مقدمة :
كلّ فصل كلّ صفحة كلّ سطر في هذا الكتاب العلمي المُمتع له قيمته العلمية والمعرفية ,حتى بالنسبة للأشياء التي تعلّمناها منذ صغرنا!
أنا أنصح الراغبين بفهم نظرية التطوّر والإنتقاء الطبيعي بسهولة ومتعة (في آنٍ معاً) بقراءة هذا الكتاب نظراً لإسلوب مؤلفه الشيّق السلس.
مؤلفه هو د.ريتشارد داوكنز التلميذ النجيب لأشهر عالم خدمَ البشرية الذي هو تشارلس داروين بالطبع!
عنوان الكتاب بالإنكليزية :
The Greatest Show on The Earth – The Evidence for Evolution
أو قراءة الترجمة العربية له (كما أفعل) للسيّد لؤي عشري!
نصيحتي هذه في الواقع تعكس شعوراً بالذنب كلّما إختصرتُ لكم مثالاً أو صفحة من هذا الكتاب .لذا أوصي بقراءته كاملاً !
الآن أستمر معكم وسنقرأ في هذا الجزء عن التدجين الذي قامَ به الفلاحون والبستانيّون طوال الوقت مع الكثير من الحيوانات .علماً أنّ عمليّة التدجين هي ليست سوى تسريع (يقوم به الإنسان) لعمليّة التطوّر والإنتقاء الطبيعي الذي يحدث دون تدّخل البشر ,لكن على مدى زمني واسع جداً!
والسؤال المهم : ماذا يفعل التدجين مع الجينات؟
***
ص 19/ نبات المَلفوف المدهِش !
عَرَفَ داروين الكثير عن تربية الحيوانات والنباتات.كان متآلفاً مع هواة تربية الحَمام والبُستانيين.أحبّ الكلاب وكتبَ كثيراً عنها.
كتابه (تنوّع الحيوانات والنباتات تحت تأثير التدجين) ضمّ فصولاً عن الكلاب والقطط ,الأحصنة والحَمير,الخنازير والماشية,الخِراف والماعِز الحَمام والدجاج والطيور المختلفة (كرّس داروين فَصلَين عن الحَمام نظراً لولعهِ الشخصي به) .كذلك ضمّ الكتاب فصولاً عن النباتات المختلفة ومنها نبات الملفوف المُدهش!
الملفوف نبات يتحدّى نظريتي الجوهريّة وثبات الأنواع (التي وردَ ذكرها في الجزء السابق) التي تقول بإختصار و(بلا أدنى دليل عِلمي) :
دائماً يقبع هناك في السماء نموذج مثالي بصفات كاملة ثابتة لا تتغيّر لكلّ كائن حيّ موجود على الأرض / إنسان,كلب, أرنب,سمكة,دجاجة,شجرة رمان,نبات الملفوف..الخ!
الملفوف البرّي
Brassica oleracea
هو نوع غير مشهور,أشبه بنسخة العُشب الضار من ثمرة الملفوف المُدجنة!
خلال قرون قليلة فقط نحتَ البستانيّون ,مُستخدمين أزاميلَ النحت الرقيقة والفضة من صندوقِ أدواتِ تقنيات التدجين (على حدّ تعبير داوكنز)
نحتوا هذه النبتة عديمة الصفات المُميّزة تقريباً ,الى نباتات مختلفة على نحوٍ مُدهش.مختلفة عن بعضها البعض وعن السَلَف البَريّ المُشترَك!
فأوجدوا أنواعاً عديدة كالبروكلي
broccoli
والقرنبيط الأبيض والكرنب الساقي (أبو ركبة) واللفت وزهرة بروكسل وورق الكرنب والرومانسكو والعديد من الانواع الأخرى التي تُدعى كلّها بين العامة ..ملفوفاً!
***
ص 20 / نحت الذئب !
