يوماً بعد يوم تظهر بجلاء أسباب «اختراع» حزب الله في المختبرات الإيرانية. أقل من دولة وأكثر من ميليشيا. أقل من دولة يريد السطو عليها، وأكثر من ميليشيا تحمل رسالتين: الفصل والانفصال. أو الأحرى الفصل بالمعنى الكانتوني، والانفصال بمعنى الضم: دويلة في قلب الدولة، وجيش في قلب الجيش، وحكومة في قلب الحكومة، وبرلمان في قلب البرلمان. وعندما نقول «انفصال» نعني إعلان الحزب «استقلاله» الذاتي عن البلاد؛ وعندما نقول الفصل، نعني محاولة فصل جزء من لبنان الكبير وضمّه إلى سوريا، بذريعة «سايكس بيكو». فـ«سايكس – بيكو» هو الذي قسَّم نفوذ الاستعمار في العالم العربي، وخصوصاً فلسطين، وهة قسّم سوريا بضم جزء منها إلى الجمهورية اللبنانية. وها هو حزب سليماني هذا القائد المجرم الذي أوكل تقسيم العراق، وسوريا، واليمن، يمد يده إلى الحدود الشرعية للبنان، والمعترف بها عربياً ودولياً.
ونظنّ أن أفضل تعبير عن الحالة الأولى تجلّى في الجامعة اليسوعية، عندما أعلن أحد الطلبة «الجامعيين» التابعين للحزب، بعد شجار بينه وبين حزب لبناني، «ما بيحكي عن الشيعة إلاّ الشيعة». حتى ولو كانت هذه القولة مجرّد «زلّة لسان»، فهي تعبّر عمّا هو أصلاً موجود داخل أحشاء الكانتون، ما زرع في النفوس والعقول: نحن دولة شيعية مستقلة، وممنوع على أحد التدخّل في شؤوننا الخاصة. طبعاً، هذا ليس بجديد فقد سبقته الميليشيات المذهبية في الحرب، عندما ارتجلت حدوداً فاصلة لنفوذها. فالتاريخ القريب يكرّر نفسه، والروبوتوتات المبرمجة خير دليل عيني وسمعي له. بل ويُذكّرنا ذلك، في المقابل، ببعض المواقف «الانتخابية» كمحاولة تمرير ما سُمّي «القانون الأرثوذكسي»: كل مذهب يصوِّت لنفسه، ينتخب نفسه: الموارنة ينتخبون الموارنة، وكذلك الشيعة، والسُنَّة والدروز، والأرثوذكس…
كلام هذا الطالب الحزبي هو تعبير عن حالة اجتماعية ديماغوجية، تتمثّل في أن لبنان هو مجموعة شعوب وقبائل لا يربطها رابط، ولا توحّدها أرض، أو تجمعها جمهورية بقيَمِها الدستورية، وسيادتها؛ فبدلاً من السعي إلى استقلال البلد، يسعون إلى «استقلال» كل جماعة طائفية، أو خريطة جغرافية، لها حدودها، وقراراتها. ويمكن أن نتمادى في اختراق احتمالات هذه الذهنيات، استناداً إلى تجدّدها، لكن بصوغ أوضح: «ما بيحكي عن الموارنة إلاّ الموارنة..»، وعن السُنَّة إلاّ السُنَّة. بل أكثر: أي مداها الاجتماعي والديموغرافي: لا يأكل الشيعي إلاّ في مطاعم شيعية. ولا يتردّد الماروني أو السُنَّي، أو الدرزي، سوى إلى مدارس تتناسب مع هيكليته المذهبية. وأكثر: لا أحد يتناول موروث هذه الطائفة إلاّ أهل الطائفة: من التاريخ؟ تاريخنا خاص بنا. من الجغرافيا؟ جغرافيتنا خاصة بنا. من التربية؟ تربيتنا خاصة بنا، تحافظ على «أصالتنا التليدة»، و«حضورنا» المطهر. ومحرَّم على المسيحي أن يتناول شعراء أو فقهاء أو أئمة، أو زعماء، سياسيين، أو غير سياسيين، فهذا ليس بطهارة «عرقنا». وهذا المنطق يمكن أن يُطبَّق على الماضي: فالمسيحيون الذين كتبوا عن الإمام علي بن أبي طالب أهم الكتب، هم معتدون على رموزنا. كبولس سلامة الذي خصّص «ملحمته» الشيعية (تقابلها طبعاً ملحمة سُنِّية)، الأولى سُمِّيت «عيد الغدير» والثانية «عيد الرياض». هذه هرطقة وانتهاك لتاريخنا المجيد. وهذا ينطبق على المسلمين الذين وضعوا كتباً عن المسيحية، والمسيح، وتاريخهم. الطائفة وحدها لها الحق «الشرعي» و«السياسي» في تناول أبنائها. وتالياً: نحن وحدنا شرعياً، وباسم «شعبنا» نملك الحق بتناول سياسة «حزب الله»؛ وللآخرين أن يهتموا بشؤونهم.. أو ببلدانهم.
