كيف اعتقل النظام “القيصر” ثم أطلق سراحه
لاعلاقة للكشف عن “جريمة العصر” بمفاوضات جنيف، ولكننا مرتاحون جدا لأن الملف ساهم في دعم قضية الشعب السوري وقوّى موقفه الحقوقي
جثث عارية لنساء سوريات، متن من الجوع والتعذيب، جثث لصِبية ماتوا بنفس الطريقة، جثث لكبار سن وشبان أيضاً قضوا جوعاً وألماً في سجونٍ مظلمة موحشة، ثم “غلفوا” بأكفان “نايلون”، وكدسوا كما في علب “السردين” وأرسلوا إلى مصيرٍ مجهول، ربما مقابر جماعية أو حتى محارق بشر.
ماتقدم يختصر ما شاهده “القيصر” مباشرة، وهو الشاهد الملك في ملف تسريب أكثر من 50 ألف صورة لـ11 ألف جثة، قتل أصحابها بشكل ممنهج في سجون بشار الأسد.
لكن مالا يعرفه الكثيرون أن “القيصر”، الذي ضرب نواة النظام الصلبة في مقتل، وعراها أمام الملايين بشكل لم يسبقه إليه أحد.. كان وراءه فريق عمل من الشباب السوري المحترف، عمل على مدى أشهر طويلة لتوثيق الملف من داخل وخارج سوريا، و”تمكين” كل جوانبه الحقوقية والإنسانية، كي تضعف قدرة الأسد على الإنكار والتكذيب وادعاء “الفبركة” أو “التسييس”، كما درج على ذلك حيال كل جريمة كان يقوم بها، وفي مجزرة الغوطة برهان ساطع على “حرفية” نظام الأسد ووقاحته في اختراع الروايات، التي وصلت حد اتهام شهداء الكيماوي بقتل أنفسهم!
لقاء مع “الملك”
“زمان الوصل” التقت المنسق العام لعملية تسريب الصور التي هزت ضمير العالم، والمسؤول المباشر عن أرشفتها، وهو رجل سوري هادئ الطباع حاد الذكاء، لقبته “زمان الوصل” بـ”الملك” للدلالة على خطورة دوره، إذ تمكن من إدارة الملف بروح وطنية دون تسيسه أو البحث عن مكسب إعلامي. ورغم انتمائه إلى تيار سياسي سوري معارض، لم يسع لنسبة الكشف عن هذا الملف إلى تياره، بل وصفه بأنه عمل سوري خالص.. إنه د.حسان الشبلي الأمين العام للتيار الوطني السوري.
وسبق لـ”زمان الوصل” أن انفردت بتقرير عن الجهة التي أوصلت صور “قيصر” إلى المنظمات الحقوقية المعتبرة، ومن بعدها الإعلام، حيث أكدت صحيفتنا أن “التيار الوطني السوري” هو الذي يقف وراء العملية، وقد أثبت هذا اللقاء صحة ما ذهبنا إليه، لاسيما عندما ختمنا تقريرنا الأول واعدين بالسعي للكشف عن مدبر العملية، وواضعين اسم المعارض د.حسان الشلبي على رأس قائمة الشخصيات التي “يحتمل” انخراطها في هذا العمل الاستثنائي بحجمه وسريته وطريقة إدارته، فضلا عن تداعياته.
رابط التقرير…
خيط الجحيم
في لقائنا معه أكد “الشلبي” وبشكل واضح أن يخص كل السوريين، واصفا إياه بالعمل الوطني السوري الخالص، الذي ساهم في إنجاز معظمه سوريون انطلقوا من قدراتهم الذاتية.
وفي نفس الوقت شكر “الشلبي” دولة قطر، التي كان لها حسب قوله دور مهم في المرحلة الرابعة من مراحل الملف، من خلال دعم مرحلة التوثيق للملف بشكل محايد يتناسب مع خطورة الملف وحساسيته .
وكشف الشلبي لـ”زمان الوصل” أن العمل في توثيق ملف “جريمة العصر” بدأ في أيلول 2011 واستمر حتى آب 2013، لتخرج بعدها الصور إلى الحقل الحقوقي.
وحسب “الشلبي” فقد مر الملف بـ ٤ مراحل، الأولى مرحلة السكون وجمع مادة الملف و وثائقه والتي عمل عليها عدد من اللجان في الداخل السوري شكلت شبكة عمل متكاملة، من خلال شباب سوري وطني بامتياز كان لبعض أفراده تواصل مباشر مع “القيصر” وهم جنود الملف الحقيقيون ، ثانيا مرحلة الجهد الوطني وفيها انكب على العمل مجموعة من السوريين المؤمنين بعدالة قضيتهم و سمو أهداف الثورة ممزوجا ذلك كله بخبرات متعددة في شتى المجالات التي يتطلبها الملف ، أما المرحلة الثالثة فكانت التنسيق مع جهات قانونية استشارية عربية وأجنبية تسهم في خدمة الملف وتحقيق أهدافه ، حتى وصل الملف إلى مرحلة تشكيل التوثيق وهي المرحلة الرابعة ، وتحديدا بتاريخ 23/ 12/ 2013، عندما تم دفع الملف إلى شركة محاماة بريطانية (كارتر- روك وشركاه) في لندن.
