حقاً جاء -قصة روحية

peaceOliver كتبها
-1-
أنا إسمي ماتيكا . أحب أن أسير في الشوارع الخالية. حيث لا أتوقع أن أقابل أحداً .الوقت بعد منتصف الليل في المدينة الصغيرة الهادئة و الحرارة تقل عن الصفر, الصقيع ينتشر في كل شيء و علي كل شيء.الرياح الباردة تلفح أوراق الشجر و ترسم علي وجهى ملامح الزمن البعيد .
أنا معتاد علي السير في مثل ذلك الوقت لا يمنعني البرد لأن لي طقسى خاص… في داخلى أعيش عالماً فريداً لا اري فيه أحد و لا يشاركنى فيه أحد. أسير مستمتعاً بالحرية كمن يطير فوق السحاب.كعصفور أسير في قفص بالنهار و منطلق في حرية في الليل هكذا أحب الليل و السهر و السكون.
ليس من المعتاد أن تجد الناس يسيرون في تلك الساعة المتأخرة إلا بعض الذين يمارسون رياضة الجرى و سيارات شحيحة تمرق بين الحين و الحين ثم تذهب بعيداً لتختفي في جوف الصمت .
في ثوان معدودة وجدت شخصاً يقترب منى.ربما كان تائهاً أو محتاجاً لمن يوصله بالسيارة إلي مكان ما.و أنا كنت مستعداً لمساعدةه بكل محبة.
تقدم الغريب بإبتسامة مؤثرة أسرتني في لحظة.قدم نفسه سريعاً قائلاً أنا كيتو و أنت؟قلت ببطء كمن يحاول أن يتذكر إسمه و أنا إسمي ماتيكا.إبتسم لى كيتو و كأنه في مهمة عاجلة قائلاً هل يمكنك البقاء معي بعض الوقت؟ لم تكن عندى قدرة لأفكر في مغزي السؤال و لا من اين جاء كيتو وكيف و لماذا و لا كان في قدرتى أن أرفض البقاء.كان كيتو يسأل ببساطة لكن بتأثير.أجبته نعم نعم عندي وقت أبقي فيه معك ماذا تريدني أن أفعل.أجابنى كيتو سوف أخبرك كل شيء.هل تريد أن نمشي أم نركب سيارتك؟ ركبنا السيارة.
كيتو: أنا عندي زيارات هامة .أريد أن أقابل أناس كثيرين.إطمئن لن أرهقك معي و لن أكلفك شيئاً .كل النفقات سأدفعها لك وعليك أن توصلني فقط فإن شئت أن تنتظرني سأعود إليك و إلا فأنا ذاهب لأتمم ما جئت لأفعله.
ماتيكا : أنا سأبقي.سأوصلك و أنتظر .أنا أحب أن أخدم ليس من أجل النفقات لكن يسعدني أن أقدم محبة.
(نظر إليَ كيتو نظرة مملوءة حباً) إستكملت جملتى سائلاً:.أين تريدني أن أوصلك؟.
أجاب كيتو: أريد أن أذهب إلي شارع جيرتل… إندهش ماتيكا .فالشارع سمعته رديئة و يضم علي جانبيه كل النوادي العارية و البيوت الحمراء. لم أتراجع عن قراري.لم أفكر في تقييم كيتو و لا في التفتيش في نواياه.لقد قدمت نفسى للخدمة و ليس من شأنى أن أحاسب من أخدمه أو أدينه.
كنت أقود سيارتى في صمت أخشي أن أسأل شيئاً….قطع كيتو الصمت قائلاً .هل تري الشوارع؟أجبته نعم أراها ليلاً حين تصبح خالية…. كيتو: ليست خالية.حتي لو لم تري أحداً.أنا أريدك أن تسير مفتوح العينين….. رنت عبارة مفتوح العينين في أذنى.و تذكرت ما قرأته عن بلعام بن فغور الرجل مفتوح العينين و عن جيحزي الذي فتح الله عينيه ليري جيش الملائكة.كانت عبارات كيتو تأتي إلى أذنى و معها يأتي إنفتاح علي الكتاب المقدس بأمور لم أعرفها من قبل.فقلت في نفسى لا شأن لي بالرجل أين يذهب و ماذا يفعل.. إذ يكفينى أنه قادني بأسئلته إلي أعماق في كلمة الرب لم يسبق أننى فكرت فيها.يبدو أن مدينتنا فيها جيش من الملائكة.و حتماً بسبب غزو جيش من الشياطين.المعركة في مدينتنا تدور ليلاً و نحن نظن الشوارع خالية,كنت أظن أنني أسير في شوارع خالية بينما أن المعركة محتدمة بين جيشين لم أرهما.
لم أشعر بالوقت حتى وصلت إلي شارع جيرتل و سألت كيتو.. هل تريدني أن أقف هنا؟ أجابنى : إنتظر لو شئت… قلت سأنتظر….و خرج كيتو مرتدياً ملابس شتوية و علي رأسه قبعة رومانية.
