حذو النعل بالنعل
تحرير العقل الإسلامي
من يشاهد أفعال المسلمين، خاصةً الإخوان المسلمين، في مصر وليبيا والسودان وباكستان ونيجيريا والصومال لا يسعه إلا أن يتحسر على ما وصل إليه الانحطاط الفكري والعقدي في بلاد المسلمين. ومن يسمع أقوال فقهاء الأزهر وقُم ومملكة الشيطان الوهابية يقتنع أن الأجيال القادمة من المسلمين محكوم عليها بالسير إلى الوراء نحو مقابر السلف التالف لأن مناهج تعليمهم يسيطر عليها جهلاء الأمة الذين يزعمون أنهم “علماء الأمة”
ولكن كما قال الفيلسوف الفرنسي أميل زولا “لا حياة مع اليأس ولا يأس مع الحياة”. ولهذا نتمسك بخيوط ضعيفة من الأمل، كي لا يصيبنا القنوط ونحن أحياء، بأن الصحوة الفكرية سوف تنشط يوماً في عالمنا الإسلامي ونصل إلى ما وصلت إليه أوربا من التحرر الفكري. المؤسف في الأمر أن التغيير في العالم العربي والإسلامي ما زال يسير بخطى سفينة الصحراء المشهورة، بينما العالم حولنا قد سافر بالكونكورد التي تفوق سرعتها سرعة الصوت، وما زلنا نقرأ أن المسافة بين طبقات السماوات تقدر بمسيرة 500 عامٍ لراكب البعير
أوربا مرت بمراحل مشابهة لوضعنا الحالي منذ أن اعتنق الامبراطور قسطنطين المسيحية حوالي عام 300 للميلاد وسيطرت الكنيسة الكاثوليكية، عن طريق البابا، على مفاصل الحياة فيها وأصبح البابا هو ممثل الله على الأرض، ودخلت أوربا إلى عالم الظلام والانحطاط الفكري. استمر الوضع في أوربا في تدهوره الفكري حتى بداية القرن السادس عشر الميلادي عندما بدأ الفلاسفة التنويريون حركة النهضة الفكرية التي تُعرف باسم (رينيسانس)
Renaissance
. وقد بدأت الحركة في عرين الأسد، إيطاليا، حيث كان الفاتيكان يجثم على الفكر المسيحي. بدأ بعض الرجال المفكرين، وأغلبهم كانوا قساوسة، بدأوا يتشككون في التعاليم الكاثوليكية وكتبوا ودرّسوا شكوكهم لتلاميذهم ودفعوا ثمناً غالياً على هذه الجرأة في نقد تعاليم الكنيسة. فمثلاً جوردانو برونو الذي بدأ حياته قسيساً في معبد لجماعة الدومينكان (اسمهم يعني كلاب الرب) في عام 1572 وصل به الحال أن قال إن معجزات موسى ما هي إلا نوع من السحر وإن يسوع كان ساحراً غشاشاً واستحق أن يُصلب. ولذلك أحرقته الكنيسة ومنعت كتبه. والكل يعرف ما حدث للعالم جليليو. وقد اثنى الفاتيكان على الأسقف بارثلوميو كاروزا لأنه جمع فهرساً بأسماء كل الكتب التي منعها الفاتيكان من النشر. اعتقد البابا وزبانيته أنهم إذا منعوا الناس من قراءة ما يكشف زيف الأديان، وإذا قتلوا وأحرقوا كل من يتجرأ وينتقدهم أو ينتقد تعاليمهم، فسوف يستمر الحال كما هو وسوف يظل استعبادهم للبشر سارياً
لا شك أن الألماني مارتن لوثر (1483-1546) الذي كان قسيساً وبروفيسور في علم الأديان والذي بدا تجديد أو تعديل المسيحية عندما نشر في العام 1521 كتابه الذي رفض فيه صكوك الغفران التي كانت الكنيسة الكاثوليكية تبيعها للعوام لمحو ذنوبهم وإدخالهم الجنة، والذي وترجم الكتاب المقدس من اللاتينية إلى الألمانية حتى يفهمه العوام، كان أكثر الرجال تأثيراً في انقسام المسيحية إلى فئتين رئيسيتين: الكاثوليكية والبروتستانت. وكعقاب له فصله البابا من الكنيسة Excommunicated
وحاولوا اعتقاله لمحاكته لولا أن الجماهير التفت حوله ومنعت رجالات محاكم التفتيش من الاقتراب منه. وعندما حذا الإنكليزي وليام تانديل
William Tindale
حذوه وترجم الإنجيل إلى الإنكليزية أعدمته الكنيسة عام 1536
بعد انقسام المسيحية إلى كاثوليك وبروتستانت انتقلت المعارك الفكرية إلى فرنسا حيث كان البروتستانت أكثر عدداً في فرنسا من أي بلد أوربي آخر. من ابرز دعاة التحرر في فرنسا كان رابيلي
Rebelais
(1493 -1553). بدأ حياته كقسيس وقضى خمسة عشر عاماً من حياته كراهب في دير ثم درس الطب وكان أول من قام بتشريح جثة إنسان وعُيّن محاضراً في الطب. ولكن عندما نشر كتابه (بانتاكرويل)
Pantagruel
الذي انتقد فيه فكرة أن الله قد قدّر كل شيء لكل مخلوق كان أول المهاجمين له هم أساتذة السوربون في باريس لخوفهم من الكنيسة وللحفاظ على وظائفهم. فالعلم بدون شجاعة أدبية وتحمل للمسؤولية لا يخدم قضايا الفكر. وكالفن الذي كان صديقة في وقتٍ سابق هاجمه واتهمه بالكفر والإلحاد. وأجاز البرلمان الفرنسي قراراً يمنع طبع وبيع كتبه.
