يصف مناصرو إدوارد سنودن، المتعاقد السابق لدى وكالة الأمن القومي الأميركية، الرجل بأنه بطل ما يمكن أن يطلق حرية الإنترنت. إلا أنه عندما يناقش كبار الخبراء الأوروبيين والأميركيين قضية مستقبل الفضاء الإلكتروني بشكل سري، فإنهم يعربون عن قلقهم من أن عالم الإنترنت في فترة ما بعد سنودن سيشهد فرض الكثير من القيود، بدلا من تمتعه بالمزيد من الحرية. يقول أحد الأميركيين، وقد بدت الكآبة في كلامه: «ربما نكون آخر الأجيال التي تستمتع بالحرية في استخدام شبكة الإنترنت»، بسبب القيود الجديدة والسياسات الحمائية التي من المتوقع فرضها على الشبكة العنكبوتية.
سيقول دعاة الخصوصية إن أي مخاطر مستقبلية هي نتاج أخطاء نظم المراقبة المتغلغلة في كل مكان التي تتبناها وكالة الأمن القومي الأميركية، وليس نتاج قيام سنودن بفضح تلك النظم وكشفها. ودعونا نترك تلك الإشكالية، التي تذكرنا بقضية الدجاجة والبيضة، لرأي المؤرخين. لكن ذلك يجعلنا نتساءل عن كيفية منع رد الفعل المعادي لوكالة الأمن القومي من القضاء على الحرية النسبية المتاحة على الإنترنت التي غيرت وجه العالم، والتي استغلتها وكالة الأمن القومي نفسها (وعدد آخر من الأجهزة الأمنية) لصالحها. للأسف، يبدو أن العلاج هنا سيكون أشد ضررا من المرض نفسه، لا سيما فيما يخص فرض قيود على الدخول على الإنترنت والتشديد على مسألة الأمن الإلكتروني، وحتى سياسة الخصوصية.
وإذا ما نظرنا إلى بداية القضية، يبدو لنا أن الأميركيين يحتاجون فقط لفهم الغضب العارم الذي انتاب الأوروبيين بسبب تجسس وكالة الأمن القومي الأميركية على أسرارهم الشخصية. في الأسبوع الماضي، خلال فعاليات مؤتمر ميونيخ للأمن، قال وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، إنه يتنبأ بحدوث «نهضة عابرة للأطلسي» مع توقيع مجموعة جديدة من الاتفاقيات التجارية والدبلوماسية. وحتى الآن، يبدو كلام كيري كأنه نعي لموت وكالة الأمن القومي.
يقول أحد سياسيي أوروبا البارزين، خلال عشاء خاص رفيع المستوى نظمه المجلس الأطلسي لمناقشة قضايا الفضاء الإلكتروني: «الناس في واشنطن لا يدركون مدى خطورة مشاعر الغضب التي تجتاح أولئك الذين على الشاطئ الآخر للمحيط الأطلسي». ويتوقع ذلك السياسي الأوروبي أن الشركات الأميركية ستخسر عائدات تتراوح بين 28 مليار دولار و32 مليار دولار لصالح شركات الحوسبة السحابية الأوروبية، التي ستقوم بتسويق خدمات تخزين البيانات المضادة لعمليات تجسس وكالة الأمن القومي الأميركية.
ويبدو ازدهار شركات الحوسبة السحابية الأوروبية مفهوما، في ضوء فكرة سعي الشركات لانتهاز الفرص التي تسنح لها لتنمية نشاطها وتوسيعه. غير أن تلك الخطوة من الممكن أن تؤدي إلى بناء الكثير من الأسوار حول الفضاء الإلكتروني في أوروبا، وهو ما يهدد بتحويل شبكة المعلومات العالمية إلى سلسلة من الجزر المنعزلة بعضها عن بعض.
تبدو قضية حوكمة الإنترنت مقلقة؛ فعلى مدى عدة عقود ماضية، كانت هيئة الإنترنت للأسماء والأرقام المخصصة (آيكان) الخاصة هي الجهة المسؤولة عن إدارة وتنسيق نظام أسماء النطاقات. ورغم ولع «آيكان» بتطبيق مبادئ الخصوصية، فإن الكثيرين يرون أنها باتت تخضع لسيطرة الأميركيين، ومن ثم فقد صارت مخترقة. وعلى ذلك، فإن أي بديل لتلك الهيئة سيمنح الاتحاد الدولي للاتصالات، التابع للأمم المتحدة، دورا رقابيا أوسع. ويعد المسؤول الصيني هولين جاو، نائب الأمين العام للاتحاد الدولي للاتصالات، هو المرشح الأوفر حظا لتولي منصب رئيس الاتحاد.
ويقول الأميركيون والأوروبيون إن مسألة حماية شبكات البيانات ربما تكون في حقيقة الأمر مهمة في غاية الصعوبة، لا سيما في عالم ما بعد سنودن. هذا لأن توفير الحماية المتقدمة للفضاء الإلكتروني يتضمن تعاونا بين وكالات مثل وكالة الأمن القومي الأميركية (ونظيرتها في الدول الأخرى) والشركات الخاصة التي توفر خدمات الإنترنت. ويبدو ذلك التعاون في الوقت الحالي إثما لا ينبغي ارتكابه.
وهناك معضلة أخرى، وهي أن الغضب العارم تجاه نشاطات التجسس الأميركية ربما تجعل من السهل بالنسبة إلى أجهزة الأمن الروسية والصينية التجسس على شعوبهم. يقول خبير إلكتروني إن «الروس والصينيين سيتحججون بمسائل الحفاظ على سيادة الدولة ومنع العدوان على فضائهم الإلكتروني ليوفروا الغطاء اللازم لتنفيذ أجندتهم للسيطرة على شعوبهم».
غير أن الكثير من الأوروبيين أخبروني بأن الرئيس أوباما اتخذ خطوة جيدة عندما أعلن في حديثه الشهر الماضي عن وضع ضوابط جديدة لعمل وكالة الأمن القومي الأميركية.
* خدمة «واشنطن بوست»
منقول عن الشرق الاوسط