د. عماد الدين الجبوري
رغم إن العرب مهبط الإسلام، وحاملين رايته التي بسطوها في مشارق الأرض ومغاربها، لكن الدين الجديد بالقدر الذي يحثهم على العبادة والتسامح مع الأديان الأخرى، فإنه يحثهم أيضاً على طلب العلم والمعرفة. فالأمة مهما كانت تتمتع بمميزات معينة، بيد إنها لا تصل إلى مستوى حضاري راقي دون الإحتكاك والإطلاع على ثقافات وعقليات الأمم المتقدمة عليها مدنياً وحضارياً. حيث إن عملية التطور الإنساني هي نتاج تمازج وتلاقح لأفكار وفلسفات وعلوم وآداب وفنون بين مختلف الأمم والشعوب.
وهكذا كانت حركة الترجمة والنقل في حضارة العرب الإسلامية بمثابة شريان حيوي هام. حيث مدها بحكمة الصين والهند وإيران، وثقافة اليونان والرومان. علاوة على مذاهب التصوف الشرقية القديمة، وعقائد الرهبانية المسيحية وغيرها. ومن خلال هذا التلاقح المتنوع إنفردت الحضارة العربية الإسلامية بطابعها الخاص. فقد حافظت على عقيدتها الدينية، وقدمت للإنسانية حضارة إسلامية مميزة.
وليس من المبالغة إن قلنا إن الحضارة العربية الإسلامية لم يكن لها نظيراً في العصر الأوروبي الحديث، ولا في عصرها التقني والنووي المتقدم. إذ بشكل عام ما زالت أوروبا الحديثة تطمس حقائق نهضتها التي قامت على علوم وحضارة العرب المسلمة. فأغلب البحوث والدراسات الفكرية والفلسفية عندما تنتقل تاريخياً من العصر الحديث تتجه بسرعة صوب العصر القديم، دون إعطاء الوزن الحقيقي والمؤثر لفترة الحضارة العربية الإسلامية. بل إن حضارة الغرب المعاصرة، وبأعتراف قلة من مفكريها، تتمحور حول ذاتها بشكل سلبي؛ فلا ترى في تواريخ العالم إلا ما قد وصل إليه الغرب من رقي وتقدم هائلين.
على أي حال، فإن تناول حركة الترجمة والنقل والدور الذي لعبته في النمو الحضاري عند العرب المسلمين، فيمكننا أن نضعها وفقاً إلى الفقرات التالية:
أولاً: أسباب الترجمة
من بين أهم الأسباب الرئيسة التي أدت إلى تفعيل حركة الترجمة في عاصمة الخلافة العباسية بغداد، كان سبباً خارجياً غير مباشر، وآخر داخلي مباشر. فالأول كان نتيجة إلى وجود المدارس القديمة التي تمثل عصر إزدهار الثقافة اليونانية من جهة. ودور السريان الذين يمثلون حلقة الوصل بين العرب وبين لغة اليونان من جهة أخرى. حيث كانت اللغة اليونانية شائعة التناول في مدارس السريان. وعندما فتح العرب المسلمين بلاد العراق والشام ومصر، وإحتكاكهم بثقافات تلك المدارس المسيحية، طلبوا من السريان أن ينقلوا التراث العلمي والفكري اليوناني إلى اللغة العربية.
وهنالك بضعة مدارس كانت تتصدر مستوى التعليم لفترات زمنية طويلة. وسوف نسردها بحسب تسلسلها الزمني، كون بعضها قد تأسس نتيجة خروج كبار معلميها من مكان إلى آخر.
1- مدرسة الإسكندرية: وهي معقل “الأفلاطونية المحدثة” التي تعود إلى مؤسسها فيلون الإسكندري (20 ق.م- 50 م)، ولقد سار على نهجه إنكلمندس الإسكندري (150-211) ثم أفلوطين (204-270). حيث تميزت بالتوفيق بين الفكر اليوناني والفكر الديني. ومن آباء هذه المدرسة أيضاً: أقليمس الأسكندري، أوريجانيس، أثناسيويس وغيرهم. ولقد أخذ عنها العرب الفلسفة الإشراقية.
