يكشف السفير السوفيتي السابق فلاديمير فينوغرادوف (عمل في فترة 1970-1974 في القاهرة) في مذكرته الموجهة الى القيادة السوفيتية وغير المنشورة سابقا خفايا حرب اكتوبر ( تشرين الاول) عام 1973 بين مصر وسورية من جهة واسرائيل من جهة أخرى، والتي وصفتها وسائل الاعلام ب”الحرب المزيفة”.ونظرا لوجوده في العاصمة المصرية طوال فترة الحرب فقد كان فينوغرادوف على إتصال دائم بالاركان العامة والقيادة السوفيتية ، كما إلتقى هنري كيسنجر وزير الخارجية الامريكي آنذاك. وقد أعد السفير مذكرة من أجل تقديمها الى المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفيتي والحكومة السوفيتية في كانون الثاني(يناير)عام 1975 فور عودته الى موسكو بعد ترك منصبه كسفير في مصر. وبقيت هذه الوثيقة في الارشيف الشخصي لفينوغرادوف وتم الكشف عنها بعد وفاته. ويتبين من المذكرة التي حصلت عليها “روسيا اليوم” ان السادات خان سورية في اثناء الحرب من أجل كسب ود أمريكا ، بينما ضحت غولدا مائير في هذه الحرب بحياة ألفين وخمسمائة جندي وضابط اسرائيليين دون ان يرف لها جفن ارضاء لرغبات الامريكيين في الهيمنة على الشرق الاوسط.
لعبة الشرق الاوسط
أسئلة منبثقة عما يسمى بحرب اكتوبر(تشرين) عام 1973
1. كيف أمكن ان تغدو الحرب مفاجأة بالنسبة الى إسرائيل اذا ما كان القرار قد اتخذ بشأنها منذ أبريل ( نيسان) بصورة مشتركة من قبل مصر وسورية والأردن. ألم يكن جليا للعيان ان الأردن كان يعرف ذلك ، مما يدل في الواقع على ان الولايات المتحدة – حليفة الأردن وبالتالي إسرائيل كانتا تعرفان ذلك؟
2. كيف غدا الهجوم المصري والسوري مباغتا اذا ما كان الاتحاد السوفيتي قد أجلى قبل عدة ايام من 6 أكتوبر( تشرين الأول) افراد أسر الرعايا السوفيت العاملين في مصر وسورية؟ وأجلي من مصر فقط خلال فترة قصيرة جدا 2700 شخص ، علما ان هذا تم ليس في رحلات جوية خاصة فقط بل وبواسطة سفن نقل الركاب وسفن الاسطول البحري – الحربي السوفيتي . هل ان هذا الأمر كان من الممكن ان يخفى عن عيون العملاء السريين الأمريكيين والإسرائيليين؟ زد على ذلك ان الصحافة الغربية حتى نشرت أنباء إجلاء الأفراد هذا بصورة جماعية.
3. كان المصريون يجرون في تلك الفترة مناورات استخدمت كتغطية لتحشيد جميع قواتهم المسلحة عمليا من أجل عبور قناة السويس. فهل لم يلاحظ ذلك العملاء السريون الأمريكيون والإسرائيليون؟ فقد لاحظ ذلك حتى الأهالي المدنيون. وفي نهاية المطاف يعرف جيدا ان الولايات المتحدة كانت تقوم بعمليات إستطلاع مستمرة بإستخدام الطائرات التي تحلق على ارتفاعات عالية والأقمار الصناعية. وكان لابد ان يتم رصد تحشد القوات المصرية قبل يومين او ثلاثة أيام من بدء العمليات القتالية.
4. لماذا لم يحذر السادات الاتحاد السوفيتي من العمليات الحربية القادمة؟ فقد كان من النافع بالنسبة له الحصول على الدعم السوفيتي مسبقا – لأن مصر كانت تعتمد كليا على إرساليات المعدات الحربية والذخائر وقطع الغيار السوفيتية ؟
5. لماذا طلب السوريون من الاتحاد السوفيتي فورا لدى ابلاغه في 4 تشرين الاول(اكتوبر) بموصوع العمليات الحربية ان يأخذ المبادرة بعد بدءها وبلا تأخير في طرح مسألة وقف اطلاق النار؟
6. لماذا طلب السوريون مجددا– بعد بدء العمليات الحربية – طرح مسألة ايقاف إطلاق النار؟
7. لماذا لم تواصل القوات المسلحة المصرية بعد عبور القناة الزحف الى عمق شبه جزيرة سيناء – بالرغم من عدم وجود قوات اسرائيلية في هذا الإتجاه قادرة على إبداء مقاومة جدية ( اذا لم يكن لها وجود هناك فحسب)؟.
8. لماذا لم تتوفر لدى القوات المسلحة المصرية عموما الخطط لمواصلة الهجوم في العمق في حالة نجاح العبور ؟
9. لماذا لم تقدم الولايات المتحدة المساعدة العسكرية الى إسرائيل فور بدء العمليات الحربية ، بل تريثت على مدى بضعة أيام قبل ان تبدأ بإقامة الجسر الجوي لنقل المعونات بواسطة الطائرات؟.
لماذا أعطت الولايات المتحدة الى المصريين الفرصة لتوجيه الضربات الموجعة الى القوات الاسرائيلية ، وبدأت العمل الحازم بصورة متأخرة كهذه؟
لماذا لم تنضم القوات الاردنية الى العمليات في المسرح الطبيعي بالنسبة لها وذلك بقطع طرق المواصلات من اسرائيل الى مصر ، الأمر الذي أتاح الى الاسرائيليين إمكانية توجيه قواتها ضد مصر بدون عقبات بعد هزيمة سورية؟
لماذا لم يتم اطباق اجنحة الجيشين الثاني والثالث المصريين في سيناء مما يعتبر خطأ فاحشا حتى بالنسبة للضباط من المرتبة المتوسطة ، ناهيك عن الجنرالات؟
13 . كيف أمكن ان تعبر أولى الدبابات الاسرائيلية من الضفة الغربية للقناة “دون ان تلاحظ”. فهل لم توجد لدى المصريين دوريات ومفارز استطلاع بسيطة والتي توجد حتى لدى قوات حرس الحدود؟
14 . لماذا أصر السادات على عدم الرغبة في إتخاذ أية تدابير حاسمة من أجل سد ثغرة الدفرسوار الاسرائيلية ، بالرغم من انه كان يعرف بها بل تلقى نصائح مباشرة من الجانب السوفيتي بشأن ضرورة تصفية الثغرة فورا بالوسائل المتوفرة وحتى كيفية القيام بذلك؟
15 . لماذا أصر السادات على عدم الاصغاء الى النصائح السوفيتية بشأن ايقاف إطلاق النار ، حين حققت القوات العربية في الايام الاولى نجاحات عسكرية باهرة ، بينما أعلن السادات حسب أقواله ان مقصده لم يكن تحرير سيناء كلها؟
16 . لماذا لم يوافق السادات على جميع حجج ألكسي كوسيغين حول إيقاف اطلاق النار ، حين بات واضحا ان سورية تكبدت الهزيمة ، بينما كان يتوسع لديه في مصر على الضفة الغربية لقناة السويس رأس الجسر الاسرائيلي الكبير؟
17 . لماذا لم تتوفر أبدا قوات إحتياطية على الضفة الغربية للقناة وراء خطوط القوات المصرية ؟
18 . لماذا طلب السادات حين كانت العمليات الحربية في ذروتها ان يتواجد في القاهرة ممثلون سياسيون ليس من الاتحاد السوفيتي فقط بل ومن الولايات المتحدة أيضا؟
19 . لماذا رفض السادات الاصغاء الى النصيحة السوفيتية بشأن اقتراح الوسط الذي اقترحه الامريكيون في حوالي 15 أكتوبر (تشرين الأول) ، اي إجابة الأمريكيين بأن يتصلوا بالاتحاد السوفيتي وان ينسقوا معه قضايا الشرق الاوسط؟
20 . لماذا لم يبلغ المصريون الاتحاد السوفيتي بأهداف زيارة فهمي الى واشنطن في أواخر أكتوبر(تشرين الاول) عام 1973.