لا أدري كم إنتظرت .لكننى لم أتوقف طويلاً.كأنها دقائق و عاد كيتو… كانت في يده أحد بنات الهوي.كانت باكية تنتحب و تشهق و قد رسمت الدموع لطخات سوداء من المساحيق الغزيرة التي لونت بها وجهها.
خاطبنى كيتو بهدوءه العميق: سعيد أنك بقيت معي و إنتظرتنى.هل تذهب بي وسط المدينة.قال هذا ثم نظر إلي المرأة التي شاركتنا السيارة قائلاً: سأضعك في الفندق و سوف أرسل من يعتني بك إطمئني و كوني في سلام.بعدها هدأت المرأة و ساد سلام عجيب في المكان أقصد في السيارة. …هل كانت المرأة أحد قريباته أم إبنته؟
وصلت بي السيارة وسط المدينة…كان يجب أن أقول أننى قدت السيارة و لكنني لست متأكداً أنني قدت السيارة حتي وسط المدينة.هناك نزل كيتو و في يده المرأة و قد كساها سلام عميق وقد تسربت إبتسامة إلي وجهها الملطخ فكانت مزيج من نور و ظلمة.
إختفي كيتو في مدخل أحد العمارات ثم عاد سريعاً و إختفت المرأة أيضاً. سالني كيتو: هل تذهب بى إلي الكاتدرائية؟ سألته: أنا أعرف أن هناك كاتدرائية لطائفة الإنجيليين هل تقصد تلك الكاتدرائية؟ نظر إلي دون أن يعلق…. قٌدت السيارة في صمت وكأن عبارتي ضايقته.. لم أفكر في الطريق حتي وصلت. سألني هل تأتي معي؟؟؟ قلت نعم و خرجت مهرولاً من السيارة.كان الوقت ليلاً و حتماً الكاتدرائية مغلقة و لا يوجد بها أحد… فقلت ماذا سيفعل هنا في الكاتدرائية…لكنه فاجئني بسؤال جديد و هو يسير بقامته الهيفاء : كانت مفاتيح الكاتدرائية معي….أعطيتها لبعض أحبائى و اليوم أغلقوها .أخذوا المفاتيح منى و لا يريدون أن يعيدونها إليً.هل كان من الأفضل أن أحتفظ بالمفاتيح لنفسي؟ لم يكن سؤاله يحتاج إلي إجابتي بل كان يدفعنى دفعاً إلي التفكير في أمور لم تخطر ببالى من قبل.
و نبينما نقترب من باب الكاتدرائية و أمام الباب أخرج من جيبه رسالة و دفعها بلطف تحت الباب.الآن علمت أن كيتو ليس غريباً عن مدينتنا. أمرني أن أتجه نحو الشرق.
في الطريق كنت منصتاً للصمت.كان في الصمت يدور كل الكلام.
في الطريق إلي الشرق يوجد تقاطع بين شارعين رئيسيين.بينهما جزيرة وسطى يكسوها الجليد.و فجأة أمام السيارة وجدت رجلاً طويل القامة ليس أقل من مترين و نصف.لم أر إنساناً في مثل طوله…كان مرتدياً سترة جلدية مثل الإنسان البدائي و كانت سترته تغطي فقط صدره.وسترة أخري ممزقة علي حقويه. علي ظهره و عند جنبيه كان يحمل سهاماً كثيرة كتلك التي تستخدم في صيد الحيوانات قديماً.كان الرجل يسير و نظرنى و هو متجه نحو جنوب بلدتنا.كان الظلام يكسو وجهه.كان وجهه مرعباً و ليس فقط مخيفاً. لقد قرأت للقديس مكاريوس الكبير أنه رأي الشيطان بهذا المنظر ..الآن أنا أتذكر…أبعدت عيني عن الرجل الظلامى و صليت في قلبي كثيراً حتي إبتعدت عنه.سمعت كيتو يكلمني و لم أتبين ما قاله.كان الخوف متحكم فيَ.و لكن كيتو ردد عبارته: إطمئن لا تخف.فضاع الخوف لكن بعد أن أضاع مني بعض العبارات التي لم أتبينها من كيتو.الآن علمت أن مدينتنا ليست خالية ليلاً.بها أعداء لم أرهم حين كنت أتمشي.
ذهبت نحو الشرق.كنيستنا هناك.وقفت معه في الكنيسة.. كان بابها مفتوحاً و كل مكاتبها الملحقة كانت فوضوية و غير نظيفة.