بداية الحكاية
قص الدكتور حسان الشلبي علينا “حكاية توثيق انتهاكات الأجهزة الأمنية” منذ بدايتها، والتي تم الشروع بالإعداد لها من قبل انطلاق الثورة بأشهر، دون أن يتوقع أحد أن تتصل بالثورة، وان تكون النتائج بهذه البشاعة.
يقول: “كان لدينا أحساس عميق بقرب انطلاق الثورة.. تجمّعنا في الداخل أنا وعدد من الشباب الأكاديميين، وبدأنا بوضع مخطط لجمع المعلومات وإيصالها إلى العالم الخارجي. وبالفعل استعرض كل واحد من المجموعة المصادر التي يمكنه الوصول لها داخل الأجهزة الأمنية، وتم الترتيب النظري للأمر، وقبل انطلاق الثورة بدأ العمل الفعلي، وتم تشكيل نواة من المتعاونين معنا ضمن الأجهزة، وتم احباط عمليات دهم واعتقال لكثير من الناشطين قبل الثورة، وفي الثورة ساهمت النواة – التي كبرت كثيراً وصارت شبكة جيدة- في انشقاق عدد من الضباط والعناصر الأمنية، وطلبنا من البعض تأجيل انشقاقه؛ لأن وجودهم في مواقعهم يمكن أن يفيد الثورة بشكل أهم وأكبر، وهذا ما حصل فيما بعد مع “القيصر”، الذي كان يعمل في التوثيق القضائي العسكري، وشكلنا لجنة للتواصل معه، ومع غيره من المصادر، وسمينا اللجنة “لجنة المعلومات”، إضافة للجان أخرى لها وظائف مختلفة، مثل لجنة تنظيم المظاهرات، ولجنة الإعلام”.
ويواصل: “مع ازدياد وحشية النظام بدأت النتائج عمل اللجان في الظهور، وبرز عمل “القيصر” في منتصف عام 2011 من خلال إشارة أوصلها إلى اللجنة التي تتعامل معه بسرية، وكنت أنا من بين أفرادها.. إشارة تفيد عن قيامه بتصوير صورة فظيعة لجثث معتقلين. وقد سرب إلينا بعض الصور في أيلول 2011، وكانت لمعتقلين قتلوا تحت التعذيب بشكل شنيع”.
لماذا لم ننشر في عام 2011؟
يتابع الشلبي حديثه لـ”زمان الوصل”: “قررنا عدم نشر الصور، إذ توقعنا أن يوغل النظام في حله الأمني، كما كانت لدينا مخاوف حقيقية على حياة “القيصر” وآخرين من العاملين المهمين معه في الملف، وأمثاله من الملفات المهمة جداً مما يعمل عليه في المجال الأمني، ومع إننا استبعدنا نشر الصور في حينه للكثير من الاعتبارات وعلى رأسها الجانب القانوني الذي نهدف الى تعميقه من خلال توثيق جرائم النظام من خلال أجهزته و معرفة مصير الآلاف من الناشطين السوريين، فقد سارعنا إلى وضع آلية لتوثيق الصور بشكل دوري، وبدأنا بعمل شاق ودقيق في عمق سوريا، وزاد عدد الصور المستلمة يومياً من 10 صور إلى 180 صورة في بعض الأيام !
ويمضي قائلا: تطور الأمر، حتى أمر النظام “القيصر” بأن يجهز فريق تصوير، ليواجه الزيادة الكبيرة في أعداد الضحايا الذين يريد “تصويرهم”!، وكان القضاء العسكري –بداية- يلتقط عدة صور لكل جثة، مع تدوين اسم الضحية ورقم الفرع “القاتل” على ورقة خارجية تصور مع الجثة، ومع ازدياد الأعداد تخلى القضاء العسكري عن الأسماء واستبدلها بأرقام متسلسلة، فهناك جثة مثلا تحمل رقم 200، وأخرى 201، وهكذا.. وبمعنى آخر أصبحت معتقلات النظام “معامل موت” ترقم “منتجاتها” بأرقام متسلسلة! ثم تجمع في مكان ما، سواء في الفرع الذي قتلت به تجويعاً وتعذيباً، أو في مباني القضاء العسكري، ثم تغلف بأكفان نايلون تمهيداً لنقلها، إما إلى المستشفى العسكري – وهو أمر نادر–، أو إلى مقابر جماعية أو أفران بشرية للتخلص منها، أو إلى مصير مجهول لا نعلمه”.
النظام يقبض على “القيصر”!
وفي سرده للأحداث شرح الشلبي لماذا يقوم النظام بتصوير الجثث بهذه الطريقة، قائلاً: “التصوير يتم لعدة أسباب، الأول قطع الطريق على ضباط وعناصر الأمن المرتشين ممن يقبضون مبالغ طائلة للإفراج عن المعتقلين، وإثبات أن المعتقل قتل ولم يطلق سراحه مقابل المال، وثانياً توثيق القتل وحصر الأعداد، وثالثاً تقديم الصور إلى الطب الشرعي لتوثيقها وإغلاق ملف المواطن السوري ومسح قيوده”!