2- مدرسة الرها: يرجع تأسيسها إلى القرن الثاني الميلادي، وتعتبر من أقدم المدارس اللاهوتية المسيحية. ومن كبار معلميها وقتذاك: ططيانس (-170) وبرديصان (-222). ولقد نالت رعاية مار أفريم السرياني (-375) قبل سقوط مدينة الرها بيد الفرس الساسانيين في العام 363. حيث كانت ضمن حدود الدولة البيزنطية التي تقع شمال العراق. تم إغلاقها بأمر أمبراطور القسطنطينية زينون (474-491) عام 489، نتيجة تصاعد الإختلافات والمشاحنات الداخلية حول إتباع النهج الإسكندراني أو الأنطاكي. كانت لغة التعليم فيها سريانية ويونانية، وتم فيها نقل بعض مؤلفات أرسطو إلى السريانية.
3- مدرسة أنطاكية: يعود تأسيسها إلى أوآخر القرن الثالث الميلادي في بلاد الشام. ولقد تميزت بالفكر الإفلاطوني المحدث. كانت لغة التعليم فيها اليونانية والسريانية. ومن أشهر آبائها: لوقيانس، بولص السميساطي، ديودورس وآخرين سواهم.
3- مدرسة نصبين: ولقد تأسست عام 320 بفضل الأسقف يعقوب أفراهاط، وتقع ضمن حدود الدولة البيزنطية، شمال سوريا. كانت لغة التعليم فيها سريانية، تختص بعلوم: اللاهوت، الفلسفة، الطب؛ وإستمرت حتى القرن السابع الميلادي.
4- مدرسة قنسرين: ويعود تأسيسها إلى القرن السادس الميلادي في جنوب حلب، لكنها وصلت إلى أوج أزدهار في القرن السابع، كونها مركزاً مهماً للدراسات اليونانية: الأدب، اللغة، الفلسفة، المنطق، الطبيعة، اللاهوت، الفقه. وكان التعليم فيها باللغتين السريانية واليونانية. ولقد نافست مدرستي الرها ونصبين، وأستمرت تحت الحُكم الإسلامي حتى القرن التاسع الميلادي.
5- مدرسة جنديسابور: ولقد أسسها كسرى الأول أنو شروان (531-567) الذي كان معجباً بثقافة اليونان والرومان. ولذلك أستقبل وأستقطب الفلاسفة عندما أغلق الأمبراطور الروماني جو ستينيان الأول مدارس أثينا الوثنية عام 528. ورغم أن جنديسابور في الأحواز كانت في بدايتها مستشفى وتدرس الطب، لكنها أصبحت أيضاً من أهم المدارس الفكرية. وكانت لغات التعليم فيها تضم الفارسية والسريانية والهندية. وأستمرت بالتواصل في العهد الإسلامي.
6- مدرسة حرّان: تأسست في القرن السابع الميلادي، بعد فترة من إغلاق مدرسة أثينا الفلسفية. وتميزت بالعلوم الرياضية والفلكية، بالإضافة إلى الإفلاطونية المحدثة. كانت لغة التعليم فيها السريانية. وأستمرت بنهجها الأكاديمي في ظل الإسلام.
أما عن السبب الثاني، المباشر، الذي دفع بالعرب المسلمين إلى نقل كُتب العلوم والفلسفة والآداب إلى لغتهم، فإنه يرتبط بواقع الفتوحات المتوالية والسريعة. مما جعلهم أن يراعوا أهمية الإوضاع الجديدة، ومنها:
1- حاجة العرب إلى العلوم والمعارف. فالإسلام قد خلق مجتمعاً جديداً له عقليته ونمط تفكيره الحياتي الذي نقل عرب الجزيرة إلى مستوى مدني يتطلب منهم التوجه نحو آفاق ومصادر حضارية متقدمة.
2- الوضع المستقر والرفاه المعيشي. إذ أن المجد العسكري والسياسي والإقتصادي الذي شيده العرب المسلمين لا يكتمل إلا بالمجد العلمي والفكري.