21 . لماذا لم يبلغ المصريون الاتحاد السوفيتي بنتائج زيارة فهمي ، ولاحقا بنتئاج مباحثات السادات مع هنري كيسنجر في 7 نوفمبر(تشرين الثاني) عام 1973؟
22 . لماذا توقف المصريون فجأة في مطلع نوفمبر( تشرين الثاني) عام 1973 عن إجراء المشاورات مع الاتحاد السوفيتي بشأن اعداد مواقف مشتركة من مؤتمر السلام؟
23 . لماذا لم ينفذ السادات وعوده ولم يطلع الشعب على أفعال الاتحاد السوفيتي في اثناء العمليات الحربية في اكتوبر (تشرين)؟
24 . لماذا طلب السادات من الاتحاد السوفيتي بغتة وبصورة ” عاجلة” التعويض عن الخسائر من الطائرات فقط بعد انتهاء العمليات الحربية في 26 اكتوبر(تشرين الاول) وأبدى إلحاحا غير مفهوم بشأن توريدها فورا ، ثم أعلن بعد عدة أيام فحسب ان الاتحاد السوفيتي قد غير سياسته كما يبدو حيال مصر؟ فقد كانت لدى السادات الفرصة لمراقبة تحركات الاتحاد السوفيتي ، الذي ساعد مصر في المرحلة الابتدائية في كسب المعركة ، ومن ثم انقذها من الهزائم؟
25 . لماذا رفضت سورية بغتة المشاركة في مؤتمر السلام في جنيف ؟
الاجوبة المحتملة عن 25 سؤالا: ” لماذا” ؟
ان الاجوبة عن هذه الاسئلة صعبة جدا ، لكن اذا ما فرضنا أمرا لايصدق وهو ان العمليات الحربية بدأ ت بموافقة الولايات المتحدة فأن الاجابة تكون منطقية لحد ما:
1 . كانت الولايات المتحدة تعرف بالعمليات الحربية المتوقعة ووافقت عليها وسعت الى ” غض النظر ” عن الانباء الواردة من الأردن وفي أغلب الظن من مصادر أخرى.
2 . طبعا رصدت دوائر الإستخبارات الامريكية والإسرائيلية عملية اجلاء افراد الاسر السوفيتية بصورة جماعية – وكان لا بد لها من ذلك. ويبدو ان الولايات المتحدة عملت بالاتفاق مع القيادة العليا في اسرائيل أملا في ان تلحق الهزيمة بالقوات المسلحة العربية حتما ، الأمر الذي سيمنح اسرائيل فترة استراحة أخرى لمدة 10 – 15 عاما. وكانت ‘سرائيل على استعداد لهذا الغرض بالتضحية بجزء من قواتها في سيناء ،وبهذا تركز إنتباهها على الهزيمة … وعدم وجود التواطؤ والذي شكل خطرا فعليا.
3 . لا ريب في انه كان من الصعب ألا يلاحظ العملاء السريون الامريكيون والاسرائيليون تحركات قوات كبيرة ناهيك عن التقارير ذات الطابع المحدد اكثر الآتية من العملاء حول عمل” الاماكن الطيبة ” في الجهاز العسكري وجهاز الدولة في مصر . فهذه التقارير قد أهملت لهذا السبب او ذاك بدون ان تترك عواقب ، لأنه تقرر سوية مع الأمريكيين ان يجري ” التراجع ” في الفترة الاولية ، أي اعطاء السادات الفرصة لبدء الحرب ، وبعد ذلك توجيه ضربة تلحق الهزيمة به.
4 . انطلاقا من عدم توفر النية لدى السادات لتحرير الاراضي المحتلة من قبل الاسرائيليين باستخدام العمليات العسكرية ، بل فقط ” ممارسة لعبة” بموافقة الولايات المتحدة ، ولم تكن لديه أية مسوغات لجر الاتحاد السوفيتي إليها: اذ كان يعرف موقف الاتحاد السوفيتي الجاد من قضايا الحرب والسلم ، وتنبأ مسبقا بأن الاتحاد السوفيتي سيسعى الى ايقاف الحرب ، اي منعه من ممارسة اللعبة. علما ان الذخيرة كانت غير كافية لديه لممارسة لعبة الحرب.
5 . يبدو ان السوريين كانوا يعرفون نوايا السادات في ان يمارس فقط لعبة الحرب سوية مع الولايات المتحدة .ومن الطبيعي لم يكن من العسير بالنسبة لهم التنبؤ مسبقا بأن سورية ستقوم بدور ” المهزوم” ، لأنهم كانوا يدركون ان القوات الاسرائيلية الرئيسية ستوجه ليس ضد مصر بل ضد سورية ولا يعتزم السادات خوض أي حرب على جبهتين.
6 . لم يرد اي رد فعل من جانب الاتحاد السوفيتي حين حذره السوريون في 4 اكتوبر ( تشرين الاول) ، وطرحوا المسألة بشكل ملموس أكثر حين كان من النافع فعلا ايقاف العمليات الحربية ، اي عندما بلغت القوات السورية الحدود القديمة.
7 . لم تواصل القوات المصرية الهجوم في عمق سيناء لأن هذا لم يكن يتفق مع خطة السادات – في ان يبدأ الحرب فقط ثم ينتظر تدخل الولايات المتحدة. علما ان هجوم المصريين كان يمكن ان يؤدي الى هزيمة اسرائيل ، وهو ما لم يدخل أبدا في خطط الولايات المتحدة.
8 . لم توجد لدى مصر خطة الزحف الى عمق سيناء. وفي أقصى الاحوال كان السادات مستعدا للإكتفاء بالحفاظ علي أي رأس جسر خلال فترة من الزمن ، لأن المسألة كانت فقط تظاهرة عسكرية.
9 . كان بوسع الولايات المتحدة ،طبعا، منذ الأيام الاولى ،وقبل ان يبدأ الاتحاد السوفيتي في تقديم المساعدة الى العرب، مساعدة اسرائيل بنشاط ، لكن في هذه الحال كانت ستنهار فكرتهم الاساسية في الحفاظ على المصالح الامريكية نفسها ، ألا وهو حلق إنطباع بأن الولايات المتحدة أنقذت اسرائيل. ووجب على الاسرائيليين إراقة شئ من الدماء من أجل ضمان المصالح الامريكية.
10. لهذا السبب قدم الامريكيون طلائع القوات الاسرائيلية في سيناء ، بموافقة القيادة العليا الاسرائيلية، قربانا لأهداف ” السياسة العليا”.
11. إن دخول الأردن الحرب كان سيقود إما الى هزيمة اسرائيل وإما الى كشف اللعبة المصرية كليا أمام الجميع. وصدر الأمر الى الملك بالبقاء في مكانه.
12. ان الانفصال بين جناحي القوات ربما كان خطأ فاحشا ، لكن تم بهذه الطريقة بالذات اظهار موقع ضعف المصريين امام اسرائيل ، لأن اهداف الولايات المتحدة كانت تتضمن إضعاف الجيش المصري أيضا.
13. إن اختراق أول الدبابات الاسرائيلية كان في أغلب الظن نتيجة توزيع القوات المصري المعد مسبقا بمهارة.
14 . لم يرغب السادات في سد الثغرة لأنه تلقى في أغلب الظن تحذيرا من الامريكيين بأن الحدث الذي يتحكم به الامريكيون ضروري من اجل تبرير التدخل الامريكي في لعبة الشرق الاوسط.
15. لم يرغب السادة في وقف اطلاق النار منذ الايام الاولى لأن اللعبة لم تكن قد أنجزت بعد: إذ وجب طبقا لقواعد اللعبة أن يوجه الضربات الى الاسرائيليين. لكن ” خانته” الجودة العالية للسلاح السوفيتي والروح الوطنية لدى الجنود والضباط. ولم يطلب منا العمل على وقف اطلاق النار الا عندما رأى ان الامريكيين قد خدعوه.
