رياض الحبيّب
ما موقفك أختي القارئة- وأخي القارئ- من صديق خصصت لزيارته وقتًا فاستقبلك بخير ترحيب؛ لكنّه لم يسمح لوالدتك بالدخول إلى بيته، بل اشترط عليك أن إبقاءَها في الخارج أو العودة معها إلى المنزل، بحجّة أنّ علاقتكما رسميّة وأنه كان ينتظرك شخصيًّا ولم يتوقع منك اصطحاب والدتك؟ من جهتي؛ تصبح هذه الصداقة، أيّا كان شكلها، في خبر ‘كان’ ويصبح اسم هذا الصديق في سلّة المهملات. فالسيد المسيح له المجد حين قال وسط الجموع {مَن هِيَ أُمِّي ومَن هُمْ إخوَتِي؟ ثم مد يده نحو تلاميذه وقال: ها أمي وإخوتي. لأنّ من يصنع مشيئة أبي الذي في السماوات هو أخي وأختي وأمّي- متى 12 ومرقس 3 ولوقا 8} لم يتوقف بالقول {مَن هِيَ أُمِّي ومَن هُمْ إخوَتِي؟} مقلِّلًا من شأن أمّه وإخوته- حاشا وكما يُظَنّ- بل أشار من جهة لجموع تلاميذه (اليهود وهم يعرفون المكتوب في ناموس موسى) إلى الآية التالية {الذي قال عن أبيه وأمه: لم أرهما وبإخوته لم يعترف وأولاده لم يعرف بل حفظوا كلامك وصانوا عهدك- تثنية 9:33} بالإضافة إلى مجيئه كطبيب إلى المرضى لا الأصحّاء وكمُخلِّص للخطاة لا الأبرار- متى 9 ولهذا السبب ركّز الإنجيليّون الثلاثة على قول المسيح المذكور. فلا يعقل عاقل أن يحتقِـرَ السيّدُ أمَّهُ أو ‘إخوته’ في وقت نادى بمحبّة الأعداء ومباركة المُبغِـضين
بالمناسبة؛ المقصود بقوله في العهد الجديد ‘إخوتي’ أي أقاربي، كما في التقليد اليهودي. وفي الكتاب المقدّس أمثلة كثيرة؛ منها في العهد القديم: قد اٌعتُبر إبراهيمُ أخا لوط (تكوين 8:13 و 16:14) وهو في الواقع عمّ لوط- تكوين 5:12 ونقرأ في سفر التثنية قول الله لموسى: {فإنك تجعل عليك مَلِكًا الذي يختاره الرب إلهك. من وسط إخوتك تجعل عليك مَلِكًا. لا يحلّ لك أن تجعل عليك رَجُلًا أجنبيًّا ليس هو أخاك- تثنية 15:17} والمقصود بقوله: {من وسط إخوتك} أي من اليهود أمّا المقصود بالأجنبي: غير اليهودي. ومنها ما في العهد الجديد: {وكانت واقفات عند صليب يسوع، أمُّهُ، وأختُ أمِّهِ مريم زوجة كلوبا، ومريم المجدلية- يوحنّا 25:19} فلا يمكن أن تدعى أخت مريم باٌسم مريم أيضًا في الأسرة ذاتها، علمًا أنّ مريم التي لكِلُوبا هي أمّ يعقوب ويوسي وسمعان ويهوذا الذين سمّاهم العهد الجديد: إخوة يسوع. ونقرأ أيضًا وصيّة يسوع وهو على الصليب لأمِّه: {يا امرأة، هُوَذا ابنكِ} وللتلميذ يوحنّا الحبيب- وهو يوحنّا الإنجيلي: {هُوَذا أمُّكَ} علمًا أنّ يوحنّا الإنجيلي وأخاه يعقوب هما ابنا زبدي وسالومة من بيت صيدا في الجليل. طالع متى 56:27 أيضًا. علمًا أنّ اسم مريم هو الأكثر شيوعًا بين أسماء النساء في الكتاب المقدّس؛ ثماني مريمات: مريم بنت عمرام أخت موسى النبي وهارون الكاهن. ومريم من إحدى عشائر يهوذا في سفر أخبار الأيّام الأول 17:4 ومريم العذراء. ومريم زوجة