3- لغة القرآن. فبعد الفتوحات إنتشرت اللغة العربية في جميع البلدان الإسلامية، كونها لغة النظام السياسي الرسمي للدولة. ومن بين ما يمتاز به القرآن هو حث المسلمين على البحث والتفكير، وفي مدح العلم ومنزلة العلماء.
4- حاجة العرب إلى فكر نظري حر. حيث إن الفِرق والملل الدينية قد كثرت وتعددت بين المسلمين، وإزداد الجدل فيما بينها. مما أوجب على علماء الكلام أن يطلعوا على نظريات الفكر اليوناني لكي يتمكنوا من الرد العقلي والمنطقي على المغالين في الدين.
5- نفوذ المثقفين الأعاجم. حيث تأثر العرب ببعض المفكرين والأعلام من الأعاجم. خصوصاً من الذين نقلوا وترجموا تراثهم إلى اللغة العربية.
6- إهتمام الخلفاء بالعلم والمعرفة. إذ لم يكن إنتقال الخلافة من الأمويين إلى العباسيين لمجرد قيادة دولة المسلمين، بل كان أيضاً إنتقالاً إلى عقلية حضارية راقية. وكان المنصور والرشيد من أكبر الخلفاء تشجيعاً لنشر المعرفة، والخليفة المأمون نفسه كان عالماً؛ حتى إن إنتصاره على ملك الروم تيوفيلوس عام 830 ميلادية، كان من بين شروطه على وقف القتال الحصول على كُتب الفلسفة والعلوم كجزء أساسي من غنائم الحرب. وكذلك بالنسبة إلى حاكم قبرص عندما طلب الهدنة، فقد فرض عليه المأمون أن يسلم “خزانة كُتب اليونان”. كما ذكر أبن النديم. ناهيك بالقول عن إنشاء “بيت الحكمة” عام 840 ميلادية في عهد الرشيد ووصل إلى ذروته في عهد أبنه المأمون، حيث جمع فيه عشرات المترجمين من بلدان عدة ليعملوا ضمن جامعة علمية كبرى.
7- التيار الشعوبي الفارسي. بعد أشتداد التنافس بين العرب والشعوبيين من الفرس الذين ترجموا تراثهم بغية إبراز آدابهم القومية الممتدة إلى ما قبل الإسلام، وذلك من أجل المفاخرة، عبد الله بن المقفع (106-142ه/724-759 م) نموذجاً. حيث ترجم كتاب “كليلة ودمنة” من اللغة الفهلوية إلى اللغة العربية.
ثانياً: مراحل حركة الترجمة
لم تبدأ الترجمة بشكلها العلمي إلا في العصر الأموي. حيث بدأت فيه نقل بعض العلوم إلى العربية. وكان خالد بن يزيد بن معاوية (-85 ه/-704 م) المُلقب بحكيم آل مروان، عندما أُبعد عن الخلافة، إتجه صوب العلم وأهتم بالكيمياء لرغبته الشديدة في تحويل المعادن إلى ذهب. وهكذا أمر بعض علماء اليونان الذين كانوا في الأسكندرية أن ينقلوا له من اليونانية إلى العربية كُتب الكيمياء. كما وأمرهم بترجمة “الأرغانون” وهي مجموعة كُتب أرسطو في المنطق.1
ويقول أبن النديم البغدادي (380 ه/-900 م) عن خالد بن يزيد: “وكان فاضلاً في نفسه، وله همة ومحبة للعلوم، خطر بباله الصنعة (الكيمياء) فأمر بإحضار جماعة من فلاسفة اليونانيين ممن كان ينزل مدينة مصر، وقد تفصّح بالعربية، أمرهم بنقل الكُتب في الصنعة من اللسان اليوناني والقبطي إلى العربي. وهذا أول نقل كان في الإسلام من لغة إلى لغة”.2
ومن بين الذين ترجموا إلى خالد بن يزيد هما: أصطفن القديم، والراهب مريانوس. ورغم إنه قد تم ترجمة كُتب في الفلك والطب أيضاً، لكن هذه التراجم لم يكن لها شكلاً رسمياً إلا في العصر العباسي (132-656 ه/750-1258 م). حيث أهتمت بها الدولة إهتماماً قوياً، كما في الجانب الفردي والجماعي. حتى بلغت الترجمة عصرها الذهبي في عهد المأمون (198-218 ه/813-833 م) الذي كان يرسل البعثات العلمية لجلب العلوم من مواردها الأصلية في أمهات الكٌتب.