16. لم يتفق السادات مع الاتحاد السوفيتي بشأن وقف اطلاق الناس لأنه لم ترد إشارة من الامريكيين ، بأن يتدخلوا الى جانب مصر. وأحبط الاتحاد السوفيتي بأفعاله لعبة السادات مع الولايات المتحدة.
17. كان يجب عدم نشر قوات الاحتياط وراء خطوط الجبهة في مصر حيث وجب على السادات وفق قواعد اللعبة ان ينقل الجيش كله الى الشرق.
18 . ان طلب السادات بصدد ارسال مبعوث سياسي امريكي الى القاهرة كان اجراءا مدبرا مسبقا للخطوة المقررة من قبل حول اقامة العلاقات الدبلوماسية بين مصر والولايات المتحدة. وليس من قبيل الصدف ان أشار السدات لدى استفسار السفير السوفيتي حول السبب الذي جعل مصر تعجل في اعادة العلاقات الدبولماسية مع الولايات المتحدة الى انه اقترح منذ فترة العمليات الحربية حضور مبعوث سياسي امريكي في القاهرة.
19 .لم يكن من منفعة السادات البتة ان يدفع الامريكيين نحو الاتحاد السوفيتي ، لأن هدفه كان التعاون مع الامريكيين بدون الاتحاد السوفيتي. أن غياب الاتحاد السوفيتي كان الشرط الرئيسي للتدخل الامريكي.
20 . كانت زيارة فهمي الى واشنطن اول خطوة سافرة تدل على انعطاف السادات نحو الولايات المتحدة. فلم يكن لديه اي مغزى لابلاغ الاتحاد السوفيتي بهذا التحول والانعطاف.
21 . ان غياب المعلومات حول خطوات السادات اللاحقة تنطبق تماما منطقيا مع سياسته في الانعطاف باتجاه الولايات المتحدة. فماذا كان سيبلغ الاتحاد السوفيتي؟ هل سيبلغه بأنه يعتزم سوية مع الولايات المتحدة تقليص العلاقات مع الاتحاد السوفيتي؟
22 . أوقف المصريون المشاورات مع الاتحاد السوفيتي بصدد مؤتمر جنيف لأنهم اقتنعوا( أو علموا) ان الولايات المتحدة لا تريد هذا المؤتمر ، انها ليست بحاجة اليه ، اذ سيرى هناك بشكل ساطع دور الاتحاد السوفيتي ، أي ان هذا يتعارض تماما مع هدفها الرئيسي – دخول الشرق الاوسط بمساعدة السادات.
23 . ان السادات لم يعط حق قدره أبدا موقف الاتحاد السوفيتي في حرب اكتوبر(تشرين) لأن هدفه الرئيسي كان إحداث الانعطاف بإتجاه الولايات المتحدة ، وتطلب ذلك ولو التلميح بأن الاتحاد السوفيتي لم يعمل شيئا ما بصورة مقبولة. فكيف كان بالمستطاع عندئذ التحدث عن موقف الاتحاد السوفيتي ؟
24 . كان توجيه الطلب المفاجئ بالحصول على الطائرات بمثابة ” لقية” بالنسبة الى السادات. وكان ذلك السبب الذي استخدمه مستقبلا لتبرير سلوكه حيال الولايات المتحدة. وهذا ما جرى في الماضي ايضا. بعبارة أخرى انه استخدم الاسلوب المألوف – هذا لو اننا لبينا طلبه بالموافقة على تقديمها لوجد حجة آخرى مماثلة.
26 . رفضت سورية فجأة المشاركة في مؤتمر السلام، وفي اغلب الظن عندما علمت ان مصر وكذلك الولايات المتحدة لا تعتزمان المشاركة فيه. انهم في سورية علموا بنوايا مصر والولايات المتحدة في التواطؤ على اجراء صلح انفرادي ، وسيدفع ثمنه السوريون كما كانت الحال في الايام الاولى للحرب.
الموجز
اذن ان العمليات الحربية للعرب في أكتوبر (تشرين الاول) عام 1973 قد تركت الكثير من الأسئلة – المحيرة .. والمشروعة والمنطقية. وفعلا من الصعوبة بمكان ايجاد حدث تأريخي كبير من الماضي القريب ابرز مثل هذا العدد من التساؤلات ، حيث انبثق العديد من الاوضاع غير المعقولة التي لا توجد ايضاحات لها.
لم توجد ايضاحات ؟ هل ان الأمر كذلك حقا؟
نعم ، لا توجد إجابات عن كثير من الاسئلة حتى أبسطها، إذا ما أتبع منطق أحد الاطراف ، إذ انها تعطى فرضيات لافعال السادات بدوافع معينة ، يود أحد ما افتراضها. وإذا ما أعتبر السادات وطنيا حقا في بلاده ، ولم يقدم على عقد صفقات قذرة مع خصومه السياسيين ، وهذا حال الولايات المتحدة على الدوام، فهو شئ . ونحن لن نجد هنا أجوبة عن ابسط الاسئلة.ولا يمكن ان ننسب عبقرية وتنظيم المصريين .. الى غباء وسهو الامريكين ، والى غباء وسهو الاسرائيليين … فالاسرائيليون ليسوا اغبياء ، ولديهم مخابرات جيدة – على أي حال افضل مما لدى المصريين . هذه حقيقة لا مراء فيها.
لكن اذا ما نظرنا الى جميع الاسئلة المنبثقة من منطق آخر ، اي افتراض دوافع أخرى لسلوك السدات ، وكذلك لسلوك الامريكيين والقيادة العليا في اسرائيل، ولم نعتبرهم من الاغبياء والسذج ، فعندئذ نحصل على صورة مغايرة. عندئذ نحصل على صورة حتى تبعث على الرعشة : وهي صورة وجود تواطؤ بين السادات والولايات المتحدة والقيادة العليا في اسرائيل. وكل طرف يرمي في هذا التواطؤ الى تحقيق اهدافه الخاصة. التواطؤ الذي لا يعرف كل طرف فيه جميع تفاصيل لعبة الطرف الآخر. التواطؤ الذي يسعي فيه كل طرف الى خداع الطرف الآخر.
واذا ما افترضنا ذلك نحصل على صورة عجيبة. فأننا سنجد الاجوبة المنطقية والوحيدة عن جميع الاسئلة الغريبة التي لا توجد لها اجوبة .
كما يمكن للمرء ان يتصور وضع وسلوك بعض اطراف هذه اللعبة الدموية؟
مصر
يغدو الوضع الداخلي بالنسبة للسادات لا يحتمل أكثر فأكثر . فشعبتيه تتدهور حتى بين أوساط الذين يحمي مصالحهم – اي البرجوازية المصرية.
إنه بالنسبة لها مجرد شخصية عابرة – فهو لا يتمتع بذلك القدر من الذكاء والحزم في الدفاع عن مصالحها. انه يمهد الطريق للبرجوازية في وضع صعب حيث ما زال نفوذ المبادئ الناصرية سائدا. ودعه يصفي الناصرية باسرع وقت ممكن ، وعندئذ سيرحل – لأن البرجوازية بحاجة ليس الى زعيم يترنح في موقعه بل الى زعيم حازم ، ورجل ” يقف معها حتى النهاية”. اما السادات فقد أبدى الكثير من المجاملات للاتحاد السوفيتي ولو انها كلامية.
ولم يفلح الرئيس في تنفيذ وعوده وشعاراته حول الأعوام ” الحاسمة”. ومضت الأعوام ولم تنجز اي حلول للنزاع مع اسرائيل. وتدهور الوضع الاقتصادي كثيرا بعد أن أقصى حكومة صدقي ، آخر المدافعين عن الناصرية في الاقتصاد ، لأن البرجوازية المصرية تريد الانتقام لجميع ما عانته في السابق.
أثار القلق البالغ تراجع مكانة السادات في العالم العربي. وبدأ يشعر ان الرئيس السوري حافظ الاسد لا يثق به ، بالرغم من ادراكه ان سورية الصغيرة بحاجة الى التحالف مع مصر القوية. ولا يمكن اقامة علاقات مع ” خير صديق ” – الزعيم الليبي معمر القذافي. فان القذافي شعر بالمهانة للغاية من سلوك السادات الذي لم يسمح الى مسيرة تتألف من 100 ألف ليبي للزحف الى القاهرة من أجل تسليم الرئيس المصري عريضة موقعة بالدم تتضمن المطالبة باندماج ليبيا مع مصر فورا.