كِلُوبا. ومريم أخت مرثا ولعازار. ومريم أم يوحنا مرقس (أعمال 12: 12) ومريم التي سلّم عليها بولس الرسول في رسالته إلى روما 6:16 وأخيرًا مريم المجدلية التي ظنها بعض المسيحيّين هي المرأة الزانية التي خلَّصها الربّ يسوع من الرجم (يوحنّا 8) والحقيقة أنها ابتُليت بسبعة شياطين أخرجهم منها المسيح فتبعته (لوقا 8 ومرقس 16) وكانت ذات ثروة وممّن ساعَـدن بأموالهن في خدمة كلمة الرب. وهي بالمناسبة أوّل إنسان ظهر له المسيح بعد القيامة (مرقس 9:16) وإحدى المَريَمَين اللتين قال لهما يسوع بعد القيامة: {لا تخافا! إذهبا فبَلِّغا إخوتي أن يمضوا إلى الجليل، فهناك يرونني- متى 10:18 ويوحنا 17:20} فإلى أيّ إخوة ذهبت مريم المجدليّة؟ الجواب: إلى تلاميذ يسوع والجواب من الكتاب: {فجاءت مريم المجدلية وأخبرت التلاميذ بأن «قد رأيت الرب» وبأنه قال لها ذاك الكلام} – يوحنّا 18:20
ولنفترض من جهة أخرى أن صديقًا لي قد أحسن في استقبالي ووالدتي بما يليق بها وبي، لكنّ صديقًا آخر قد بالغ، في نظرك أختي القارئة، بالحفاوة كثيرًا، تكريمًا لي ولوالدتي، فما هي مشكلتكِ مع الصديق المُبالغ؟ إنما المبالغة التي في نظرك هي في نظر هذا الصديق ما يجب عمله تجاهي ووالدتي. ففي تقديره الشخصي أننا- والدتي وأنا- نستحق ذلك التقدير، بل نستحق أكثر إمّا كان ذلك في وسعه. هذا الصديق مُدرك تمامًا ما فعل، لأنّ علاقة المحبّة التي تربطنا معًا قد يصعب عليكِ تصوّر أعماقها وحدودها. وهناك في عدد من دول العالم قد أقيمَت تماثيل لمشاهير قد أحبتهم الجماهير، تكريمًا وتخليدًا، يؤمُّها السُّيَّاح من مختلف الطوائف مقدِّمين باقات من الزهور والشموع فهل تظنّين بذلك التكريم نوعًا من العبادة؟ الجواب المفترَض: لا. أفلا يستحق السيد المسيح له المجد والعائلة المقدّسة وسائر الأنبياء والرسل والقديسات والقديسين تكريمًا أعظم بكثير؟ الجواب نعم. أمّا الإعتراض على إقامة التماثيل بحجّة مخالفة إحدى الوصايا العشر {لا تصنع لك تمثالًا منحوتًا ولا صورة ما… لا تسجد لهن ولا تعبدهن لأني أنا الرب إلهك إله غيور… سِفر الخروج 20} فلا تجوز مقارنتها مع التماثيل الفنيّة المنصوبة تعبيرًا عن المحبّة للربّ ومختاريه ومختاراته. إذ نهى الربّ عن تلك التي أقامها الشعب السائر في الظلمة آنذاك لآلهة أخرى، كما أن السجود والتسبيح هما للسيد المسيح باعتباره الله الظاهر في الجسد وليس للتمثال ولا للأيقونة، كذلك السجود أمام تماثيل السيدة العذراء وأمام أيقوناتها هو سجود لله وليس للعذراء فكأن العذراء شاهِدة، لأن السجود لله وحده وأنّ رضى العذراء عن العباد يتفق مع رضى الله عنهم، لا يمكن للعذراء أن تتقبّل توسّلًا ما من أحد وهو في الوقت عينه يعمل أعمالًا مخالفة لوصايا الله. وهناك من عبّر عن محبّته وولائه برسم الأيقونة؛ لعلّ الرسول لوقا