وهكذا أصبح “بيت الحكمة” أول جامعة في بغداد، وأعظم مكتبة في العالم الإسلامي ترعاها الدولة. حيث يجتمع فيها العلماء والفلاسفة للدرس والمناظرة، ويؤمها الطلاب والباحثين من مختلف الأوطان والأمصار الإسلامية. بل هي أول نبراس ينتقل فيه الفكر والعلم من الإستماع إلى الإجتهاد، ومن الترجمة إلى التأليف. وبذلك إنطلق الفكر في العالم الإسلامي ليصل فيما بعد إلى أعلى درجات الإزدهار العقلي.
ثالثاً: أهم المترجمين واللغات التي نقلوا عنها
يوجد عدد من المترجمين الذين يعتبرون من أشهر وأكبر من نقل إلى العربية. ويمكن تصنيفهم إلى مجموعتين. الأولى ما تُرجم فيها من اللغتين السريانية واليونانية. والثانية ما تم ترجمته من اللغات الفارسية والهندية واليونانية أيضاً. ومن المفيد أن نستعرض كل شطر على جانب.
(المجموعة الأولى)
1- ماسر جويه: طبيب سرياني يهودي. ترجم إلى الخليفة عمر بن عبد العزيز (99-101 ه/717-720 م) مجموعة “كناش القس أهرون بن أعين” وهو طبيب إسكندراني.
2- عبد المسيح الحمصي: وهو عبد المسيح بن عبد الله بن ناعمة الحمصي (-220 ه/835 م). ولقد ترجم لأرسطو كتاب “الأغاليط”. وترجم أيضاً شرح يحيى النحوي على كتاب “السماع الطبيعي” لأرسطو. علاوة على ترجمته لأجزاء من “تاسوعات” أفلوطين.
3- حنين بن أسحق: وهو أبو يزيد حنين بن أسحق العَبَادي (194-260 ه/810-873 م) سرياني من النساطرة في الحيرة قرب الكوفة، ويعتبر من أكثر المترجمين شهرة، وكان يُلقب بشيخ المترجمين. فقد تعلم العربية على يد الخليل بن أحمد الفراهيدي، ودرس الطب في بغداد على يد يوحنا بن ماسويه، وحذق السريانية والفارسية، وسافر إلى بلاد الروم لتعلم اليونانية والطب. أمر المأمون بتعينه على رئاسة “بيت الحكمة”، وكان يعطيه زنة الكتاب الذي يترجمه ذهباً. ولقد نقل عدداً كبيراً من الكُتب الطبية والفكرية والفلسفية إلى السريانية والعربية. ومما ترجمه للعربية كُتب أفلاطون: “الجمهورية” و “النواميس” و “طيماوس”. وكذلك ترجم لأرسطو كُتب المنطق (المقولات، البرهان، المغالطات، الجدل الخ). وأيضاً كتاب “السماء والعالم” وكتاب “الأخلاق”.
4- أسحق بن حنين: هو أبو يعقوب أسحق بن حنين (215-298 ه/830-910 م)، الأبن الأول إلى حنين “شيخ المترجمين”. فقد أخذ عن أبيه الطب والترجمة، وعمل في خلافة المعتمد والمعتضد، وكان معاصراً للشاعر الكبير أبن الرومي. ولقد ترجم إلى العربية كتاب “السوفسطائي” لأفلاطون. ومجموعة من مؤلفات أرسطو: “البرهان”، “مابعد الطبيعة”، النفس”، “الخطابة”، “الكون والفساد”. علاوة على ترجمته لكتاب “إيثاغوجي” لبرفيروس تلميذ أرسطو.