وكان الملك السعودي فيصل ” العبقري الشرير ” في العالم العربي ينظر بامتعاض الى مواقف السادات. وبالرغم من انه راض عن سلوك السادات في معاداة السوفيت والناصرية ومغازلة الامريكيين ، لكنه غير راض عن تردد الزعيم المصري في تحرير الاماكن المقدسة لدى كل عربي والتي يحتلها الغزاة الاسرائيليون ، وهو- أي السادات- يقف خلال فترة طويلة جدا مترددا في التوجه الى الاتحاد السوفيتي ام الى الولايات المتحدة. الا ان الملك فيصل يمثل الاموال ، الاموال الكثيرة جدا . والملك يهبها متى ما رغب في ذلك ، وبسخاء …
اما الزعيم الجزائري هواري بودمين فكان ينظر الى السادات بشئ من الريبة منذ وقت بعيد. وكانت الجزائر تصبو منذ وقت بعيد الى تولي زعامة الامة العربية ، كما كان ذلك في زمن عبدالقادر. كما ان الجزائر تمثل في العالم العربي ” بلاد الشهداء” ، والبلاد التي ضحت بمليون شهيد من أجل نيل الحرية. وكان لدى بومدين مفهومه حول كيف تجب ممارسة دور الزعيم. لكن السادات ليس الشخصية المناسبة لذلك. فهو من عيار آخر. ان مصر اكبر بلاد عربية ، لكنها صارت تتخلف في تطورها السياسي بعد رحيل عبدالناصر.
ومكانة السادات ليست افضل في البلدان العربية الأخرى. لكن بوسعه عدم ايلاء الاهتمام لها ، ودعها نفسها تأخذه في الحسبان.
بدا ان السادات قد أوضح موقفه من الاتحاد السوفيتي . وبإعتقاده انهم هناك يعرفون بأنه ليس صديقا لهم: فقد فقد أودع في السجون رفاق عبدالناصر ، وطرد الخبراء العسكريين السوفيت مجللين بالعار ، ورفض تسديد الديون بشكل استعراضي ، وكذلك اقصاء حكومة صدقي ، والاقوال الفظة التي اوردها السادات بحق القادة السوفيت – وقد فعل هذا كله بغية ان تصل احاديثه الى موسكو حتما : وفي عام 1973 رفض السادات استقبال رئيس الدولة السوفيتية بذريعة أراد نفسه ان تكون مضحكة وان يظهرها للروس كما طلب ان يأتي الى القاهرة رئيس لجنة أمن الدولة السوفيتي كما لو انه يجب ان يقدم تقريره اليه وهلمجرا ، وبضمن ذلك بث الاشاعات بين فترة وأخرى بصدد رغبته في إلغاء معاهدة الصداقة السوفيتية – المصرية، وخلق المضايقات للسفن الحربية السوفيتية في الاسكندرية. وكذلك نشر افراد حاشيته المقربون بإيعاز منه مقالات معادية للسوفيت وغير ذلك.
كان السادات واثقا بأن الاتحاد السوفيتي يهتم باقامة علاقات طيبة مع مصر ، أكثر من إهتمام مصر بإقامتها مع الاتحاد السوفيتي . ومعنى ذلك انه قرر خياره في الجهة التي ينضم اليها. وحتى ذلك الحين يمكن الاستفادة من الاتحاد السوفيتي قدر الامكان.
كما لم يكن السادات يتمتع بمكانة في الغرب ، ولوحظ ذلك من سلوك البلدان حياله. وكانت البلاد الوحيدة التي غالبا ما تخاطبه وبكل احترام هي الولايات المتحدة وقادتها. وعندما اعلن هنري كيسنجر وزير الخارجية الامريكي الجديد بصراحة ان الهدف الرئيسي لسياسة الولايات المتحدة في الشرق الاوسط هي ابعاد الاتحاد السوفيتي من هذه المنطقة ، شعر السادات ان هناك قوة واحدة فقط يمكن ان تساعده في البقاء في السلطة. انها ليست ممثلة بالكادحين في مصر والبلدان العربية الاخرى – بل انها قادة الولايات المتحدة. فهم وحدهم يتمتعون بالامكانية ما اذا ارادوا في الضغط على اسرائيل. ولا ينتظر ذلك من الروس ، وهم انفسهم اعترفوا أكثر من مرة ، بأنه لا تتوفر لديهم الوسائل لآجبار اسرائيل على تغيير سياستها. انهم كانوا يعنفون الولايات المتحدة بهمة مشيرين الى ان سياسة الولايات المتحدة بالذات تحول دون احلال السلام العادل في الشرق الاوسط : لأن الولايات المتحدة تتمتع بالامكانية لممارسة الضغوط على اسرائيل ، لكنها لا تريد ذلك. ومعنى ذلك ان الروس يعترفون بان الولايات المتحدة قادرة على الضغط على اسرائيل ، أي مساعدة السادات.
ويتبقى أمل واحد هو اقامة العلاقات مع الولايات المتحدة.بيد ان سمعة الولايات المتحدة مشينة في العالم بأسره ، ناهيك عن منطقة الشرق الاوسط. وقد وجه السادات نفسه اللعنات أكثر من مرة الى الامبريالية الامريكية. اذن ما العمل اذا لا يوجد مخرج آخر؟ ألا يمكن عقد صفقة والتوصل الى حل وسط مع العدو ؟..أي الولايات المتحدة – يجب امعان الفكر في هذه المسألة. وبرأي السادات ان الولايات المتحدة ليست عدوا سياسيا ، بل انها فقط احدى ” الدولتين الاعظم” التي تكافح من اجل السيطرة على العالم. وبرأيه ان الاتحاد السوفيتي لا يختلف عن الولايات المتحدة في شئ من هذه الناحية. تلك هي فلسفة النزعة القومية البرجوازية.
يجب من اجل اقامة علاقات مع الولايات المتحدة التخلي عن العلاقات الوثيقة مع الاتحاد السوفيتي. وقد ادرك السادات ذلك منذ وقت بعيد. وقد عمل كل شئ من أجل ذلك. وفي هذا المضمار كان كل شئ جاهزا. والامريكيون يعرفون ذلك. انهم يرون ما يجري في مصر ، ويتلقون الرسائل من السادات.
كان السادات بحاجة فقط الى ذريعة جيدة جدا من اجل القيام بالانعطاف السافر. الذريعة التي تكون مقنعة لشعبه ولحكام الاقطار العربية الاخرى وشعوبها ، لأنه يجب ان يعاد تكوين هالة حول رئيس مصر باعتباره زعيم الأمة العربية بأسرها.
وهكذا أتخذ القرار: يجب تعديل مكانته المتزعزعة ( والتي كان الشعب يتحدث عنها بصراحة) في داخل البلاد وفي الخارج بمعونة الولايات المتحدة. لكن يجب القيام بذلك بواسطة تظاهرة علنية ، امام سمع وبصر الجميع ، وبغية صعود المنصة ، وبعبارة مجازية ” المجئ على صهوة جواد”.
ماذا يمكن القيام به لهذا الغرض من العمليات العسكرية؟ فقد قال الرئيس نفسه مرة في نوبة صراحة غير مفهومة ( او ثرثرة؟): ” اذا ما تم تحرير الاراضي العربية بدون حرب ، ولو بدون حرب صغيرة ، فسيكون ذلك أسوأ من مواصلة احتلال العدو للأرض”.
ومعنى ذلك لا بد من خوض العمليات العسكرية. كلا ، ليس الحرب ، بل العمليات التي لن تقود الى الهزيمة ، بل تساعد على حفظ الكرامة. لكن من يعرف كيف سيكون سلوك الاسرائيليين ؟ اذ يمكن ان يوجهوا ضربة جوابية عنيفة تعادل الهزيمة. من هنا يستخلص الاستنتاج التالي: يجب العمل على ألا يحدث ذلك. ولا يمكن بلوغ ذلك إلا عبر الامريكيين.
