتلوى بيده تحت الماء. كان على الأرجح مغتبطاً بهذا العجز المطلق للأرنب أمام جبروت قبضته القاسية. بالتأكيد ما كان ليقدم على قتل كل أرنب، هكذا واحداً تلو الآخر، بهدوء، لو لم يكن يتمتع أيضاً بأثر ذلك على وجه كل طفل. يُغرِق أرنباً ويحدق في ملامح كل واحد من المتفرجين الصغار. ربما اعتقد أن هؤلاء كان عليهم أن يبتهجوا بهذه “اللعبة”، فالحقيقة أن هناك الكثير من الأطفال لديهم ميول سادية تجاه الحشرات أو الحيوانات الصغيرة. قد يكون آصف شوكت في طفولته من هؤلاء الساديين الصغار الذين يتلذذون بتعذيب قطة أو جندب. لا يمكننا الجزم بذلك، لكنه كرجل ناضج كان أغلب الظن متدرباً على التعذيب والقتل بحكم مهامه المخابراتية والأمنية. وهو في حفلة عيد ميلاد أحد أولاده، أراد بالطبع أن يضفي بهجة إضافية على هذه المناسبة. وبالتأكيد، لم يخطر بباله أن يفسد أجواء المناسبة. كانت نيته في هذه المقتلة المائية الباردة ربما أن يمنح الأطفال درساً قيّماً ليس في علم البيولوجيا وحسب، إنما في اكتشاف حقائق الحياة وقسوتها، أن يعرفوا كما هو يعرف “.. ولكن تؤخذ الدنيا غلابا”، فإما تكونوا رجالاً أو تكونوا أرانب. وبالنسبة إلى آصف شوكت، تعريف الرجولة هو القتل بلا تردد.

لكن لإعطاء هكذا درس، كان يمكن لآصف شوكت أن يكتفي بقتل أرنب واحد وليس جميعها. من الصعب فهم إصراره على كل هذا المشروع “الترفيهي” من شراء الأرانب البيضاء وما تأتي به من حبور لدى الأطفال ورمزية البراءة والوداعة التي تكتنفها، ومن ثم قتلها تسلسلياً، ويرغم الأطفال على مشاهدة فعلته، إن لم نفهم ما هو أبعد من تلك الغاية “التربوية” لصهر آل الأسد. فإضافة إلى “الدرس”، أو التدريب المبكر على القتل وعلى ترسيخ “عادية القتل” في نفوسهم، بوصفها من طبائع الحياة والدنيا، أراد آصف شوكت أن يتسلى وأن يرفّه عن نفسه وعن نفوس هؤلاء الصغار. أراد أيضاً أن يمارس الطقس الذي تعوده في حياته اليومية: وظيفة السيطرة المطلقة على حياة الناس وموتهم. تلك هي مصدر اللذة الكبيرة. وكان سخياً بإشراك الأطفال بما يلتذ به. أظهر لهم معنى “السلطة” كما يفهمه هو وزوجته وأسرتها الحاكمة.

ثمة بعد آخر في هذه “المجزرة”. يمكن القول إن آصف شوكت رأى في هؤلاء، تلامذة المدرسة الخاصة التي يرتادها أبناء النخبة الحاكمة وحاشيتها، ورثة طبيعيين للسلطة. هؤلاء هم الذين سيحكمون سوريا مستقبلاً: “أبنائي وزملاء أبنائي”. وبناء على هذه الحقيقة، يجب أن يتعلموا ما لا تعلمهم إياه المدرسة، أي شروط السلطة والحكم والسيطرة، والقدرة على ممارسة القسوة والقتل، بل التمتع بهذا “الواجب”. الأرانب هي كناية. حيوانات بريئة اليوم، وبشر أبرياء غداً.

لكن في سياق آخر، تغدو لعبة آصف شوكت أكثر تعقيداً. فهو لم يطلب من الأطفال أن يقتلوا أرانبهم. تولى هو المهمة لوحده. قد نتساءل: إذا أراد فعلاً تدريبهم، كان عليه بالأحرى إجبارهم على المشاركة أو امتحان كل واحد منهم ومدى قابليته للقتل. وحسب رواية السيدة الدمشقية، لم يبادر لسؤال أي من الأطفال إن كان مستعداً لإغراق أرنبه.