] التقسيم العمودي لهم
يتخذ «التقسيم» هنا شكله العمودي العميق، انفصالات الجذور. بالمعنى الاقتلاعي. كل طائفة تقتلع نفسها عن منابتها وبيئتها، والعالم. ويعني ذلك تمجيد نرجسية جماعية مضخمة، تحتفل بعزلتها، وانطوائيتها، واستنقاعها، كأن ينحرف جزء من النهر إلى خارجه: وعندها الاستنقاع، والأوبئة، والخراب. ديماغوجية خطرة، بدأنا نتلمس ظواهرها في الغرب «أميركا أولاً» (بمعنى التقوقع..)، والكانتونات العنصرية في فرنسا من «يهودي»، إلى «كاثوليكي» إلى «إسلامي».. كأنها مراحل الانفصام، والانفصال، والقطع، والبتر.
ما تفوّهه الطالب المشبع «بثقافة» حزب ولاية الفقيه هو بالذات حقيقة هذا الحزب، ونتيجة غسل أدمغة بيئته، وعزلها عن لبنان نفسياً وثقافياً ووطنياً، وجغرافية ودولة. عندنا «إقليمنا» الذاتي، وشعبنا المتجانس، وتاريخنا الواحد، فحذار انتهاك محرماتنا وحدودنا وجمهوريتنا، وقد سبق أن سمعنا مثل هذه الأقوال على ألسنة العديد من «عظماء» الحزب و «مفكّريه» وجهابذته من أعلى السلم إلى أسافل الإدراك: إنها نغمة الفتنة المستدامة، والحرب الأهلية المعلنة، وها هو السيد حسن نصرالله يدلي بخطب تدلّ على أنه خارج الموقع اللبناني كأنه هو الجيش، والشعب، والحكومة، والجمهورية، وكل شيء يُدار من «جمهورية» الأنفاق والكواليس والمربّعات الأمنية الخارجية: مجتمعات الروبوات المذهبية سبقت العِلم، واختراعه «إنساناً آلياً» مبرمجاً: أي نشر ممارسات وأفكار شمولية يتشابه فيها أبناء الطائفة، كأنهم استنساخ لبعضهم، أو كائنات مقولبة في آلات لا وعية، تحرّك بالروموت كونترول. وقد صرح كاتب هذه السطور ردّاً على سؤال في إحدى المقابلات التلفزيونية: «الجحيم هي المكان الذي يتشابه فيه كل الناس».