اذن كانت خطة العمل واضحة بالنسبة للسادات. يجب خوض العمليات العسكرية ، وهي ستساعد على ” تخفيف الضغط” في داخل الجيش. ويجب ان تظهر قدرات القوات المسلحة المصرية، ويقصد بذلك طبعا اظهاره نفسه بصفته القائد الاعلى ( اذ يكسب الحروب دائما القادة الكبار) من خير وجه. ويجب ألا يراد من هذه العمليات تحقيق نصر كبير ، فلا حاجة اليه ، با انه حتى غير ممكن – اذ يقول الجميع ان القوات المسلحة المصرية مجهزة بأسلحة سوفيتية من نوعية غير جيدة. طبعا ان الاتحاد السوفيتي سيدعو صارخا مجددا الى السلام وسيعمل كل ما في وسعه من أجل ايقاف اطلاق النار ( اذ ليس من مصلحتهم – أي السوفيت-الدخول في مواجهة مع الولايات المتحدة ). واذا فضح الاتحاد السوفيتي نفسه فسيكون من الاسهل بالنسبة له اقامة العلاقات لاحقا مع الامريكيين ، اذ سيكون مطلق اليدين و حرا في العمل. وسيلقى اللوم في جميع الاخفاقات والهزائم العسكرية وغيرها على السلاح السوفيتي السئ، وقلة الارساليات والموقف السياسي للأتحاد السوفيتي الذي يمكن اتهامه بأنه انتزع النصر من ايدي العرب.( بالمناسبة ان هذا ما قاله الرئيس المصري للسفير السوفيتي في سياق العمليات العسكرية :”انتم تريدون انتزاع النصر من أيدي العرب !”. ولكنه استطرد قائلا :” لقد تبين للعرب بوضوح احتمال تكبدهم هزيمة عسكرية ساحقة لا نظير لها. مع هذا ان استخدام السادات لهذه العبارة له دلالته).
لهذا وضعت أمام القوات مهمة الحد الأدنى وهي عبور قناة السويس والاستيلاء على رأس جسر – لا يهم كم ستكون مقاييسه- والاحتفاظ به اطول فترة ممكنة بغية بدء اللعبة السياسية .. بمعونة الامريكيين. ووجب استدعاؤهم الى الشرق الاوسط.
الولايات المتحدة
لقد ابعدت رياح حركة التحر الوطني الولايات المتحدة عن الشرق الاوسط ، لكن هذه المنطقة هامة جدا بالنسبة لها : فهناك أضخم احتياطيات للنفط في العالم ، وفيها قناة السويس الاستراتيجية ، كما توجد هناك المشارف الجنوبية القريبة من الاتحاد السوفيتي ، ويوجد هناك أسوأ شئ – الا هو مركز الصراع ضد الاستعمار والامبريالية ، ولذلك فان نفوذ الاتحاد السوفيتي السياسي هناك كبير جدا. وتوجد هناك اسرائيل – القلعة الامامية للولايات المتحدة ، والتي تبقى على مدى أكثر من خمسة وعشرين عاما في حالة فزع مما يترك انطباعا بالغا لدى العرب ، والاعتماد على القوة ، حقا يجب تعزيزها. ينبغي دعم اسرائيل ، وينبغي الحفاظ عليها حتى لدى اتباعها النهج السياسي الذي تتبعه حاليا – رفض اية ” تصرفات يسارية ” ، ويجب التمسك بالعنصرية الخالصة اي الصهيونية. علما بأنه لابد من ملاحظة ان الدول العربية تتطور وتغدو أقوى يوما بعد يوم ، ولا تفتر عزيمتها في تحرير الاراضي التي احتلتها اسرائيل ، ومع تناميها تزداد قوتها فحسب . وبفضل الاتحاد السوفيتي اصبحت قوتها العسكرية أكبر ، اما عدد نفوس اسرائيل فلا يمكن مقارنته بالدول العربية المجاورة.
يجب على اسرائيل ابداء مرونة أكبر. ان سياستها متشددة وفظة ، وهي تسئ الى سمعة صديقتها وحاميتها – الولايات المتحدة ، وتعرقل مساعي امريكا في اقامة العلاقات مع البلدان العربية. ومعنى ذلك تنبثق لدى الولايات المتحدة مهمة مزدوجة حيال اسرائيل – هي عمل كل ما يمكن من اجل الحفاظ على دورها كسند لها ، والعمل على تخفيف عجرفتها قليلا ، وارغام الاسرائيليين على التنازل قليلا خدمة لمصلحتهم انفسهم من اجل المحافظة على الشئ الرئيسي. فكيف يتم ذلك ؟
يجب الحصول على امكانية ” انقاذ” اسرائيل ، حين تواجه المصاعب ، لكن يجب “انقاذها” بصورة دراماتيكية وجلية للعيان ، بغية ان يرى ذلك في اسرائيل وان يظهر بصورة منطقية بالنسبة للعرب – فهم اعتادوا على اعتبار ان الولايات المتحدة تقف الى جانب اسرائيل في كافة الاحوال. وفي الوقت نفسه يجب ان يبين للاسرائيليين إنهم يجب أان يقدموا شيئا من التازلات وبهذا يتولد انطباع مؤثر لدى العرب بغية ان تنتشر الاشعات حول ” تغير” موقف الولايات المتحدة من الدول العربية. ومن هنا يبرز الحل المحتمل : يجب منح العرب امكانية توجيه الضربات الى اسرائيل – ضربات غير عنيفة بإسلوب يتم التحكم به أن جاز القول : التضحية ب ” عدد ما ” من الاسرائيليين من اجل ” إنقاذ ” اسرائيل لاحقا.
ومعنى ذلك ان المعلومات التي وردت الى الامريكيين عبر المخابرات حول الاستعدادات العسكرية في مصر اتاحت لهم فرصة إقامة ‘تصال مع السادات ، والتلميح له بان الولايات المتحدة موافقة على العمليات العسكرية – طبعا اذا لا تجاوزت الاطر اللازمة. وهذا سيساعد الولايات المتحدة على ” ادارة وجهها نحو مصر” ، ويبرر افعال الحكومة الامريكية امام الرأي العام.
ولربما ان الولايات المتحدة قد ألمحت الى السادات بأنها لاتعارض البتة في شن عمليات عسكرية ” محدودة”.
ولسخرية القدر ان ما حدث هو ان الولايات المتحدة علمت بالتحضير للعمليات العسكرية ، اما الاتحاد السوفيتي حامي مصالح العرب فلم يعلم شيئا من ذلك.
اسرائيل
لا تسطيع الفئة الحاكمة في اسرائيل الإمتناع عن مساعدة حاميتها الرئيسية وولية نعمتها – الولايات المتحدة الامريكية. ولو تصورنا للحظة وجود اسرائيل بدون الدعم الامريكي الكامل ، بالاخص في المجالين العسكري والاقتصادي ، فأنه يتضح للجميع ان الدول العربية ستقضي على اسرائيل في لحظة خاطفة – مهما كانت سياستها. علما ان الولايات المتحدة بحاجة الى ان يكون الوضع في الشرق الاوسط اكثر استقرارا. وليس لديها من صديق آخر فيما عدا اسرائيل سوى الملك فيصل. وهذا قليل. يجب ان يتوطد نفوذ الولايات المتحدة في البلدان العربية ، على أقل تقدير الكبيرة منها ، التي تهدد اسرائيل ، وعندئذ يمكن التعويل على ان تراقب الولايات المتحدة افعالها. والشئ الرئيسي هو انه في حالة دخول الولايات المتحدة الى الشرق الاوسط فمعنى ذلك تقلص نفوذ الاتحاد السوفيتي فيه. فكل شئ يستثني الآخر. وسيعني ذلك تقلص الايديولجية التقدمية ، وتحول الانظمة الداخلية بإتجاه اقامة دول رأسمالية عادية الطراز. والرأسمالي يجد لغة مشتركة مع الرآسمالي دائما بشكل أسرع : فالنقود عديمة الرائحة ولا تفرق بين الناس طبقا للون البشرة او المعتقدات.
