مابين المفكرين الأخوانيين الإسلاميين ( حسن الترابي السوداني وراشد الغنوشي التونسي ) فقد مات الإثنان في وقت واحد.!!!
في منتصف الثمانينات دافعنا عن حسن الترابي بحماس في أن يكون شريكا في قتل المفكر العارف العارج السالك (محمود محمد طه “الأستاذ”) الذي كان –ربما آخر الأوتاد المئة من السالكين الممسكين الأرض عن الميل والانهيار بسبب أخطاء البشروخطاياهم وفق منطوق الصوفيين ، فقد كان “الأستاذ” حيث تفرد بهذا الاسم عند أصدقائه وأعدائه…. نعم إنه ا(لأستاذ) دون إضافات، فهو خاتمة ( ضنائن الله من الحواريين ) الذي أقبل على إعدامه طائعا مختارا، إذ كان يعتبرموته القرباني فريضة صوفية لمن في مرتبته العليا، حيث لا بد من (الفداء بالفناء) فافتدى بشريتنا الفانية والفاسدة بتقديم نفسه كقربان لينضم إلى حواريي المسيح …حيث الوصول إلى الفناء بذات الله تبدأ من الفناء بذات خلقه ….
في منتصف الثمانينات قام الجنرال الفاسد (نميري) الذي زين له الأخوانيون أنه ملاك سماوي، وأنه لا بد أن يطبق الشريعة لحماية مملكته (الملائكية )، فتوافق هواه ذاك مع هوى ابليسيته العربية النهمة للسلطة والسلطان، فكان عليه أن يبدأ بذبح فكرة (الاسلام الجمهوري) من خلال شنق زعيمه المؤسس الأول للمفهوم النظري عن (الإسلام الجمهوري )، وهو (الأستاذ ) محمود محمد طه …وذلك لاستعادة روحانية الإسلام من أجل نهضته ، وذلك بالبدء شعبيا بإنقاذ روحانية الصلاة بوصفها معراجا إلى الله للتوحد بذاته عبر التوحد بخلقه الجمعي لتحقيق الذات الفردية …..فكانت الجرعة الفكرية والمعرفية كبيرة على امة إسلامية (تصلي بدون صلاة ) لأنها صلاة العادة وليس العبادة …فكان لا بد أن تستغل هذه الأطروحات من متربصي السياسة ( العسكر والإسلاميين ) اللذين كفروه ، وحكموه بالردة …
لم يكن ذلك مفاجئا من قبل وغد خنزير عسكري كالنميري أعلن تأسلمه بالتوافق مع الأخوانيين، لكن المفاجأة الكبرى كانت بموافقة المفكر الاسلامي السياسي (العقلاني المعتزلي) خريج جامعات لندن وباريس …. وهو حسن الترابي الذي أيد تنفيذ حكم الردة بـ(الأستاذ) ، رغم أن الترابي ينكر ( عقلانيا – معتزليا ) حكم الردة في الاسلام …ورغم التشويش وشطارة الترابي بالتلاعب السياسي بالكلمات من خلال تشريع الكذب بوصفه سياسة حديثة …لكنه في آخر مقابلاته، رغم محاولاته المراوغة والتملص من مسؤولية هذه الجريمة بحق العقل والفكر قبل السياسة ، فإن الترابي حاول ( بمغناجيته المعروفة عنه بوصفها صورة للاعتدال والعصرية)، حاول أن أن يدس عدوانيته الحسودة بطريقة نمائمية لا تعلن تأييد القتل، لكنها تبرره بشكل غير مباشر، إذ اعتبر أن قتل (ا المفكرالعارف السالك العظيم ) كان ردا مفهوما من النميري على رفض (الأستاذ وحزبه الجمهوري) تطبيق الشريعة المحمدية التي ساندها الأخوان والترابي ، لكن لصالح الشريعة (المحمودية) على حسب الدس النمائمي للمرحوم الترابي …أي أن الاستاذ كان يريد أن يحل محل النبي !!!) وفق ما كان الترابي يريد أن يوميء !!!
هذه خيبة تأسيسية من ممثل الاسلام الأخواني الاعتدالي ، والذي تخلى عن تسميته لصالح تسمية أخرى، كما داب الأخوانيون على توهم ان تغيير أسماءهم تنسي الناس مضمون برنامجهم وتاريخهم وفحواره ومغزاه، وتلك خيبتنا الكبيرة الثانية في ذات الوقت الذي توفي فيه الترابي، مع مفكر إسلامي عقلاني حداثي ديموقراطي كالأستاذ (راشد الغنوشي، الذي رفض أن يكون حزب الله ارهابيا بعد كل هذا الذبح بأخوانه السوريين ….
كنا نراهن على إسلام جمهوري ديموقراطي يستعيد روحانية الاسلام وينبذ شكلانيته الفارغة التكرارية من المعنى أو (اللب ) حسب تعبير عارفنا العظيم ( الأستاذ محمود محمد طه )، وهذا ما كنا نراهن عليه لدى (العقلاني الحداثي الغنوشي ) الذي صدمنا وخيبنا بالدفاع عن إسلام (طائفي غنوصي ذي مرجعية زرادشتية مخارجة لهوية الاسلام العربية)، حيث ظلت تشكل عبر تاريخها حربة في خصر وظهر الأمة الاسلامية على حد تعبير صلاح الدين الأيوبي، وكأنه يرى مجازر حزب الله وإيران بقيادة روسيا، وهي تسبح في الدم السوري ..
(الترابي والغنوشي) نموذجان للقيادة الفكرية والسياسية للإسلام السياسي لا تقدمان له رصيدا رمزيا سوى مزيد من التراجع والتقهقر والافلاس….رغم أنهما هما المفكران الأهم اجتهاديا في الفكر السياسي الاسلامي في العقود الأخيرة …إذا استثنينا الأبدال ضنائن الله من أمثال العارف السلك ( محمود محمد طه ) الذي توافق( العسكر والاسلام السياسي ) على قتله ….خوفا مما يمثله من بدائل (روحانية حضارية وليس صوفية الدروشة)، رغم ان الأستاذ لم يكن لديه مشروع انقلابي سياسوي عسكري أم إسلاموي ، وإنما افتدى بشهادته أسرار ما بعد سدرة المنتهى في شؤون الخلق الذين اتحد بمعاشهم الدنيوي، وليس بما بعد موتهم الفردي الخاص وفق تعبيراته ، فهذا هو شأن أكبر من الخلق والمخلوقين بشرا أو ملائكة … ولهذا بقي الأستاذ ( محمود محمد طه ) إماما بلا وريث …دون أن يتمكن من وراثة هذه الإمامة (الترابي أو الغنوشي) ، وهما اللذان كانا الأكثر ترشيحا لوراثتها عربيا وإسلاميا…