] تخوين الجيش
لكن كل ذلك، ما زال هيّناً، أمام ما تفوّهه كل من النائبين حسن فضل الله، ونواف الموسوي: «الجيش اللبناني يحافظ على تقسيمات سايكس – بيكو، على الحدود الشمالية». يعني تخوين الجيش من حيث بطولته الوطنية في دفاعه عن الحدود اللبنانية الشرعية. إنه قول أقل ما يُقال فيه إنه «خيانة» معلنة، بانتزاع قطعة من لبنان وضمّها إلى نظام آل الأسد. ولا يمنع أن يقول الحزب غداً، تأكيداً على موقعه «إن طرابلس غير لبنانية.. هي سورية ويجب إلحاقها بوطنها الأصلي». وكأنّ الحزب أراد أن يشارك وبمنطق إيراني – فارسي اقتلاع بعض المناطق من جمهورياتها: كالقرم التي ضمّها بوتين إلى روسيا، وكأنها، بعدما قدّمها غورباتشوف لتكون جزءاً من أوكرانيا، ها هو بوتين يستعيدها. فهي أوكرانية عن «حق وحقيق»، والدليل أن سكان القرم صوّتوا بـ«نعم» للانفصال عن بلدهم الأم. أو استرجاع الشيشان إلى حضن الامبراطورية الأرثوذكسية بعد حرب دمّر النظام الروسي فيها كل شيء في هذا البلد، واستعاده بالعنف إلى نفوذه. وهي حال جورجيا، ومَن يدري دور مَن غداً: بولندا مثلاً؟ ولأن إيران دعمت بوتين، فلماذا لا يستفيد الحزب من هذه التجربة، ويسلخ جزءاً من بلاده و«يعيده» إلى أكناف طاغية سوريا.
لكن لماذا الاستغراب، ألم ينقذ الحزب وبوتين وأوباما وإيران بشار الأسد على السواد الأعظم من الشعب السوري، وشارك بجرائم تهجير عشرة ملايين مواطن من أرضهم، بعدما دمّر منازلهم، وقراهم ومدنهم، وأجبرهم على الهروب؟ أكثر: ألم يوافق الحزب على إصدار الأسد فرماناً يمنع الذين تركوا بلادهم من حق الإدلاء بأصواتهم، سواء في الانتخابات الرئاسية أو النيابية أو حتى البلدية. هنا الحزب اقتلاعي، فاشي، احتلالي، وعندنا، ما يماثل ذلك: اقتلاعي لحدود لبنان الكبير، وربما غداً تهجيري، وتدميري، ليسيطر بمعية النظام السوري على الحدود، تمهيداً لتحقيق «هلاله الصهيوني». ويمكن التطرُّق، من باب التقسيمات وأشكال السطو على الجزر العربية الثلاث التي تحتلها إيران: هنا موقف الحزب ذاته: دعم الاحتلال الفارسي لها. ولا ننسى «الأهواز» العربية السُنّية التي تحتلها إيران، وتقمع كل مَن يطالب بتحريرها. وهل ننسى أيضاً وأيضاً حروب إيران، وليّة نعمة الحزب، على بعض البلدان العربية لتقسيمها، والسيطرة عليها، كاليمن، والبحرين، والعراق. فالحزب مع «خوارج» إيران هناك. وهو أليس من «خوارج» الفرس في لبنان؟، أوليس من «آثار» احتلال ولاية الفقيه عبره لبعض المناطق الجنوبية والبقاعية، وصولاً إلى الضاحية؟ أو لم يصرح خامنئي أنّ بيروت والجنوب من الولايات الإيرانية: إنه الضمّ المبكر تنكبته المقاومة المزعومة بتوسيع نفوذ إيران في المنطقة: اليمن والعراق وسوريا ولبنان باتت في المنطق الإيراني «ولايات فقيه». هذه الخيانة المجلجلة، والعمالة الصادحة، والاسترهان الذليل لإيران هي التي تُبقي هذا الحزب لأنه ينفّذ طائعاً وخاضعاً، ما ينفّذه العملاء ضدّ أهلهم وبلدانهم.