اذن ان تقوية نفوذ الولايات المتحدة في العالم العربي مفيد لاسرائيل. اذن يجب مساعدة الامريكيين فهذا في مصلحة اسرائيل نفسها. لكن كيف يتم ذلك؟
قبل كل شئ يجب البحث عن الحلقة الاضعف. وتعتبر مصر بلا جدال هذه الحلقة في العالم العربي. ويعرف الجميع موقف السادات من الحركة التقدمية في داخل البلاد وبشكل خاص حيال الاتحاد السوفيتي. بالاضافة الى كونها اكبر دولة عربية. اما سورية فيمكن ان تتم المحاولة للتخلص منها بطريقة عسكرية، فالفرص عندئذ طيبة.
هل يستعد السادات للحرب ؟ حسنا. كيف يمكن ان يقاتل؟ فقط بعبور قناة السويس . هل تحتاج اسرائيل من وجهة النظر الاستراتيجية الى خط دفاع طويل على امتداد قناة السويس كلها؟ انه لا ينفع. والأفضل بكثير اقامة الدفاع بنقاط حيوية صغيرة – مثلا في ممري متلا والجدي الجبليين في شبه جزيرة سيناء. ففي حرب عام 1967 أصر كثيرون ، ومنهم موشى دايان ، على الانسحاب من القناة واقامة خط الدفاع في هذين الممرين. لكن انتصرت يومذاك الاعتبارات السياسية. اذن فخط الدفاع على القناة لا يعتبر مكانا مباركا. وفي أغلب الظن ولدت بالاشتراك مع الامريكيين فكرة احتمال الانسحاب لدى الضرورة من خط الدفاع على امتداد القناة. طبعا ان هذا سيتم في أسوأ الاحوال ، لكن يجب القتال ، فلا يسلم الخط بلا قتال.
أما فيما يتعلق الأمر بسورية فأن المسألة اكثر صعوبة. ان المسافات هناك قصيرة وقد يزحف السوريون الى الوديان في داخل اسرائيل نفسها. وهنا لا يمكن التنازل عن شئ. هنا يجب العمل في الاتجاه المعاكس مباشرة – يجب استغلال الفرصة السانحة وتفتيت القوات المسلحة السورية بغية ألا تستطيع الصمود.
ولهذا وجهت القيادة العليا الاسرائيلية جميع القوات الى الحدود مع سورية ، في اغلب الظن انها تلقت معلومات حول تحشد القوات المصرية والوسرية بشكل منقطع النظير ، ولم ترسل اية تعزيزات الى سيناء وقناة السويس حيث تقدمت قوات مصرية ضخمة وبقدر أكبر . ووجب على الجنود الاسرائيليين في سيناء القيام بدورهم في المسرحية السياسية – دور المعذبين الذين حكم عليهم بالهلاك مسبقا.
الاتحاد السوفيتي
لقد كان استئناف العمليات العسكرية في الشرق الاوسط فعلا امرا غير مرغوب فيه كليا بالنسبة الى الاتحاد السوفيتي.ولو انطلاقا من انها لم تكن محاولة نزيهة من مصر لاستعادة الاراضي العربية التي احتلتها اسرائيل. علاوة على ذلك فان العمليات العسكرية بحكم طابعها كانت دوما غير معروفة النتائج . انها الوسيلة القصوى وغير المرغوب فيها جدا. بالاخص ان احتمال هزيمة الجيوش العربية كان كبيرا جدا لاسيما بعد سحب الخبراء العسكريين السوفيت.
لكن ما دامت العمليات العسكرية قد بدأت يجب تحديد الموقف. ولم يكن ذلك أمرا عسيرا. نعم استجاب الاتحاد السوفيتي الى رغبة الاسد قبل بدء العمليات العسكرية بأن يطرح الاتحاد السوفيتي بعد بدء العمليات العسكرية مبادرة ايقاف اطلاق النار وبقاء القوات في المواقع التي تشغلها.
ودعا الاتحاد السوفيتي مصر وسورية ، الى جانب تقديمه مساعدات عسكرية عاجلة بكميات ضخمة ، الى ايقاف اطلاق النا ر ، بينما كان ذلك في ذلك الوقت غير نافع بالنسبة الى مصر وسورية. فقد حقق العرب نجاحات عسكرية كبيرة وغير متوقعة في الايام الاولى : اذ تم عبور القناة في جبهة واسعة واستعاد السوريون مرتفعات الجولان وفي بعض الاماكن بلغوا حدود عام 1967 . لكن السادات ابدى العناد والاصرار. لماذا ؟
يمكن الافتراض بان لعبة السادات احبطت منذ البداية . وسارت جميع الامور في مسار غير مقرر.
ووقف الاتحاد السوفيتي بحزم الى جانب الدول العربية ليس سياسيا فقط بل بإرسال احدث المعدات العسكرية. وفي الواقع انه غامر بالدخول في مواجهة مع الولايات المتحدة. ولكن السادات لم يضع هذا في حسابه ابدا.
والضربة الاخرى هي ان السلاح السوفيتي الذي كان لدى الجنود والضباط المصريين كان كما تبين عالي الكفاءة. وكان أفضل من السلاح الامريكي الموجود لدى الاسرائيليين.
وثمة ضربة أخرى هي ان تدريب القوات الذي جرى ايامذاك تحت اشراف المستشارين والخبراء السوفيت بموجب طرق التدريب القتالي السوفيتية كانت تتفوق في حالات كثيرة على كفاءة تدريب الاسرائيليين. تضاف الى ذلك الروح المعنوية العالية للجنود والضباط المصريين. وكان هذا كله شيئا غير متوقع.
لقد عبرت القوات المصرية القناة في الوقت المحدد وفي فترة أقصر لحد ما مما كان مخططا له.اما الخسائر فكانت بنسبة 10 بالمائة من الافراد بينما كان من المتوقع ان يبلغ الثلث. وانتصر العرب على الاسرائيليين. وكان هذا نبأ رائعا لدى السادات ، كما كان في الوقت نفسه نبأ سيئا: فقد انهارت خطط اللعبة. فماذا سيعمل الامريكيون ؟ وكيف سيكون دورهم ؟ ان السادات تجاوز قواعد اللعبة التي حددها لنفسه ، ومارس دوره جيدا جدا فيها.
ولهذا أوقفت القوات المصرية زحفها بعد عبور القناة. انها وقفت فحسب على مسافة 3-5 كيلومترات عن القناة – ولم تتوفر الخطط العسكرية لما يجب عمله لاحقا. كما لم تكن امامها قوات اسرائيلية ، لأن القوات الرئيسية الاسرائيلية كانت على الجبهة السورية.
وصار السادات ينتظر مجئ القوات الاسرائيلية! شئ غريب ، لكنه واقع . وقال السادات الحقيقة تقريبا :… قال الحقيقة للاتحاد السوفيتي.. وتوقف وانتظر، حدث هذا في الحرب التي تلقى فيها السوريون ضربة الجيش الاسرائيلي كله.
لم يقبل السادات اية نصائح : بشأن ايقاف اطلاق النار او مساعدة السوريين. كان ينتظر لأنه وجب ان يعطي الفرصة الى الامريكيين للانخراط في اللعبة ، بعد ان انتهكت جميع الخطط.
اما الولايات المتحدة فأنها خلال اسبوع تقريبا لم تقدم اية مساعدة عسكرية تذكر الى اسرائيل : فقد حدث اختلال في قواعد اللعبة لديهم أيضا. ولم يكن يشغل بالهم مصرع الاسرائيليين على القناة ، فقد كان هذا ” ضمن الخطة”.