5- ثابت بن قرة: هو أبو الحسن ثابت بن قرة بن هرون من مدينة حرّان. كان يجيد العربية والسريانية واليونانية والعبرية. نبوغه الرياضي جعله يضع كتاب يشرح فيه علاقة الجبر بالهندسة. ولقد ترجم في المنطق والرياضيات والفلك والطب. منها جزء عن “السماع الطبيعي”، وملخص كتاب “ما وراء الطبيعة” لأرسطو. فضلاً على ترجمته كتاب “الجغرافية” و “المجسطي” لبطليموس.
6- قسطا بن لوقا البعلبكي: وهو نصراني من أصل يوناني، ولد في مدينة بعلبك وتوفي عام (300 ه/912 م). أتقن السريانية والعربية واليونانية. أستدعاه الخليفة المستعين بالله إلى بغداد، حيث عرَّب له كُتباً في الحكمة والطب والفلك والرياضيات. منها شرح الأسكندر الأفروديسي ويحيى النحوي الديلمي على “السماع الطبيعي” لأرسطو. وكذلك شرح الإسكندر على كتاب “الكون والفساد” لأرسطو أيضاً. ولقد أصلح تراجم كثيرة لكُتبٍ قديمة أو معاصرة.
7- يحيى بن عدَّي المنطقي: وهو سرياني من اليعاقبة. ولد في مدينة تكريت، وتوفى عام (364 ه/974 م). درس اللغتين العربية والسريانية. كان تلميذ الفارابي، وقرأ على يد أبي بشر متي بن يونس النسطوري. وضع كتاباً حول الأخلاق، وترجم لأفلاطون: “النواميس” و “طيماوس”. ولأرسطو: “النفس”، “الآثار العلوية”، “الحيوان”، “السماع الطبيعي”.
8- عيسى بن أسحق بن زُرعة: وهو سرياني يعقوبي توفي عام (396 ه/1008 م). ولقد أخذ الترجمة عن إستاذه يحيى بن عدَّي. ونقل كتاب “فيدون” لأفلاطون، وكتابين “الحيوان” و”الأغاليط” لأرسطو.
(المجموعة الثانية)
1- يوحنا بن البطريق (-203 ه/-815 م) كان مولى للخليفة المأمون، وترجم لأفلاطون:”الجمهورية” و”طيماوس”. وكذلك ترجم لأرسطو: “الحيوان” و”الآثار العلوية والعالم” وجزء من كتاب “النفس”.
2- عبد الله بن المقفع (-142 ه/-759 م). نقل للعربية كثيراً من الكُتب الفارسية، أهمها: “خداي نامه” أو سير ملوك الفرس، و”آيين نامه” أو كتاب المراسيم والتقاليد، و”التاج” في سيرة أنو شروان، و”مزدك” في الأدب والأخلاق المجوسية، و”كليلة ودمنة”. بالإضافة إلى ترجمته لكُتب أرسطو المنطقية: (قاطيغورياس، باري أرمينياس، أنالوطيقا الأولى). ولقد ترجمها في عهد الخلفية المنصور. وكذلك ترجم كتاب “إيساغوجي” لفرفريوس الصوري.
3- أبو عبد الله الفرازي (-171 ه/-777 م)، وهو أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن حبيب الفزاري الكوفي. أشتهر بعلم النجوم والترجمة من اللغة الهندية إلى اللغة العربية. كان منجماً للخليفة المنصور، ولقد أمره بنقل كتاباً في علم الفلك الموسوم “السند هند”. وأستمر هذا الكتاب معمولاً به إلى عهد الخليفة المأمون، ثم تم إختصاره على يد أبو جعفر محمد بن موسى الخوارزمي.
4- أبو سهل بن نوبخت (-203 ه/-815 م). كان مترجماً وحكيماً ومتكلماً، ونال منزلة عند الخليفتين الرشيد والمأمون. ولقد عينه الرشيد على “خزانة كُتب الحكمة، وكان ينقل من الفارسي إلى العربي من كُتب الحكمة الفارسية، ومعوله في علمه وكتبه على كُتب الفُرس”.3
5- الحسن بن موسى النوبختي (-310 ه/-923 م). كان فيلسوفاً ومتكلماً ومترجماً، نقل كُتب اليونان إلى العرب. وكان له بعضاً من الكُتب في الكلام والفلسفة وغيرها.
