قامت حروب السابق (المتواصلة) تحت شعارات كانت تتحول أحياناً على مدار الساعة، أو على مدار المناسبات والمتطلبات التي تعمل على إدامة الانقسامات بصنوفها الشتى. نتذكر نظريات وقراءات ذرائعية مبتدعة مثل «المشاركة» و»الامتيازات» و»استئثار طائفة» بها دون الأخرى. والأخرى كانت طبعاً طبقة المحرومين: الطوائف المحرومة. ثم اتحفنا بعض اليساريين برؤيا اهليليجية سموها «الطبقة الطائفة» التي تخفي وراءها عنصرية دفينة تهدف إلى توريط من لم يتورط من هذه الفئة أو تلك المجموعة في الحروب، أو في المسارات الدموية. ماو تسي تونغ «اله الصين» غير المنازع من سائر الالهة حتى لينين وستالين، اطلق على من استهدفهم صفة «اعداء الطبقة» واذا نظرنا حولنا اليوم، فمسميات المجازر والحروب هذه لا تزال جارية على قدم وساق عند ورثة هذه المآسي الفكرية والسياسية، لا سيما عند «حزب الله«! اعاد الأسطوانة المشروخة (مع حلفائه) بمفردات جديدة مستهدفاً خصومه: «اعداء الميثاقية» لإدامة مناخات التشنج من جهة، وتمديد مختلف الفراغات واشكال التعطيل التي ارتكبها من تعطيل انتخاب رئيس للجمهورية إلى تعطيل البرلمان، فالحكومة. فاذا كانت الميثاقية هي بمثابة «عقد اجتماعي» أو «عروة وثقى» فان «الآخرين» ويقصد الحزب خصوم طغيانه «المستقبل» وآخرين بفرط هذا العقد لماذا؟ لأن الحزب، ولكي يُقنّع قرار تعطيله بذرائع «مهزلة» ها هو ينزع عنه هذه «التهمة» المشهودة ويلصقها بالآخرين. أكثر: لكي يذر غباراً في العيون، لتغطية ممارساته، في العقدين الماضيين. فالكانتون يفرض مفهوم «ميثاقيته» الفريدة ليلغي هذه الميثاقية للكانتون الدويلة قوانينه الخاصة، ودستوره الخاص، وجيشه الخاص وسراياه الخاصة وقراراته الخاصة… المنفصلة عن كل ما يكوّن الدولة وعلاقة الناس بها، من «أعراف» (الميثاقية» ووشائحها الاجتماعية).
فهذا الحزب المنفصم عن كل ما يربطه بلبنان، والمتصل بكل ما يربطه بإيران، والذي وعلى امتداد عقدين يعتبر نفسه اعلى من كل العلاقات والمواثيق يحاضر في ضرورة التمسك «بالدولة» (يقصد دويلته) وبالميثاق (ميثاقيته) ويرسم حيثيته المتميزة «بإعلانه انه بكل بساطة حزب ايران لا حزب لبنان« وكما عين ماو تسي تونغ الشعب الصيني «عدواً». فها هو الحزب وباسم الميثاقية يعين اللبنانيين اعداءه! فالميثاق يعني اعتبار كل من لا ينتمي إلى «منابِتِه» الفارسية ضد الميثاق. وكل من لا يعطل البلد عدواً للميثاق. وهو متحرر من كل التزام بإرادة الناس ومستلزمات الدولة التي من المفترض التزامها… هذا التحرر من عبء تحمل مسؤولياته في حدودها الدنيا جعله الحزب اللاميثاقي «الأندر» في تاريخ لبنان والمنطقة. نعم! «ميثاقي شئتم أم أبيتم يا أعداء الميثاقية».
[ الانتصار الإلهي
ولكي يطبق هذا «الانتماء» بقضّه وقضيضه، ها هو «ينتصر» في الجنوب، وينسحب العدو الاسرائيلي منه. رائع! انه حزب التحرير اذاً! والتحرير انبل معاني التمسك بالسيادة والاستقلال. وَمَنْ أجدر منه بذلك؟ والدليل الدامغ انه «حرّر» الجنوب من احتلال اسرائيلي واحد، ليسلمه إلى احتلالين سوري وإيراني. وانها «لعمري» ارفع أنواع احترام الميثاقية السيادية.