وكان هناك رجال من أمثال
Bonaventure و Desperiers و Dolet
الذين تخلوا عن البروتستانتية وهاجموها، وكنتيجة لهذا التصرف اتهموهم بالإلحاد وكان لزاماً عليهم أن يهربوا من فرنسا. وكان
Dolet
قد نشر كتاباً اسمه
Cymbalam Mundi
سخر فيه من المسيحية ومعجزات الأنبياء وتناقضات الإنجيل واضطهاد المخالفين فكرياً. وبالتالي صادرت السلطات كتابه الذي تم حرقه في ميدان عام.
أما الأسقف الفرنسي الكاثوليكي
Guillume Pellicier
فقد ترك الكاثوليكية وتحول إلى البروتستانتية ثم الإلحاد في العام 1568. والفيلسوف مونتيه
Montaige
نشر مقالاً يزعم فيه أن الأديان تساعد بقوة في نشر الشر ولا تساعد في الخير لأنها تحمي المعاصي وتغذي وتشجع على ارتكابها. وقد منع الفاتيكان توزيع كتابه.
أما القسيس الأب فرانسوا جراس
Francois Garasse
فقد كتب سِفراً من ثمانية أجزاء قال فيه:
1- هناك أعداد بسيطة من الأذكياء في العالم، والأغبياء (الرجل العامي) غير مؤهل لفهم اطروحاتنا
2- الأذكياء يؤمنون بالإله كرمز وكمنظومة جماهيرية فقط
3- الأرواح الحرة لا يمكن استدراجها لتصدق بالسخف الذي يؤمن به العامة
4- لا توجد أي قوة أو سلطة عليا في العالم غير الطبيعة التي يجب أن نطيعها في كل الأشياء ودون أن نرفض الاستمتاع بما تتطلبه أجسادنا وحواسنا
5- لو فرضنا أن هناك إله، كما تتطلب الخزعبلات المنتشرة بين العامة، فهذا لا يعني بالضرورة وجود أجسام ذكيه وغير مرئية لأن أجسامها لا تحتوي على المادة. كل ما في الطبيعة مكوّن من المادة وبالتالي ليس هناك ملائكة ولا شياطين وليس هناك أي دليل أن روح الإنسان خالدة
وكنيجة لهذه الصراعات الفكرية بين الكاثوليكية والبروتستانتيه وبين رجال الدين والمفكرين الأحرار فقد نشبت الحروب الدينية في فرنسا في عام 1562 بين الكاثوليك والبرتستانت واستمرت ست وثلاثين سنةً وقُتل فيها ما بين اثنين إلى أربعة ملايين شخصاً. وهذا يُثبت ما قاله
Guillume Pellicie
من أن الأديان تشجع وتنشر الشر أكثر مما تنشر الخير.
وفي إنكلترا في القرن السادس عشر كانت الملكة أليزابث الأولى قد تولت الملكية وشجعت البروتستانتية وأمرت بإنشاء الكنيسة الإنجليكية
Church of England
التي كانت هي رأسها. ولأن المثقفين كانوا قد سئموا الكاثوليكية وكنيستها وتجبر البابا فقد انتشر الإلحاد في إنكلترا في القرن السادس عشر لدرجة أن اللورد أشام
Ascham
كتب “إن الإلحاد موجود بكثرة بين الطبقات العليا التي كان أفرادها قد سافروا إلى أوربا”، مما حمل اللورد بيرغلي Burghley
أن يكتب في وصيته لابنه “لا تتحمل أن يعبر أبناؤك جبال الألب لأنهم لن يتعلموا من تلك البلاد غير الغرور والإلحاد”. وفي عهد الملكة اليزابث الأولى طالب وزراؤها بأن تكون الدولة والكنيسة شيئاً واحداً. واتبعوا طريقة محاكم التفتيش في حرق كل من يشكون أنه من أصحاب البدع. فمثلاً في مدينة نوريش
Norwich
حاكم اسقفها رجلاً بسيطاً يصنع المحاريث لأنه قد أنكر وجود المسيح في عام 1579 وقطعوا أذنيه ثم أحرقوه. وأحرقوا في نفس المدينة رجلاً اسمه لويس بنفس التهمة في عام 1587. أما الشاب فرانسيس كيت
Francis Kett
الذي كان قسيساً تخرج في جامعة كيمبردج، أحرقه أسقف مدينة نوريش بتهمة الزندقة في عام 1589. أما جون هاتون، قسيس في جماعة
Holy Orders
فقد قال في إحدى خطبه بالكنيسة إن الكتاب المقدس (العهد القديم والعهد الجديد) ما هي إلا قصص خرافية. حاكمته الكنيسة بتهمة الزندقة في عام 1584 ولكنه تراجع عن ما قاله، فقالت سلطات الكنيسة إنه قال ما قاله تحت تأثير الخمر وصفحوا عنه. وقد وقفت الكنيسة في إنكلترا ضد المسرح وضد الكتب التي تنتقد المسيحية. وبهذا دفعت أناساً كثيرين إلى الإلحاد لدرجة أن توماس ناش في كتابه (دموع المسيح على القدس)
Christ’s Tears over Jerusalem
، في عام 1502، قال “لا يوجد هناك أي مذهب في إنكلترا أكثر انتشاراً من الإلحاد، والملحد دائماً يتخذ من العقل إلهاً”.