لكن سرعان ما أتضح شئ آخر. فقد تكبد الجيش الاسرائيلي خسائر فادحة في الافراد والمعدات على الجبهة السورية. كما ان خسائر اسرائيل على الجبهة المصرية – لاسيما في المعدات الغالية الثمن – كانت كبيرة للغاية : اذ كانت الصواريخ السوفيتية المضادة للطائرات والدبابات تصيب اهدافها بدقة. وبلغت الخسائر فى الدبابابت عدة مئات وفي الطائرات – العشرات. وهذا كله لم يكن مدرجا في الخطة. وهكذا تحولت العملية العسكرية ” المحدودة” ، المتفق عليها مع السادات، الى ترف غالي الثمن ، كما كانت تهدد بفشل اللعبة كلها ، أي هزيمة اسرائيل – أحد اللاعبين الرئيسيين فيها.
لقد اضحت الولايات المتحدة من الناحية السياسية في حالة عزلة تقريبا، بالرغم من ان الجميع كانوا يعرفون ان العرب بدأوا الحرب. ولم يتراجع الاتحاد السوفيتي عن مواقفه ، وابدى الصلابة ، بالرغم من انه اقترح على الامريكيين القايم بأعمال مشتركة من أجل احلال السلام الحقيقي أي العادل في الشرق الاوسط.
وأضطر الامريكيون ، لو بصورة متأخرة ، الى فتح جبهة واسعة من الارساليات العسكرية الى اسرائيل المؤلفة من المعدات وحتى مع العسكريين الامريكيين.
كما ان القيادة العسكرية والقيادة السياسية في اسرائيل أصابها القلق من نتائج الايام الاولى للعمليات القتالية التي جرت بشكل يختلف تماما عما كان مقررا. فقد كانت القوى كلها موجهة ضد سورية لكن الخسائر الطبيعية كانت جسيمة ، واصبح كل كيلومتر بمثابة كابوس. حقا ان السادات انقذ الوضع: اذ اوقف قواته ولم يتقدم، بالرغم من انه كان بالمستطاع نقل جميع القوات الى سورية. وبدأ وصول طائرات ودبابات ومروحيات ووسائل توجيه امريكية جديدة الى اسرائيل. ورفع الحظر عن قصف دمشق واللاذقية. وسرعان ما تراءت امكانية تحقيق النصر التام بالاستيلاء على دمشق . وكان هذا النصر ثقيلا ، وكان الافضل ألا يحدث. وتراجع السوريون لكن لم يلحق قواتهم الدمار ، وعوضت المعدات العسكرية السوفيتية مكان المدمرة – اذ كان هدف اسرائيل هو تدمير سورية التام من الناحية العسكرية. لكن هذا لم يتحقق.
وعندما بدا ان من الواجب القيام بهجوم آخر وستسقط دمشق أوقف الاسرائيليون الهجوم. ولم يحدث هذا برغبتهم فحسب. فقد اضطروا الى ايقافه بسبب الصعوبات وربما ورد الأمر بأن الاستيلاء على دمشق سيجعل من الصعب تنفيذ لعبة الامريكيين الرامية الى كسب ثقة العرب. فمن سيتحدث الامريكيون معهم اذا ما سمحوا للاسرائيليين بالاستيلاء على دمشق ؟
كما ان السوريين لم يكونوا قادرين على الهجوم على اسرائيل – وهذا يكفي. الآن يجب معاقبة السادات – فقد ظهر ان جيشه ذا فعالية قوية جدا ، والشئ الرئيسي انه في هذه الايام لم يبتعد عن الاتحاد السوفيتي بل إلتصق به كما يبدو: فليس من العبث ان ارسلوا له السلاح عبر جسر جوي. والارساليات بواسطة البحر؟ هل انها بقيت بعيدة عن الانظار. فلم تدخل وتخرج من الاسكندرية الميناء المصري الوحيد على ساحل البحر الابيض المتوسط سوى السفن السوفيتية. ولا يتطلب الأمر ان يكون المرء رجل مخابرات محنكا – ويكفي استئجار رصيفين في الميناء لرصد ، ولو بصورة تقريبية ، ما تحمله هذه السفن وعدد العسكريين الذين ينزلون الى البر. ان تدخل الاتحاد السوفيتي قد أفسد اللعبة كلها، وقرر السادات الاستفادة من الطرفين وحلب بقرتين.
توقف الهجوم الاسرائيلي على سورية وزحفت القوات بصورة عاجلة نحو الجنوب ، الى سيناء ، حيث كان السادات ينتظرها على أحر من الجمر.
وماذا عن موقف الملك حسين ؟ ألم يكن باستطاعة الاردن سد هذا الطريق غير المحصن من الشمال الى الجنوب؟ طبعا كان يستطيع ذلك. وقد طرح هذا السؤال على السادات. فـأجاب ان دخول الاردن الحرب لم يكن مناسبا لأنه كان سيمني بالهزيمة حسب زعمه. علما انه لم يكن مطلوبا من الحسين عمل أي شئ على الاخص سوى سد الطريق. لكن هذا لم يدخل في خطط لعبة الامريكيين والسادات . وهكذا تدفقت القوات الاسرائيلية نحو الجنوب دون ان يعترضها أحد.
ان عبور القوات الاسرائيلية الى الضفة الغربية للقناة يعتبر من اكثر الجوانب غموضا في هذه العمليات العسكرية. فما حدث هناك هو أحد أمرين: اما عدم كفاءة المصريين عسكريا بشكل يبعث على الدهشة ، وهو أمر يمكن تقبله لكن بصعوبة ، واما انها عملية مدبرة ، وهو امر يصعب تصديقه ، لكنه محتمل.
على أي حال تجذب الانظار رحابة الصدر العجيبة وحتى لا مبالاة الرئيس حيال واقع تسلل الدبابات الاسرائيلية عبر القناة. فقد أجاب عن الاسئلة حين عبرت القناة خمس دبابات فحسب بقوله: ليس في هذا أي خطر ، انها عملية “سياسية”(؟). وحتى عندما تشكل على الضفة الغربية رأس جسر اسرائيلي كبير لم يكف السادات عن تكرار ان هذه المجموعة من القوات لا قيمة لها من الناحية العسكرية !
ان التدابير التي اتخذت من أجل تصفية الثغرة تبعث على السخرية فحسب ، ولم يرغب الرئيس في الاصغاء الى النصائح الواردة من موسكو . وبدا كما لو انه سمح للأسرائيليين عن قصد بالتوغل في افريقيا. وفي أغلب الظن ان هذا بدا غريبا حتى بالنسبة الى الاسرائيليين أنفسهم – على اي حال هذا ما كتبه شهود العيان.
لماذا لم يوقف الامريكيون الاسرائيليين؟ ان الجواب يكمن في رغبتهم في الحصول على أداة للضغط على السادات الذي وفر لهم الفرصة للظهور بمظهر صانعي السلام ومنقذي مصر ، واستغلال الفرصة لحلب بقرتين هما مصر واسرائيل. فقد جرى حتى ذك الحين خرق جميع الخطط ، واضطرت الولايات المتحدة بحكم الظروف وبدون ارادتها الى الغلو في ممارسة دور منقذ اسرائيل أيضا!
لكن تدخل الاتحاد السوفيتي خلط الاوراق مجددا. فقد استطاع الاتحاد السوفيتي بطلب من السادات الذي رأى ان الامريكيين خدعوه الآن من التوصل الى ايقاف اطلاق النار مع بقاء القوات في المواقع التي ترابط فيها. وواصل الاسرائيليون بموافقة الامريكيين بجلاء انتهاك قرار مجلس الامن الدولي وواصلوا هجومهم على قناة السويس سعيا الى عزل الجيش الثالث المصري الموجود في الجناح الجنوبي لسيناء.
ولم ينقذ مصر سوى الموقف الحازم للأتحاد السوفيتي الذي اعلن بطلب من السادات استعداده لأرسال قوات الى الشرق الاوسط من جانب واحد اذا لم ترغب الولايات المتحدة بالعمل المشترك.
وفيما يخص الاتحاد السوفيتي فان العمليات العسكرية المفاجئة في الشرق الاوسط منحته الفرصة لكي يحرك قدما الى الامام قضية تسوية أزمة الشرق الاوسط بالوسائل السياسية. ولهذا اعتبر القرار حول عقد مؤتمر جنيف للسلام في الشرق الاوسط انجازا كبيرا لجميع المهتمين فعلا بتسوية الازمة الخطرة في هذه المنطقة من الكرة الارضية ، واجراء التسوية بالوسائل السلمية.