وبعد الانتصار الالهي، شمّر الحزب عن ساعديه ليبرهن للبنانيين انه «لبناني«، حتى العظم، والنخاع والدماغ والخلايا والجلد واللون… واللغة. عال!: طوّب الجنوب المُحرّر كانتوناً يمتد إلى الضاحية وبعض البقاع بالمعنى الاحتلالي الخالص، والهيمنة الفئوية المحضة. فابن الميثاقية «الشاطر» شطر هذه المناطق عن لبنان بحيث تباهى أربابه في ايران بأن لبنان وبيروت صارا «ولاية» إيرانية. ومن قال إن ذلك يخالف الدستور والمواثيق: فالذي حرّر الجنوب يحق له ان يحتل ما حرره لينشئ دويلته المتكاملة واقتصاده الخاص وشعبها الخاص وتقاليدها الخاصة أي محاولة محو كل ما كان قائماً قبل التحرير في هذه المناطق» انه الماضي فلننسفْه. فكل ما سبق انشاء الدولة الإيرانية يجب تدميره.
(هذا ما فعله ماو تسي تونغ وبول بوت… وستالين).
وانطلاقاً من هذه الميثاقية «التحريرية» الباهرة رأى ان يكون له ما ليس لغيره من أهل الدولة والحكومة والمؤسسات: فهذه كلها من ارث الماضي. وتأكيداَ لذلك ها هو يستفرد كل مؤسسة ويدمرها: تكون لنا أو لا تكون: وتكون لإيراننا الحبيبة أو لا تكون. وهذا البلد يكون لنا أو لا يكون. وهذا الشعب يكون لنا أو لا يكون.. ميثاقية وطنية من الطراز الرفيع!
رائع! رؤياه صافية كعين الديك الهندي: فصل كانتونه عن كل ما يربطه بالجمهورية «الأخرى» والغاء كل عقبة تحول دون تحقيق هذه المهمة: بالاغتيالات. أو بالحروب. أو بالإرهاب. أو بالتخوين. فعليك ان تغسل دماغك بأفخر أنواع المساحيق الفارسية لتنقيته من ادران الماضي، لتدخل إلى ملكوت دولتنا….
[ ثورة الأرز
وها هو في محطة ميثاقية استثنائية، يتهم ثورة الأرز بالخيانة وبالارتباط بإسرائيل وأميركا… خوّن أكثرية شعبه (وهو مصدر الميثاقية) وامتدح الوصاية السورية نظاماً وشعباً ودولة عند انسحابها من لبنان بعد ثورة الأرز. وهو على حد علمي، أول حزب في العالم يشكر دولة وصية أو محتلة على بلاده ارتكبت كل أنواع الانتهاكات والتسلط والاستبداد. والسؤال المحير: كيف «يفتخر« هذا الحزب بتحريره الجنوب من الاحتلال الاسرائيلي، ويمتدح وصاية احتلالية خارجية لبلاده: بارنويا، فصام شيزوفرانيا، جنون؟ لا! فالحزب اصلاً هو تركيبة خارجية من أوله إلى آخره. وهذا ما أكده «سيد المقاومة» حسن نصرالله عندما قال «نعم! نحن مع إيران: هي تعطينا كل شيء، المال والسلاح والمأكل والمشرب..» ولمَ لا المواقف! بل «انا جندي في جيش ولاية الفقيه».
[ جبل الميثاقية
فموقفه هذا هو «ذروة« الميثاقية، وجبلها وشوامخها! أو حزب مجانين؟ لا! ونعم! مجانين حقد على بلدهم ومجانين ارتهان للخارج… فلمَ لا تكون الميثاقية صحوة بين الجنونين وبين الانفصامين….؟
لا! وها هو يُمعن في احترامه للآخر في محيطه وفي جواره وأبعد منهما: فبعد تخوين الذين حرروا لبنان من الوصاية السورية ها هو مُتهم باغتيال الحريري، أحد أعمدة الميثاق الوطني والزعيم الأهم لشريحة كبرى في لبنان: ثم اتهم باغتيال أو بالمشاركة في اغتيال رموز من 14 آذار: فهؤلاء خرجوا على «الميثاقية» وعلى كل «خائن» ان يعاقب بالإعدام (ما عدا طبعاً عملاء اسرائيل وعلى رأسهم فايز كرم) . أكثر: خوّن المحكمة الدولية وصورها دمية اسرائيلية وأميركية. بعدما وافق على انشائها! وعلى اساس «ميثاقيته« اخفى المتهمين الأربعة بقتل الحريري، وطوبهم قديسين، انها العدالة. والعدالة اليوتوبية أكبر من القوانين… تخدم «المقاومة» وليس العكس! بل تخدم القضية المركزية… بل تخدم الاله الواحد!
