ما دام الموت، الذي شغل البشر منذ الإنسان الأول، نهايةً يحتمها قانون بيولوجي لا يُرد، تم التحايل عليه بطرق عدة، فقد نشأت، مثلاً، فكرة «الخلود» بوصفها تهميشاً للموت، أو تحويلاً له إلى مجرد محطة للعبور. وكانت الأهرامات الفرعونية التجسيد النُصبي الأعظم للفكرة هذه. كذلك، وعلى مستوى السلطة في معناها المباشر، نشأ «التوريث» الذي يُراد له أن يُبقي الميت حياً من خلال نجله وأنجال نجله. ولأن الابن، كما قيل، سر أبيه، فهذا التواصل الجيلي يضفي الخلود على «السر» المقدس فيزيده قدسيةً. وهنا، في التوريث، بات الهرم هو الشخص المتواصل نفسه. إنه خوفو الذي من لحم ودم.
لكنْ كثيراً ما تصالحت هاتان التقنيتان التاريخيتان، والدراميتان، في ملاعبة الموت، فأقيمت التماثيل والنُصب للحاكم الوريث. والحجرُ، كما هو معروف، لا يُزال ولا يُمحى مع الزمن. هكذا اجتمع الخلود والتوريث في طوطم شبه إنساني، شبه ميثولوجي.
وفي سورية، انطوت مفردة «الأبد» على هذه المعاني مجتمعة، وعلى الهامش، وفي اللحظات الصعبة، وُجدت تقنية ثالثة للتحايل على الموت لا صلة لها بتاتاً بالعظمة المزعومة: إنها الوضاعة التي تحمل صاحبها على تقبيل الأيادي واللحى، وطي ما يُفترض أنه مبادئ وقيم متبناة، في سبيل الحفاظ على الحياة.
لكنْ في النهاية بقي المبدأ الحاكم يقول: ما دام القائد خالداً، منقوشاً في الصخر ومتواصلاً في الأجيال، فإنه رفيق الأبد، وكلّ ما هو أقصر من الأبد، أو أقل، فسحةٌ لا تكفيه لاستعراض خلوده.
والقائد الخالد والأبدي لا يواجه مشكلة أو أزمة مهما كانت كبيرة، سمها ثورة أو إطاحة نظام، بل يواجه الشر بوصفه شيئاً خالداً وأبدياً هو الآخر، إلا أن خلوده وأبديته سلبيان. وهذا ما يفسر أن إعلام خوفو لم يتحدث إلا نادراً عن فاجعة راهنة يواجهها النظام، بل مارس، على السوريين والعرب والعالم، الإيهام بالفاجعة الأعظم التي لا بد أن تحدث في حال سقوطه. وكردع مسبق لهذا الشر الجوهري المنقوش في أفق المستقبل، تغدو الوحشية مطلوبة، لا مرغوبة فحسب، لأنها محكومة بغرض نبيل واستباقي في آن معاً. ومن دون الوقوع في تآمرية الظن أن النظام أوجد التنظيمات التكفيرية، يبقى أن الغرابة التي قد تنطوي عليها تلك التنظيمات، وقدرتها غير المألوفة على إثارة الرعب، يجعلانها مطلوبة من النظام، لا مرغوبة فحسب. فهي تكمل لوحة الثنائية الضاربة في الأصل البشري بين الخير الدائم والشر الدائم، وتمد ذاك «الخير» بنسغ مغذٍّ وحياة مديدة.
هذه العلاجات كلها، التي تجمع الواقعي إلى الأسطوري، ربما شرعت اليوم تكف عن الاشتغال. وقد أطنب المعلقون والمراقبون في شرح الأسباب التي تقف وراء ذلك: من التنسيق الإقليمي بين دول عدة ضد الأسد، إلى تراجع الحماسة الإيرانية له، ومن المراجعة الروسية لأكلاف سياسة موسكو في دمشق، إلى تزايد الدعم الذي يحظى به المعارضون. وإلى هذه يضاف سبب مؤلم هو ترقق القاعدة الأهلية التي استند إليها الأسد، وارتداد الصراع المسلح إلى خامه العددي.
لقد واجه السوريون تحايل نظامهم على الموت، وهو ما بدأ بإسقاط التماثيل، وما قد يجد تتويجه بسقوط الأسد نفسه. وهذا الاحتمال الكبير يضعنا أمام سؤال مُر وحارق: إذا كان سقوط مئات آلاف السوريين شرطاً لحياة «الأبد»، فهل يكون موت هذا «الأبد» شرطاً لحياة السوريين؟ إنه سؤال المسؤولية المطروح على أبناء سورية، وعلى العالم بمعنى ما.
أما الآن، في هذه اللحظة بالذات، فلنحتفل بالاحتمال الكبير.
*نقلاً عن “الحياة”