أخرج كيتو شيئاً من جنبه و ظل يمسح و ينظف مقاعد الكنيسة..و أعاد ترتيبها فصارت رائعة…
وجدت كيتو يفتح بعض الأدراج.يخرج منها أوراقاً كثيرة.أعطاني إياها قائلاً لي إحرقها.دخلت بالأوراق غرفة الحمل المكتوب عليها بيت لحم ..كنت أتحرق لمعرفة ما بالأوراق..ربما لرغبتي في معرفة سر حرق الأوراق.كان بعضها شكاوي الناس في الناس.و البعض الآخر حسابات مالية ..فتحت الفرن و ألقيت الأوراق و إحترقت لكن رائحتها كانت كريهة للغاية قال لي كيتو هل تشم هذه الرائحة؟ ما كانت رائحة أوراق تحترق بل رائحة أجساد تحترق.فقلت نعم اشمها فقال لي هل رأيت الرجل الظلامي الكريه يتجول في الشوارع؟ قلت نعم ..قال لقد أحرقت الأوراق التي كان يستخدمها ضد أولادى . لعلهم لا يدينوا بعضهم البعض و هم الآن أبرياء… سر جديد ينقصنا هو سر حرق الأوراق..
بدأت أشعر أن كيتو ليس شخصاً عادياً….و تعجبت كيف أنه كان يملك مفاتيح الكاتدرائية الإنجيلية و يملك أيضاً مفاتيح كنيستنا فسألته ؟ هل أنت أرثوذكسي؟ أجابني لا .هل أنت إنجيلي؟ أجابني لا…فقلت له لأي طائفة تنتمي و أنت تملك كنيستين؟ قال لي أنا لي كنائس كثيرة .قم ننطلق من ههنا…
فخرجنا و خرجت مني أفكار كثيرة كنت أظنها صحيحة لوقت قريب.كنت أنتظر منه أن يوجهني للجهة التالية التي يقصدها لكنه فاجئني بطلبه أن أذهب إلي بيتي. فرحت برغبته زيارتي…هل يملك مفاتيح بيتي أنا أيضاً؟؟كنت أظن أنه سيأتي بيتي دقائق قليلة كما فعل عند في كل زياراته السابقة ..كنت أعرف أنه سيفارقني لكنه لم يفارقني.
سرت به نحو منزلي و أنا في قمة الفرح… كنت في قلبي أشعر بشئْ يلتهب في داخلى.كنت طائراً محلقاً لا يريد أكثر مما هو فيه…. وقفت عند باب عمارتنا..قال لي إنتظر هنا…. ما هذا ؟ هل يزور منزلي و أنا أنتظره بالأسفل…و بقيت أسفل أما هو فدخل عمارتنا و ركب المصعد و صعد…كنت اسكن الطابق السابع لكن كيتو قصد الطابق السادس.نعم أنا أعرف هذه الأسرة .لكنني لم أفكر يوماً في زيارتها .كنت أظن أن كيتو يقصدني بالذهاب إلي بيتي لكنه قصد الطابق الأقل…السادس يذكرني بالإنسان المخلوق في اليوم السادس.و الذي تم خلاصه في اليوم السادس أيضاً.و جاري كان في الطابق السادس. و من عند جارى نزل كيتو و أنا أمام مدخل عمارتنا أندهش و أندهش.كنت أظن أنه سيزورنى…
قال كيتو سأزورك و لكن ليس اليوم.بل حين تأتي كل الأسرة.كانت أسرتي مسافرة.نظرت إليه و أحببته…إنه يعرفني أنا أيضاً و يعرف اسرتى؟؟
ثم قال لي…خذ هذا لك..لقد وعدتك أن أسدد كل النفقات…و أعطاني خطاباً. سألته هل تريدني أن أوصلك لي مكان آخر؟ أجابني نعم أريدك أن توصلني لأماكن كثيرة لكن ليس الآن بعد..سآت سريعاً.أنا الآن ذاهبْ وحدي….سلام… و مضي فجأة مثلما أتي…نظرت حولي فإذا الجليد في كل مكان.و أصوات الطيور تصدح .و الفجر بدأ يشقشق.و أنا متسمر أمام بيتي.في يدي خطاب أحتضنه.. كنت أود أن لا يكون فيه مالاً مطلقاً.بل رسالة تؤكد أنني بالفعل قابلت كيتو و أنني لم أكن أحلم أو أتخيل.فتحت الخطاب. و يا لسعادتي.. لم يكن فيه مالاً بل رسالة.تفاصيلها كثيرة…سيكون الكلام عنها في مرة قادمة.لأن الزيارة كانت طويلة و عميقة و مؤثرة ….آه لقد تذكرت أنه زار أيضاً أماكن أخرى….سأحكى لكم لاحقاً أين و ماذا فعل هناك ….لقد تسائلت كثيراً عن سر إسم كيتو حتي عرفت أنه يعني ( المسيح) باللغة الفيتنامية.و إلي الآن يرن صوته في أذنى كأنه لم يفارقني …كل ليل أعيد تذكر عباراته..و أجد فيها معان جديدة…

About Oliver

كاتب مصري قبطي
This entry was posted in الأدب والفن. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.