وعن الفترة التي تعامل بها “القيصر” مع اللجنة، قال الشلبي: “بدأ التعاون كما ذكرت في أيلول 2011، وانتهى مع انشقاق “القيصر” في آب 2013، وفي هذه الفترة طلب “القيصر” الانشقاق عدة مرات، لكننا كنا ندعوه للتريث، أملا في الحصول على مزيد من الصور التي توثق إجرام النظام.. وبقي “القيصر” يبدي رغبته بالانشقاق ونحن نستمهله، حتى بدأت المخاطر الجدية تحيق به.
ويواصل الشلبي: عند هذه النقطة تم اتخاذ قرار الانشقاق من خلال عملية معقدة، و تم العمل على إخراجه عبر عملية محوطة بالصعاب و القلق استمرت شهرا، حيث تمكنا من إيصاله إلى أحد البلدان المجاورة، وقد أخرجنا قبل 19 شخصاً من أفراد أسرته الذين من الممكن أن يطالهم أنتقام نظام يعتقل الأبناء بتهمة الأباء. وهنا لابد من تسجيل الشكر لكتائب الجيش الحر التي تحملت الأعباء، حتى أمنته سالما وجميع أفراد أسرته، وقد سبق سيزر عدة من المنشقين المهمين في الملفات الأمنية، وبعد توثيق شهادته دولياً، دخل “القيصر” في مرحلة الكمون، وبرز دور التيار الوطني السوري الذي تولى أفراده الملف منذ بدايته.
التعاون مع قطر
في حديثه الخاص لـ”زمان الوصل”، أخبرنا الدكتور الشلبي ما حصل لاحقا بالقول: بعد خروج “القيصر” من سوريا، بدأت اللجان الخارجية (قانونية، سياسية، اعلامية) العمل بفاعلية ضمن طاقم وطني سوري خالص، وتعاونّا مع عدة جهات وطنية من خارج التيار، من منطلق التنسيق وليس التوجيه، ودخلت دولة قطر كداعم مهم للإطار القانوني بتاريخ 23/ 12/ 2013، وأمنت لنا كل المطلوب لتوثيق الملف كما كان مخططا له لدى الفريق الحقوقي، و ذلك من قبل شركة قانونية دولية غير منحازة مشهود لها بالنزاهة في بريطانيا، وهذا ليس غريبا على قطر التي عبرت بشكل فعلي عن تضامنها الحقيقي والفعلي مع شعب سوريا وثورته.
أما بشأن دور الإعلام في القضية، فقد أكد “الشلبي” أن الخطة كانت تقتضي الاهتمام بالإعلام الغربي كونه المحرك الأكبر للرأي العام العالمي، ولم ننس بالطبع الإعلام العربي. وقد نشرت القضية في عدد من وسائل الإعلام، لكنها كلها لا تملك الملف كاملاً، سواء وكالة “أناضول” التركية أو شبكة “سي إن إن” الأمريكية، علما أن إجمالي ماتم نشره من صور – دون تكرار- يعادل 35 صورة فقط، وهانحن نقدم لـ”زمان الوصل” 5 صور خاصة وجديدة لتنشرها.
موقع للمفقودين والمعتقلين
وبشأن الخطوات القادمة، قال الشلبي: لابد أن يأخذ الملف حقه القانوني لأنه الأهم من نوعه، ونحن نعمل على ذلك من خلال عدة قنوات عالمية وإقلمية، وقد باشرنا في إنشاء موقع إلكتروني، مهمته استقبال صور المفقودين والمعتقلين من ذويهم ومن المنظمات الحقوقية، لنقوم لاحقا بمقارنتها بما لدينا من صور، ثم التواصل مع أهل الضحايا بشكل خاص ومباشر.
وختم “الشلبي” منوها بأن ملف “جريمة العصر” لاعلاقة له بمفاوضات جنيف، ولا يرتبط بها زمنيا، فهو ملف تم العمل عليه منذ فترة طويلة، ونحن –مع ذلك- مرتاحون جدا لأن الملف ساهم في دعم قضية الشعب السوري وقوّى موقفه في جنيف من الناحية الحقوقية، وقد أثبت هذا الملف المثقل بالفظاعات للعالم، أنه لا يمكن مقارنة إرهاب النظام بما يسميه زورا “إرهاب” المعارضة، لأن القتل بهذا الشكل الممنهج بل والموثق يدل على “إرهاب منحرف ومحترف”، لكنه “إرهاب” لن يسعف النظام في البقاء، ولا مناص من محاسبة المجرمين، طال الزمن أم قصر.
إلى “القيصر”
بالتأكيد ستطلع على هذا الحوار المؤلم، وبالتأكيد كابدت الكثير حتى أوصلت هذه الصور إلى العالم..، لك من السوريين وأرواحهم تحية، ونأمل أن يكون أول ظهور لك عبر “زمان الوصل” جريدة السوريين… الأحياء منهم والشهداء، لك تحية يا “قيصر”.
: مواضيع ذات صلة”