الإنجيلي أوّل فنّان مسيحي في هذا المجال، إذ تشرّف شخصيًّا بلقاء السيدة العـذراء فرسم لها عددًا من الأيقونات، ما زالت نسخ منها محفوظة حتى اليوم في عدد من كنائس العالم. وقد آمنت شعوب عدّة بأنها أيقونات عجائبيّة، لأنّ العـذراء قد استجابت طلبات مختلفة من مختلف سائليها وسائلاتها، بشهادات من الشرق والغرب- يمكن الحصول على عدد من الشهادات أو الروايات عبر الإنترنت. علمًا أنّ شفاعات العذراء وسائر القديسات والقديسين والأحبّاء تسمّى شفاعات توسّليّة وهي جميعًا مختلفة عن شفاعة الروح القدس (الرسالة إلى روما 26:8) وعن شفاعة المسيح الكفّاريّة للخطايا (مثالًا: رسالة يوحنّا الأولى، الأصحاح الثاني) والمزيد في موضوع الشفاعة بقلم جناب القمّص زكريّا بطرس- متوفر على الإنترنت
هب والدك- أخي القارئ الكريم- تاركًا لك تركة من المال قد نالت رضاك واستحسانك، لكنه ترك لإنسان آخر تركة فاق مقدارها ما ترك لك فما هي مشكلتك، أفليس والدك حُرًّا في ماله أم أنك ستفكر بالإعتراض عليه أو بإقامة دعوى قضائيّة ما؟ لقد أثار السيد المسيح له المجد هذا الموضوع بالمَثل الوارد في الإنجيل: {خذ ما لك واٌنصرفْ. فهذا الذي أتى آخِرًا أريد أن أعطيَهُ مثلك: ألا يجوز لي أن أتصرف بمالي كما أشاء؟ أم عينك حسود لأني كريم؟- متّى 20: 14-15} هذا من جهة المادّة. أمّا من جهة الرّوح وجهة المعنى فمن حقّ كلّ إنسان أن يعبِّر بطريقته عن تعب محبته بشكل خاص سواء للرب يسوع وللسيدة العذراء؛ هنالك الفنانون الكبار الذين رسموا الأيقونات ونحتوا التماثيل وهناك الشعراء الذين كتبوا قصائد وترانيم وتراتيل وهناك- من الجنسين- مَن دوّن مقالات ومن ألقى وعظات ومن سبّح بفؤاده وهلَّل بلسانه وصلّى بالمسبحة الورديّة. وهناك مَن علّق الصور وأضاء الشموع وحَجَّ إلى الأرض المقدّسة وزار عددًا من النصب التذكاريّة المُقامة في أصقاع الأرض… إلخ فلا يلومَنّ أحدٌ أرثوذوكسِيًّا أو كاثوليكيًّا أو رجلًا مثلي يدافع عن حقوق هاتين الطائفتين بما أوتِي من علم ومعرفة. وإلّا فليتفضّل المعترض ليناقش أصحاب الشأن حُجَّة بحُجّة، لا أن يطعن بعقائدهم من الخلف وهو لا يعرف ما يفعل. ولا يجب من جهة أخرى أن ينظر أحد من هاتين الطائفتين إلى الطوائف الإنجيلية نظرة مريبة على أنها لم تقم الوزن عينه للسيدة العذراء. ولا يجب انتقاد جهة ما منها بدون توفر دليل واضح ومحدد على قيامها بالتعرّض لشخصيّة العذراء المباركة بين النساء ولمنزلتها السّامِيَة
* * *
سأتناول في حلقات تالية مواضيع أخرى تتعلّق بسيّدتنا مريم العذراء الدائمة البتولية؛ منها والدة الله ومنها: {ولم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر- متّى 25:1} ومنها عرس قانا الجليل ومنها عقيدة الحبل بلا دنس التي تفرّد بها الكاثوليك فأقرَّها قداسة الپاپا پيوس التاسع عام 1854