إعفاء آصف شوكت للأطفال من هذه المهمة، تجعلنا نظن أنه كان مدركاً فداحة ما يرتكبه، وأن فعله يفوق قدرة هؤلاء الصغار على مجاراته. كان يعرف أن مشهد اختلاجات الأرانب اليائسة تحت الماء وموتها المؤلم والمتكرر، يتجاوز قدرة الأطفال على الاحتمال. وهنا يبرز معطى آخر شديد الأهمية: فحسب الرواية، امتنع الأطفال عن الاحتجاج. كانوا فقط مذهولين وخائفين ومصدومين.. وعاجزين. لماذا لم يتجرأ الأطفال على الاحتجاج أو التعبير عن رفضهم لما يفعله “سيد المزرعة”؟ هل تلقوا دروساً أخرى مبكرة أكثر أهمية وأشد وطأة عن سطوة هؤلاء الأسياد وبأسهم؟ هل خبروا وسمعوا ما يعلّمهم الصمت أمام جبروت آل الأسد؟ هل اكتسبوا بالحدس والتجارب، في ملعب المدرسة وفي شوارع الحياة اليومية وداخل بيوت أسرهم، ميزة الصمت إزاء أفعال هؤلاء “الكبار”؟

من المستحيل تفسير عدم احتجاج الأطفال واكتفائهم بالصمت إلا بغلبة الخوف عليهم. وحسب مرويات ملايين السوريين عبر العقود الماضية، كانت ميزة “سوريا الأسد” الأولى هي هيمنة الخوف، ذاك الخوف الأكثر عمقاً وأثراً من أي شعور آخر. صحيح أن المهانة كانت دوماً تصاحب السوريين، لكن الخوف كان أشد فاعلية إلى حد الاعتياد على تلك المهانة اليومية.

لكن إذا كان خوف السوريين سياسياً، وبالتالي يمكن فهمه، فلماذا كان الأطفال خائفين من آصف شوكت شخصياً؟ لا يمكن تبرير ذلك، إلا إذا كان لدى الأطفال حدس يرتقي إلى سوية اليقين أن هذا الرجل الذي يتسلى بإغراق الأرانب قادر ببساطة أن يقتل البشر، أن يقتل أي واحد منهم. لقد أدركوا تلقائياً أنهم أمام مجرم.

ثمة بعد أشد مأسوية في هذه القصة. لقد شعر أولئك الصغار بالخوف.

إن واحدة من مصادر هيمنة سلطة مستبدة، كسلطة آل الأسد، هي تعميم الشعور بالذنب. ذاك الشعور الذي يتولد تباعاً بعد الخوف والعجز

لذا، صمتوا ووقعوا في العجز. تركوا أرانبهم تنفق في بركة “المزرعة السعيدة”. من الخوف أتى العجز، ومن العجز أتى فعل التخلي. وعلى هذا النحو، لا بد أصابهم الشعور بالذنب.

برأيي إن واحدة من مصادر هيمنة سلطة مستبدة، كسلطة آل الأسد، هي تعميم الشعور بالذنب. ذاك الشعور الذي يتولد تباعاً بعد الخوف والعجز. فكل مواطن (خائف وعاجز) مارس في لحظة ما – أو دوماً – التخلي عن الاحتجاج، بل التخلي عن ضحية محتملة والسكوت عن جريمة جارية. بعد ذلك، يأتي ما هو أفدح من الشعور بالذنب وبسببه: الشعور بالشراكة في الجريمة. وما أن يستحوذ عليك الإحساس أنك شريك في الجريمة حتى تتخلى عن فكرة الاحتجاج. وأبعد من ذلك، وفي محاولة أخلاقية ملتوية للتخفف من تأنيب الضمير، قد تذهب إلى إنكار الجريمة أصلاً. ولا سبيل إلى هذا الإنكار إلا بنفي صفة الجناية عن القتل. هكذا تتم تربية الوحش.

أظن أن طموح آصف شوكت كان منح هؤلاء الأطفال “فرصة” كي يصيروا شركاء في الجريمة. كانت حصة تدريبية ليكونوا مجرمين ووحوشاً. وهذا بالضبط ما قد يعيننا على فهم ما شهدناه من طواعية مذهلة عند “رجال الأسد” على القسوة والوحشية وارتكاب الفظاعات.. بل هذا بالضبط ما قد يعيننا أيضاً على فهم تلك السادية الفائقة تجاه أطفال مدرسة درعا، وبعدهم الطفل حمزة الخطيب، ثم كل أطفال سوريا، الذين حطموا جدار الخوف وكسروا الصمت ورفضوا العجز.

This entry was posted in دراسات سياسية وإقتصادية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.