6- أبو بشر متي بن يونس (-328ه/-940 م). وهو سرياني نسطوري، أشتهر بالطب والمنطق. كان أستاذاً للفارابي، ولقد ترجم كتاب “الشعر” لأرسطو. ونقل عن السريانية كتاب “البرهان” لأرسطو، وشرح كتاب “إيثاغوجي” لبرفيروس.
رابعاً: أساليب الترجمة ونتائجها
رغم أن الترجمة لم يكن لها ذلك النضوج العلمي في بداية عهد العرب المسلمين، إلا أنها قد نمت بالتدريج عبر مراحل تجاوزت فيها المشاكل التي قابلتها. وهكذا تم تجاوز التراجم الأولى الضعيفة التي يعود سببها أما إلى أن المترجمين الأوائل لم يرجعوا إلى الأصل اللغوي للمصدر، أو لأن غالبيتهم كانوا أطباء ليسوا متخصصين بالعلوم العقلية، أو لأن بعضهم كان مبتدىء بالترجمة، كما وصف حنين بن أسحق نفسه عند ترجمة سريانية لأحد كتب جالينوس، حيث يقول: “ثم إني ترجمته – وأنا حدث من أبناء عشرين سنة أو أكثر قليلاً – لمتطبب من أهل جنديسابور يقال له شيريشوع بن قطرب من نسخة يونانية كثيرة الإسقاط. ثم سألني بعد ذلك وأنا من أبناء أربعين سنة أو نحوها – حبيشُ تلميذي إصلاحه بعد إن كانت قد أجتمعت له عندي نُسخ يونانية، فقابلت تلك بعضها ببعض حتى صحت منها نسخة واحدة، ثم قابلت بتلك النسخة [التي ترجمها أبن شهدا ترجمة سيئة النص] السرياني وصححته، وكذلك من عاداتي أن أفعل في جميع ما أترجمه”.4
وفي هذا الصدد يقول التوحيدي (310-414 ه/922-1023 م) في مقايساته: “إن الترجمة من لغة اليونان إلى العبرانية ومن العبرانية إلى السريانية ومن السريانية إلى العربية قد أخلت بخواص المعاني في أبدان الحقائق أخلالاً لا يختفي على أحد. ولو كانت معاني يونان تهجس في نفس العرب مع بيانها الرائع وتصرفها الواسع وأفتناها المعجز وسعتها المشهورة لكانت الحكمة تصل إلينا صافية بلا شوب وكاملة بلا نقص، ولو كنا نفقه من الأوائل أغراضهم بلِغتهم لكان ذلك أيضاَ نافعاً للغليل وناهجاً للسبيل ومبلغاً إلى الحد المطلوب”.5
أما أساليب الترجمة، فيمكننا أن نستعرض تحليل الصفدي (696-764 ه) في هذا الشأن، حيث يشير قائلاً: “للترجمة في النقل طريقان: أحدهما طريق يوحنا بن البطريق وهو أن ينظر إلى كل كلمة مفردة في اليونانية، وما تدل عليه، ثم يأتي المترجم بلفظة مفردة من الكلمات العربية ترادفها في الدلالة على ذلك المعنى، فيثبتها وينتقل إلى الأخرى، كذلك حتى يترجم جملة ما أراد تعريبه. وهذه الطريقة رديئة لوجهين، أحدهما أنه لا يوجد في اللغة العربية الكلمات الكافية التي تقابل اللغة اليونانية، ولهذا وقع في خلال التعريب كثيراً من الكلمات اليونانية على حالها، والوجه الثاني أن أسلوب التركيب في لغة يختلف إلى لغة أخرى، فتقع أخطاء في أستعمال المجاز، أما الطريق الثاني في التعريب فيمثله حنين أبن أسحق، والطريقة في أن يأتي بجملة. فيحصًّل معناها في عقله، ثم يعبر عنها باللغة الأخرى بجملة تطابقها، هذه الطريقة أجود من الأولى، لذلك لم تحتج كُتب حنين إلى تصحيح إلا في كُتب الرياضيات لأنه لم يكن متعمقاً بها، أما كُتب الطب والمنطق والعلوم، فأغلب كتبه لم تحتج إلى أي تصحيح”.6