ونلاحظ هنا أن أغلب الذين قادوا التنوير في أوربا كانوا من رجالات الكنائس المختلفة وكذلك الفلاسفة العظام في القرن السادس عشر من أمثال بيير شارو
Pierre Charron
ونيكلوس كوبرنكوس Nicholaus Copernicus
و ريني ديكارت Rene Descartes
وإراسماس Erasmus
و جاليليو Galileo Galilei.
وقد انتصر هولاء الرجال الشجعان بأقلامهم على جبروت الكنيسة ومحاكم تفتيشها، ولكن مأساتنا في البلاد العربية والإسلامية أنه لا يوجد بيننا أي فيلسوف منذ أيام ابن رشد، ولا نجد رجل دين واحد بشجاعة وفهم رجل الدين الشيعي احمد القبانجي. رجال الدين عندنا وعاظ سلاطين مشغولون بجمع المال وإرضاء الحاكم، وهم أصلاً جهلاء لم يدرسوا شيئاً غير القرآن والسُنة، وما زال بعضهم يفتي أن الأرض ثابتة والشمس تدور حولها، ومن يقول بغير ذلك فهو ملحد. وأغلبهم يكرر علينا الحديث الذي يقول “ليأتي على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل حتى لو كان منهم من يأتي أمه علانيةً لكان من أمتي من يصنع ذلك وأن بني إسرائيل تفرقت اثنتين وسبعين ملة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملةً واحدةً ” (الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، ج 4، سورة آل عمران، الآية 103). ولو آمن شيوخ الإسلام بهذا الحديث لاقتنعوا أن ما حدث في أوربا لا شك سوف يحدث في بلادهم حذو النعل بالنعل، وسوف يتحرر العقل المسلم من ترهاتهم وخرافاتهم. ولكن كما قلت سابقاً فإن مشكلتنا هي بطء حركة السير إلى الأمام لأننا نسير بسرعة البعير وغالباً إلى الوراء. استغرقت عملية التنوير حوالي مائة عام لتنتشر في أوربا في القرن السابع عشر، ونحن الآن في القرن الحادي والعشرين وما زالت حكوماتنا دكتاتوريات وشيوخنا يكيلون الويل والثبور للملحدين ويصادرون الكتب من معرض الكتاب في جميع البلاد الإسلامية. ولكن ما يشجع الإنسان هو أن بوادر التغيير قد بدأت بفضل الانترنت، وليس هناك بلدٌ مسلم ليس به جمعيات لا دينيين وملحدين. العائق الكبير في طريقنا هو أن مناهج التعليم ما زالت في أيدي رجالات الدين، وهذا حتماً سوف ينتج لنا ملايين الأطفال المؤدلجين، وهم قادة المستقبل. فإلى أن ننتزع المناهج من الشيوخ سوف نظل نتقدم خطوة لنرجع خطوتين. ولكن أهم من ذلك “لا حياة مع اليأس ولا يأس مع الحياة”.
خير الكلام … بعد التحية والسلام ؟
١: التاريخ يشير بكل وضوح أن التنوير في المسيحية قد بدأ من داخل الكنيسة نفسها (من متعلميها) ، أما التنوير في الاسلام فيستحيل أن يتم من داخله لان من يقودونه رجال دين وحكام هم من أجهل الأقوام ، لذا أقتضى تنويره من ممن هم خارجه ؟
٢: زمن التنوير في المسيحية رغم طوله لقرن من الزمان ، لكن في النهاية وضعت قاطرة المسيحية (الاولى) على السكة الصحيحة رغم صعوبة المواصلات والاتصالات وتعليم العموم بالاضافة إلى شيوع الجهل والخرافات ، لكن ماعذر المتنورين في أمة إقرأ بقائهم لليوم يجترون أفكار السلف الطالح دون خجل أو حياء رغم وضوح الحقائق للقاصي والداني من خلال سهولة المواصلات والاتصالات ووسائل التنوير ؟
٣: وأخيرا قالها السيد المسيح ( هل يجتنى من الشوك عنب أم من العوسج تين ) ونحن نقول ( كيف سينتج عقل البداوة فكر في ظل سيف أو قهر ) سلام ؟