ميشيل كيلو : الشرق الاوسط
جلس الرجل الطاعن في السن إلى الأسد الأب في قصره الرئاسي، بعد أن كان قد غاب عن دمشق طيلة قرابة عقدين. كان صلاح الدين البيطار واحدا من رجلين أسسا حزب البعث عام 1947، وكان الذي يجلس قبالته رئيس دولة تحكم باسم البعث، فتصور المؤسس أنه يستطيع الحديث بأريحية حول ما كان يجري في وضع سوريا عام 1980 من قتال بين السلطة وإسلاميين تابعين لتنظيم صغير يضم ثلاثمائة شخص ونيفا اسمه «الطليعة المقاتلة»، أسسه حموي درس، في مصر اسمه «مروان حديد»، مات في السجن، فرد أنصاره على مقتله بثورة مسلحة تركزت أساسا في مدينة «حماه»، أثارت عاصفة سياسية داخل سوريا وحتى في حزب البعث، قبل أن تتحول من حراك متفرق مطالب بالحرية إلى اقتتال طائفي الهوية والنزعة، بث قدرا متزايدا من الخوف في نفوس المواطنين، الذين اكتشفوا ما ينطوي عليه الوضع السوري من مشكلات وأمراض مرعبة، لطالما أخفتها السلطة بالقمع والكذب أو أنكرت وجودها، فكان لانفجارها وللسرعة التي طفت فيها على سطح الأحداث، ولردود السلطة الأمنية العنيفة جدا عليها، أثر أرهب الناس موالين ومعارضين.
قال الشيخ لتلميذه البعثي: إن سوريا مريضة. فرد التلميذ منكرا أن يكون هناك أي شيء فيها غير مؤامرة إمبريالية – صهيونية يلزمه واجبه الوطني بقمعها بالشدة المطلوبة. لاحظ الشيخ أن هناك مظاهر مسلحة منتشرة في كل ركن من دمشق، فرد التلميذ منكرا ذلك. حين ألح الشيخ، لفت الأسد نظره إلى أن هؤلاء رجال شرطة، وعندما تساءل الشيخ عن هوية هذه الشرطة التي ترتدي ثيابا مدنية وتقف في محارس أمام مبان بعينها، وتنشر في الشوارع أو تركب سيارات بلا أرقام وسلاحها موجه إلى المارة، أجابه بلغة جازمة: ما رأيته لا وجود له. أنت تتوهم. شك الشيخ في سلامة الوضع، فطمأنه الحاكم باسم حزبه إلى أن كل شيء على ما يرام وتحت السيطرة، وأن الشعب يرفل في النعيم، وأن في سوريا فائض حريات لا يتوفر لأي دولة أخرى بما في ذلك فرنسا، وأن المواطنين لا يهمهم شيء غير شراء البيوت والسيارات، والسياحة في العالم، والانتشار كل مساء في المطاعم والملاهي لإنفاق فوائض دخولهم، وختم: النظام بخير لأن شعبه بخير.
غادر الشيخ دمشق إلى باريس، حيث يعيش مهاجرا، من دون أن يصل إلى نتيجة مع رفيق حاكم كان يظن أن له «مونة» عليه. ما إن كتب المؤسس مقالتين حول معايشاته في سوريا، وروى جزءا مما وقع له مع الأسد، حتى اغتالته يد مجهولة وهو يهم بدخول مكتب الجريدة التي كان قد شرع يصدرها قبل فترة. لقد كانت حياته الثمن الذي دفعه مؤسس الحزب لرجل سري وغامض ما من رجال تلميذه ورفيقه، الذي أصدر نظامه حكما بإعدام المؤسس الآخر، ميشيل عفلق، بعد أن نجا بجلده وهرب إلى بغداد.
على ذمة الراوي: جلس الأخضر الإبراهيمي إلى الأسد الابن في القصر الجمهوري، ليستطلع رأيه في الأزمة السورية وسبل حلها. قال الأسد لضيفه: إن الوضع تحت السيطرة عسكريا وجيد وطبيعي سياسيا. وأبدى تصميمه على تقديم حل للأزمة يغنيه عما يقترحه ضيفه بتكليف من مجلس الأمن. بينما كان الأسد يتحدث، بدأ إطلاق نار قريب وكثيف، بدت علامات الدهشة على وجه الإبراهيمي، فأخبره الأسد بكل هدوء: هؤلاء حراس القصر وهم يتدربون على إطلاق النار. لم يطرح الضيف أسئلة كي لا يقال له: «ما تسمعه لا وجود له، أنت تتوهم». لم يتحدث الأسد عن المطاعم المليئة بالمواطنين وفائض الدخول الذي لا يعلم هؤلاء أين ينفقونه، مثلما فعل الأب، لكنه تحدث بثقة عن أن كل شيء على ما يرام، وأن سوريا لا تواجه مشكلة أو أزمة، وأكد أنها تقاوم بنجاح المؤامرة الخارجية. كان الإبراهيمي يعرف تماما ما تعيشه سوريا، فقد وصل دمشق بالسيارة قادما من بيروت، ليس لأن مطارها الدولي مغلق بسبب أعمال الصيانة، كما قال النظام، بل لأنه تعرض لتدمير أصابه خلال هجمات تستمر منذ قرابة شهرين، أنكر النظام وقوعها.
رأى البيطار الشرطة بأم عينيه، فكذبه الأسد الأب. وسمع الإبراهيمي إطلاق النار بأذنيه، فأخبره الأسد الابن أنه لا يسمع شيئا، لأن هذا مجرد تدريب رسمي على إطلاق النار. بما أن الضيف مهذب ويعرف ما كان يجري، فقد أحجم عن طرح سؤال على مضيفه تقول كلماته: منذ متى يتدرب الجند على إطلاق النار في القصور الرئاسية؟ ولماذا يتدربون في القصر ما داموا يطلقون النار ليلا ونهارا على المواطنين والمقاومين، ويخوضون في كل مكان من العاصمة معارك ضارية لا تكاد تتوقف، بشهادة إعلام السلطة ورجالها؟
انتهت مأساة «حماه» عام 1982 بمجزرة مروعة طالت ما بين 25 و46 ألفا من سكانها، وأدت إلى تدمير معظم أحيائها، وخاصة الشعبية والتاريخية منها. بعد «الضربة» التي كان هدفها القضاء على المعارضة لمائتي عام، كما قال الأسد الأب في القيادة القُطرية، نقل التلفاز الرسمي مشاهد عن مظاهرات ضخمة تجوب شوارع المدينة قال إن شعبها قام بها ليشكر «السيد الرئيس» على إعادة الأمن والهدوء إليها. من الذي تظاهر إذا كانت ضربة «السيد الرئيس» لم تبق في المدينة من يمكنه تعكير صفوها، بعد أن قتل خمس سكانها، وأرغم شيبها وشبانها على الفرار منها، لا هدف لهم غير إعادة لملمة أسرهم الممزقة، التي صارت تنكر انتماءها إلى المدينة الشهيدة، لأن الانتماء إليها كان كافيا بحد ذاته لإطلاق النار عليهم؟
هذه عينة من مواقف الأب وابنه برسم وزير خارجية روسيا، الذي يشاركهما على ما يبدو أسلوبهما في معالجة المشكلات، الذي يركز على قتل المطالبين بالإصلاح بدل إنجازه والتصدي للأزمات، ولم يفهم بعد أن الأسد الابن هو أزمة سوريا التي لن تحل من دون تنحيه، وأن المستحيل هو بقاؤه في السلطة وليس خروجه منها!
actuallly, there are tons of such stories about the bloody assad`s family