] ضمير الحزب الوطني
هذا هو واقع حزب إيران، فإذا أيَّد استيلاءها على الجزر الثلاث، والأهواز وسوريا ولبنان والعراق، فلا يمنعه ضميره الوطني الغائب، أو وطنيته المرحومة، أن يتفرّغ بعد كل هذه الحروب التي أمرته إيران بخوضها، لتقسيم بلاده من الداخل، والعمل على تسليم جزء من لبنان الكبير إلى دولة أخرى، أو دولتين أخريين؟ هذا الحزب الذي «حرَّر» الجنوب (بمفاوضات صعبة مع إسرائيل، جرت بين هذه الأخيرة وإيران في أوروبا قبل انسحاب العدو، ببنود تضمن حماية حدوده الشمالية)، من احتلال واحد وسلّمه لاحتلالَين. فأي تحرير تتكلّم عنه يا سيد حسن؟ وأي مقاومة؟ وأي بطولة؟ وهل من المستغرب القول إن إسرائيل التي انسحبت بعد اتفاقات سرّية مع إيران، ليتفرّغ الحزب لتنفيذ الخطط التي عجزت عنها. فتحل إيران محل إسرائيل: فما هي الفوارق: إسرائيل، تحتل الجولان (بموافقة النظام وولاية الفقيه)، وإيران تحتل الأهواز والجزر الثلاث وأجزاء من لبنان وثلاثة بلدان عربية. إسرائيل دمَّرت لبنان، وحاولت تخريب اقتصاده، وتقسيمه دويلات مذهبية، وهذا ما تفعله إيران وأكثر، وأدهى وأخطر.
من هنا، علينا أن نفهم أن «حزب الله» بموافاته وخضوعه للمخطّطات الفارسية، يلتقي الأهداف الصهيونية. وهذا بات واضحاً بلا لُبس.
] التهويلات
ولم تعد تنفع هذه العراضات، والتهاويل، والتهديدات ضدّ إسرائيل، لأنها بكل بساطة موجّهة ضدّ اللبنانيين والعرب والسُنَّة والأحزاب العلمانية، والمجتمعات الحُرَّة. وبُتنا نعرف جيداً أنه عندما تُرفع النبرة ضدّ إسرائيل، إمّا لتعويض خسائر في معارك سوريا، أو لتغطية هزائم، أو لحرف الأنظار عن ضحاياك المساكين هناك، أو، وهذا أخطر، لتعويم نتنياهو عندما يكون في حاجة إلى التعويم.
قبل بضعة أيام احتفل الإعلام الإسرائيلي بانتصار «حليفه» الأبدي بشار، وسبق أن صرّح رئيس وزراء العدو في بداية الثورة «سقوط النظام كارثة على إسرائيل». واليوم يظنّ الكيان الصهيوني أن الغيوم الثورية الشعبية الديموقراطية قد انزاحت، فها هو يستريح في جولانه، وفي مزارع شبعا (في حرب 2006 لم يذكر حسن نصرالله مزارع شبعا إطلاقاً، ليطمئن العدو، لكن هذا الأخير، بعد حادثة خطف الجنود، دمَّر لبنان بدلاً من سلاح حزب الله!).
اليوم وبعد ترسيخ كانتونه، يحاول الحزب رمي لبنان في أزمة وجودية جديدة: سلخ جزء منه وتسليمه إلى إيران وسوريا (تماماً كما فعل في الجنوب بعد تحريره)، فكأنه، ليس فقط حزب الفتنة والحروب والسطو على الدولة بل إنه بطل التسلم والتسليم: يتسلم الجنوب فيهديه إلى سوريا وإيران، وها هو اليوم يستعد لعملية تسلم وتسليم جديدة: سلخ مناطق من لبنان والجنوب، وتسليمها إلى حلفاء بني صهيون..
وليست هنا نهاية المطاف بل قد يدشِّن الحزب مرحلة جديدة، فاستعدّوا أيّها اللبنانيون.
إنه مصيركم في الميزان.