[ المسلسل
ومسلسل ميثاقية الحزب لا ينتهي: فها هو الحزب يقرر (أقصد تُقرر إيران وبشار الأسد) اختراق الخط الأخضر واختطاف جنود اسرائيليين. انها الحرب «الميثاقية» ان تلحق العدو إلى أرضه وتستدرجه إلى أرضنا. رائع! وعلى هذا الأساس انفرد بالقرار وبالتنفيذ، من دون علم الدولة والجيش والحكومة ورئيس الجمهورية والبرلمان. وانها من اروع تجليات الميثاقية ان يتفرد حزب بشن حرب على دولة خارجية. ذلك لأنه حزب «استقلالي» (وان مرتهناً للخارج) وسيادي في أعماله (وان كان عميلاً للخارج) فاذا كانت كل هذه الدولة، بمتعرجاتها ومندرجاتها لا «تملأ عينيه» وهو أكبر منها، واذكى من كل رجالاتها واعظم من شعبها فلماذا عليه ان يأخذ منها إذناً. فهذا الإذن بالذات منافٍ للميثاقية! والفصل الثاني من مسلسله «الحربي» وانتصاره الالهي». ولتغطية حماقته ومغامراته التي تسببت «بدمار مخيف» للبنان، وبـ 3451 بين قتيل وجريح، ها هو يدين كل من آوى النازحين من أهالي الجنوب والضاحية … وصولاً إلى القصير (بعد ذلك!) خوّنهم! …. وخوّن الحكومة التي وصفها الرئيس بري اثناء حرب إيران بوكالة الحزب، بانها حكومة «ديبلوماسية المقاومة!» وترسيخاً لميثاقية هذه الظاهرة السرطانية في لبنان، ها هو يشنّ حرباً شارونية (شبهت بالغزوة الصهيونية عام 1982) على بيروت والجبل في 7 أيار طلباً هذه المرة لانتصار الهي على أهله! فالسلاح الذي «قاتل» به اسرائيل ها هو يوجه اليوم (باسم الميثاقية) على اللبنانيين» فكأنه من ناحية يتساوى مع شارون في همجيته البربرية، ويساوي من ناحية أخرى بين الاسرائيليين واللبنانيين: فهما باتا «الأعداء»: الأوائل ما عادوا من أولوياتنا، أي اسرائيل اما الآخرون (أي اهله) فهم باتوا من أولوياتنا: سنعلمهم كيف تكون ميثاقية الدم (ماو تسي تونغ عندما افلت سراياه وحرسه الأحمر ليثير فتنة بين الصينيين سمى ذلك «عقد الدم» أي تلوث أيدي الجميع بالدم)… انه حقاً حزب ميثاقي. فلسان حاله يقول: «أو ليس باسم الميثاقية صوت مجلس النواب اللبناني على «اتفاق القاهرة» وكرس «فتح لاند! أوليس باسم الميثاقية اخترقت منظمة التحرير الشعب فقسمته في حروب أهلية؟ أوليس باسم الميثاقية دخل الجيش السوري إلى لبنان لينقذ فئة تعارض ميثاقية عرفات؟ ونحن ولولا كل هذه الميثاقيات السابقة أكنا اسّسنا حزبنا «الميثاقي»؟ وكما أيدت شرائح من اللبنانيين وجود السلاح الفلسطيني والمقاومة والجيش السوري وحتى الجيش الاسرائيلي فلماذا لا نكون نحن الميثاقيين الجدد برعاية إيران؟ أو في أدنى الحدود «مجدّدي المواثيق القديمة»؟ لكن، لكل تلك الممارسات، ها هو الحزب، وبقرار إيراني، ينتقل لمحاربة الشعب السوري العربي. فاذا كان الحزب استجر اسرائيل إلى لبنان فها هو يستجر مقاتليه إلى الخارج (انه عقد الدم) وفي المناسبتين ذروة الميثاقية. ومن اجل تعزيزها رفع شعاراً طائفياً «حماية مقام السيدة زينب»! وبهذا الشعار نقل الحروب السورية بين شعب يريد اسقاط نظام طاغٍ إلى حرب أهلية بين السنة والشيعة، وبين العرب والشيعة. «عَرْبَن» ميثاقيته ثم دوّلها! وكلنا يذكر تصريحات سيد الحزب وأبواقه «نحن لا نحتاج إلى اذن من أحد»، و»لا نكترث لرأي أي أكثرية ولا لإجماع». أي القفز فوق كل الإرادات والقوانين والأعراف… واعلان حرب على شعب عربي شقيق امتد إلى شعوب أخرى في العراق واليمن والبحرين. إذاً الميثاقية اللبنانية انتقلت من لبنان ذي وجه عربي إلى لبنان ذي وجه فارسي…
[ الانتخاب