بيد ان هذا لم يكن مخطط الولايات المتحدة واسرائيل والسادات. وكان كل طرف كما نرى يصبو الى تحقيق اهداف مختلفة تماما بعيدة عن الرغبة في تسوية النزاع لصالح شعوب هذه المنطقة. �
بيد ان هذا لم يكن مخطط الولايات المتحدة واسرائيل والسادات. وكان كل طرف كما نرى يصبو الى تحقيق اهداف مختلفة تماما بعيدة عن الرغبة في تسوية النزاع لصالح شعوب هذه المنطقة. ولهذا تبدو مفهومة تماما الخطوات التالية لهذه البلدان الرامية الى احباط انعقاد المؤتمر.
أذن .. النتيجة
لقد ” انقذت” الولايات المتحدة مصر بتصفية ثغرة الدسرفوار في الضفة الغربية للقناة.
أعطت الولايات المتحدة الفرصة الى اسرائيل( بمعونة السادات) لتوجيه ضربة عسكرية قوية الى سورية.
ضمنت الولايات المتحدة أمن اسرائيل بعقد اتفاقيات فصل القوات مع مصر وسورية ، حيث استحدثت مناطق ترابط فيها القوات الدولية واتخذت إلتزامات جديدة بشأن وقف اطلاق النار.
عوضت الولايات المتحدة اسرائيل عن جميع خسائرها في الحرب (بلا ريب ان الخسائر بالافراد والمعدات لا تعني شيئا بالنسبة الى الولايات المتحدة ).
دخلت الولايات المتحدة الشرق الاوسط بمساعدة السادات في محاولة لاظهار انها صانع السلام الوحيد في هذه المنطقة.
شن السادات ثمنا لهذه الخدمات حملة ضد السوفيت هدفها التشهير بالاتحاد السوفيت وبكل من يرتبط معه. علما ان هذا كان ايضا احد الاهداف الرئيسية للولايات المتحدة.
توطدت مواقع السادات في الاشهر الاولى بعد حرب اكتوبر في داخل البلاد على موجة ” الانتصارات”.
شغلت مصر في الاسابيع الاولى بعد الحرب عن حق موقعا قياديا بين الدول العربية.
بدا ان جميع الاهداف الموضوعة قد تحققت. فهل ان الأمر كذلك؟
ان هذه كلها ظواهر مؤقتة . فبعد مضي عام …
ماذا حدث لاحقا؟
اهتزت مواقع السادات مجددا في داخل البلاد بسبب التوجه الكامل نحو الولايات المتحدة ، كما لم يطرأ تحسن على الوضع الاقتصادي ، وما كان بوسعه ان يتحسن في وجود مثل هؤلاء الحكام. وبدأت المظاهرات – بدا وكأنها ذات طابع اقتصادي ، لكنها ذات سمة سياسية.والجدير بالذكر ان السادات بدأ مجددا بإعتقال اليساريين. وهذه علامة غير طيبة بالنسبة له.
تراجعت مكانة مصر مجددا. وصارت اللعنات توجه الى السادات في سورية وفي الجزائر ولدى الفلسطينيين ومن جانب القذافي. بينما كان الملك فيصل بن عبدالعزيز الوحيد الذي ابدى رضاه. كما ربطت اواصر المودة بين شاه ايران والسادات . وهذا فقط. ان هذه الانجازات في مجال السياسة الخارجية متواضعة.
وماذا بعد ؟
هل ستنشب حرب جديدة ؟ بتواطؤ او بدونه؟.
يناير (كانون الثاني) 1975
زرت الاردن بمهمة رسمية في مارس(آذار) عام 1975 . ودعاني ابوزيد الرفاعي رئيس الوزراء لتناول طعام الفطور في بيته. وكان هناك ايضا عبدالمنعم الرفاعي عم رئيس الوزراء عضو مجلس الاعيان وحسن ابراهيم وزير الدولة للشؤون الخارجية الامين العام لوزارة الخارجية وكذلك السفير الكسي ليونيدوفيتش فورونين وشريكي ساشا كالوغين السكرتير الثالث في السفارة.
وفجأة سأل ابو زيد الرفاعي :” أتعرف ان الرئيس السوري حافظ الاسد على ثقة بأن عبور الاسرائيليين الى الضفة الغربية لقناة السويس في اثناء العمليات العسكرية في عام 1973 قد جرى بموافقة السادات ؟”.
فأصابتني غصة في حلقي وبحلقت في رئيس الوزراء. فما معنى ذلك ، هل انهم قرأوا افكاري؟ وأبديت دهشتي ، بل حتى نفيت بشكل قاطع مثل هذه الفكرة ، الا انني سألت الرفاعي:” غير مفهوم ، أمر عجيب – وحتى اذا قبلنا بهذا الاحتمال ، فما حاجة السادات الى ذلك؟”.
وأعاد الرفاعي السؤال:” كيف لماذا ؟ ان الأسد على ثقة بأن هذا ما جرى فعلا. اما السبب فهو انه كانت ثمة حاجة لاعطاء الفرصة الى كيسنجر من أجل ” التدخل” ، ومنحه الحجة لتنفيذ خطته البعيدة المدى ” لفصل القوات ودخول الولايات المتحدة الى الشرق الاوسط”.
لم أجبه ولم أواصل الحديث حول هذا الموضوع…
وذكر الرفاعي شيئا آخر. فقد كان الاردن يعرف فعلا بقرار مصر وسورية حول بدء العمليات العسكرية لكنه لم يعرف موعد بدئها بدقة. اما الدور العسكري الذي أعطي الى الاردن فهو عدم التحرك وتحشيد القوات على التلال المشرفة على وادي نهر الاردن – من الجهة المعاكسة فقط. ووجب ان يغطي الاردن الجناح الايسر لسورية.
عندما بدأت العمليات العسكرية وظهرت بوادر النجاح غير المتوقع اقترح الملك حسين على مصر وسورية فورا بدء العمليات العسكرية حالما تبلغ القوات المصرية الممرات في سيناء ، بينما تسيطر القوات السورية على مرتفعات الجولان. وأعطى الرئيس السوري موافقته على ذلك فورا. اما السادات فأنه كان يرسل يوميا برقيات تدعو الاردن الى عدم التحرك. وحسب اقوال الملك حسين فأنه كان يرجو الاردنيين عدم التحرك ويبرهن على بكل السبل على ان احتلال اسرائيل ولو ” شبر واحد” من الضفة الشرقية سيترك اثرا سلبيا أكثر من احتلال سيناء كلها. وقال لي الملك حسين ان الاردن لم يتحرك طبعا بسبب رد الفعل ذاك ، وكما اظهرت الاحداث انه عمل بشكل صائب. والاردنيون يرتابون ايضا في ان السادات كان يمارس لعبة قذرة.
وقال الاسد في حديث مع الرفاعي انه لن يسمح بأن “تستغل” مصر سورية مرة أخرى ، كما فعلت حين بدأت العمليات القتالية ومن ثم اوقفت اطلاق النار بدون الاتفاق مع سورية ، ومن ثم في عقد مؤتمر جنيف والخروج منه ، وبعد ذلك بدء المفاوضات المباشرة مع اسرائيل بوساطة امريكية وهلمجرا. اذن ذلك هو تقييم الوضع. انه يتفق مع تفكيري ..
وعموما ، لماذا توفي المشير احمد اسماعيل علي ؟ فهو الشخص الوحيد الذي كان يعرف خلفيات الاحداث كلها. لماذا ؟ أو كيف ؟
* * *
لقد ابلغني محيي الدينوف سفيرنا في سورية ان الرئيس السوري حافظ الاسد قال له في 12 أكتوبر (تشرين الاول) حين أوقفت القوات المصرية التي عبرت الى الضفة الشرقية لقناة السويس العمليات القتالية فجأة، انه على ثقة بأن افعال السادات كانت مقصودة ، ووصفها بانها خيانة لسورية.