ولكن هذه الترجمة الحرفية والمعنى قد جاءت إلى العرب من قِبل المترجمين السريان بشكل كبير. ولذلك فقد أورثوهم النطق السرياني وليس اليوناني. على سبيل المثال، أن أسم سقراط أو أفلاطون ليس كلفظ سقراطس أو بلاطون كما يقول أهل اليونان. ومع ذلك فقد أحدثت الترجمة نتائج مهمة وخطيرة، سواء كان في تحريك اللغة العربية عن طريق الألفاظ والإشتقاق والتجديد، أو في تطوير بنية التكوين الفكري في عقلية العرب بشكل عام. فقد ظهرت المذاهب العقلية كالمعتزلة والأشعرية وغيرها، وكذلك المذاهب الصوفية عند أبن الفارض وأبن عربي والحلاج وآخرين غيرهم. علاوة على الفلاسفة من الكندي والفارابي وأبن سينا إلى الغزالي وأبن رشد وأبن خلدون من الذين وضعوا مذاهباً فلسفية تخصهم. بل أن الترجمة أستطاعت أيضاً أن تؤثر في الشعر العربي. حيث تجد الزهد عند أبي العتاهية، والطبيعة عن أبي تمام، والحكمة عند المتنبي، والتفلسف عند أبي نؤاس، والتشاؤم عند المعري، والمنطق في كتابات الجاحظ، والنقد الأدبي عند أبي هلال العسكري وعبد القادر الجرجاني.
إلا أن هذا لا يمنع من الإشارة إلى بعض الجوانب السلبية الناتجة عن ضعف الترجمة عند بعض الناقلين والتي أدت إلى سوء الفهم وإساءة التقييم بحق الفلاسفة اليونانيين، وخصوصاً أفلاطون وأرسطو. علاوة على عدم الدقة في بعض الكُتب التي نسبت خطاءاً إلى مؤلفين لم تكن لهم، فأثرت على مسيرة الفكر العربي الإسلامي. أضف إلى ذلك أن النزعة التوفيقية التي نقلوها عن الأفلاطونية المحدثة، قد قيدت عقلية إبداعاتهم وأثقلت حرية تفكيرهم أكثر مما ينبغي.
كيفما كان الأمر، فأن حركة الترجمة كان لها دورها وخصوصيتها في رفد العقل العربي بأفكار وآراء ونظريات في محتلف العلوم والآداب. حيث تمكن من خلالها تكوين فكراً خاصاً لحضارة عربية إسلامية إمتازت بالأخذ والعطاء في عملية التطور الإنساني. لا سيما في فترة القرون الأربعة الأولى من الإسلام، عندما كانت العربية لغة الدولة الرسمية. حيث كانت الترجمة رافداً مشاركاً في إزدهار تلك الفترة المنيرة من تاريخ العرب والمسلمين.
المصادر
1- أنظر: د. علي سامي النشار: “مناهج البحث عند مفكري الإسلام”، القاهرة، 1965، ص 4.
2- أبن النديم: “الفهرست”، القاهرة، (بلا تاريخ)، ص 497.
3- الشيخ عبد الله نعمة: “فلاسفة الشيعة”، بيروت، (بلا تاريخ)، ص 178.
4- نقلاً عن: د. محمد عبد الحمن مرحبا: “من الفلسفة اليونانية إلى الفلسفة الإسلامية:، بيروت، 1970، ص 316-317.
5- نقلاً عن: الدكتور عبد الحليم محمود “التفكير الفلسفي في الإسلام”، القاهرة، 1955، ج 2، ص 73.
6- نقلاً عن: رمزي نجار: “الفلسفة العربية عبر التاريخ”، بيروت، 1979، ص 70.