لكن المحطة المعبرّة أيضاً ظهرت أولاً في عدم التجديد للرئيس ميشال سليمان على غرار بطل المقاومة والممانعة إميل لحود… ثم تعطيل انتخاب رأس جديد. هذه «المبادرة» الرائعة، هي أيضاً من مظاهر الميثاقية. البلد الوحيد في العالم الذي ليس فيه رئيس للجمهورية. لكن من قال ان الحزب يدق مساميره في نعش الدولة! لا! فالحزب تمسكاً منه بالدولة لا يريد أن يكون لها رأس: الذريعة جاهزة «انتخاب» الجنرال عون او لا رئيس. هنا بالذات نستشف دور السيد حسن نصراالله «المرشد» (على غرار مرشده الإيراني) فهو عيّن مؤخراً كل طاقم الدولة: عون رئيساً، وبري رئيساً للبرلمان، والحريري اقتراح مشروط. يعني ذلك انتخاباً بلا انتخاب. او انتخاباً بلا تصويت. فالمرشد المحلي هو يختار البرلمان والحكومة والرئاسة. وها هو الحزب يفلت «أبواقه» : «المستقبل» يدمر الميثاقية لأنه لا ينتخب عون الذي عينه هو. يعني رئيساً وعليك ان تخضع وتصوت له لكي تكون ميثاقياً. أكثر: انه ايضاً حامي الدستور فكل ما ارتكبه في العقدين الماضيين يعزز دستورية القوانين! كل ذلك لإبقاء الرئاسة رهينة عند إيران، هي التي تقرر تحريرها او اعدامها! كل ذلك التشبث المفتعل الشكلي بعون ما هو سوى ذريعة للتعطيل. فلا هو يريد عملية الانتخاب ولا انتخاب عون نفسه. حزب واحد يعطل كل شيء في البلاد، ويتهم سواه بالتعطيل. حزب واحد يبرئ ايران من هذه الجريمة الميثاقية ويلصقها بالسعودية واسرائيل (حليفته الأثيرية) واميركا شريكة مرشده في الغزو الأميركي للعراق والآن شريكته في الحرب على العراق…
انها لعبة مكشوفة لا توحي بقوه هذا الحزب بل بهشاشته، لا سيادته بل بخضوعه . فكل حزب عميل هو هش لأنه مرحلي (اين هي كل تلك الميليشيات الطائفية التي دمرت لبنان وقسمته!) انه حزب «العابرين» (على قولة محمود درويش عن اسرائيل). ونظن انه كما شهدنا نهاية كل الميليشيات والاحتلالات والوصايات، فها بدأت نذائر نهاية الحزب. انها من اعراض الخسوف. وها هي إيران في الصفوف الخلفية في سوريا بعد روسيا. والحزب في مؤخرة المؤخرات بات دوره كدور حملة الطبول في الحروب القديمة. مع هذا، فهو متشبث بعقدته اللبنانية: ربما لن يبقى لنا سواه، لكي ننتقم لكل هزائمنا الالهية. فلمَ تكون «الانتصارات الهية، ولا تكون الانكسارات مثلها؟».
[ لبنان وطن نهائي
وعلى هذا الأساس، ومن خلال هواجس الشر والتدمير الذاتي والسادية والمازوشية يُبقي لبنان في عنق الزجاجة المكسورة. رهينة مخطوفة ترافق احتجازه اهازيج وهللويا ودفوف تمتزج فيها الأصوات بالدماء، ونعوش الموتى ومشاعر الخوف على البلد كله. فالبلد مؤجل «وموَّقت« ومحرّم ومنكوب بحزب تغطي جنونه الاستئثاري التسلطي شعارات «الميثاقية».
وأخيراً نقول للحزب «وجودك بالذات هو تدمير كل ميثاقية ودستور وارادة شعب وتقدم ونهضة وازدهار وتنوير! فالحزب الذي يعتبر نفسه ممثلاً «للميثاقية الإلهية» هو الحزب الذي يتنافى وجوده مع كل القيم الحضارية والوطنية والسياسية والديموقراطية.
فأهلاَ بحزب الميثاق الالهي الذي «يموثق» بالخراب كل الأعراف والعلاقات والوشائج والانتماءات الوطنية… وحتى الدينية!
.. وأخيراً لا آخراً أهلاً بالحزب الذي آمن بالميثاقية الأساسية التي أجمع عليها اللبنانيون في «الطائف» والتي تتمثل بأن «لبنان وطن نهائي» لكل أبنائه!
أو وطنك الميثاقي هو لبنان النهائي… أو لبنان المبيع أو المستعار… أي إيران بمشاريعها الصهيونية التوسعية؟
* نقلا عن “المستقبل”