***
مثالٌ آخر مألوف (لدى المُزارعين ومربّي الحيوانات الداجنة) هو نحت الذئب
canis lupus
الى مايقرب 200 نوع من سُلالات الكلاب!
إنّ أنواع الكلاب
canis familiaris
التي يعرفها مربّو الكلاب الإنكليز كأنواع فرعيّة منفصلة .وكذلك العدد الاكبر من السلالات المعزولة جينيّاً عن بعضها بقواعد أشبه بسياسة الفصل العنصري لتربية النسَب.
كلّ تلك الكلاب المُدجنة تشترك بَسلَف (برّي) واحد هو الذئب!
رغم أنّ ترويض تلك الأنواع من الكلاب حدثَ غالباً على نحوٍ مستقل في أماكن مختلفة من العالَم!
لكن حتى التطوّريون لم يعتقدوا دوماً هكذا.فقد ظنّ داروين والعديد من مُعاصريه أنّ الأنواع العديدة من الكلبيّات البريّة
canid ,
بما فيها الذئاب وإبن آوى ,يُسهمون في نَسَب كلابنا المُدجنة!
حتى (كونراد لورنز) عالِم سلوك الحيوان النمساوي وأحد مؤسسي الإيثولوجيا الحديثة,الحائز على جائزة نوبل عام 1973 ,كان له نفس الرأي .ففي كتابه (الإنسان يلتقي بالكلب) المنشور عام 1949 يقول بفكرة مفادها أنّ سُلالات الكِلاب المُدجنة تنقسم الى مجموعتين رئيستين :
الأولى/ جاءت من إبن آوى ,وهي تشكل الأغلبيّة!
الثانية/ إنحدرت من الذئاب (التي كان يقول أنّه يفضلها بشكلٍ شخصي بما فيهم الكلب الصيني
chows )!
يبدو أنّه ليس لدى (لورنز) دليل على تقسيمهِ هذا ,سوى الإختلافات التي ظنّ أنّه رآها في صفات وشخصيّات السلالات!
ظلّت هذه المسألة مفتوحة وخاضعة للجدل العِلمي والنقاش,حتى أتى دليل الوراثة الجزئية ليحسمها .اليوم لم يَعُد هناك أدنى شكّ!
فليس للكلاب المُدجّنة أيّ سَلَف (إبن آوى) على الإطلاق!
كلّ سلالات الكلاب هي ذئاب مُعدّلة ,لا إبن آويّات ولا قيوط ولا ثعالب!
(ملاحظة: القيوط
coyotes حيوان لاحم أمريكي يشبه الذئب)!
***
التدجين!
يقول د.ريتشارد داوكنز عن موضوع التدجين مايلي:
النقطة التي أريد إستخلاصها من التدجين هو قوّتهِ المُذهلة في تغيير شكل وسلوك الحيوانات البريّة ,والسرعة التي قام بها بهذا الإنجاز!
إنّ المُربين أشبه مايكونوا (ناحتي تماثيل) من طين قابل للطَرِق بشكلٍ لا نهائي ,مستخدمين أزاميلهم الخاصة!
ناحتينَ الكلاب أو الأحصنة أو الأبقار أو الملفوف الى مايريدون!
وثاقة الصلة بين التدجين (التطوّر الإصطناعي) مع التطوّر بالإنتخاب الطبيعي هو كون القوة المُنتَخِبة في التدجين هي الإنسان وليس الطبيعة!
العمليّة هي ذاتها ,لكن تتم بطريقة مختلفة!
هذا سبب تركيز داروين على التدجين في بداية كتابه(عن أصل الانواع)!
فأيّ شخص يُمكنه بسهولة فَهم مَبدأ التطوّر بالإنتخاب الإصطناعي!
الإنتخاب الطبيعي هو نفس الامر مع تغيّر تفصيلة واحدة ثانوية ,فما هي؟
***
الحوض الجيني!
للحديث بدّقة أقول ,لم يكن جَسد الكلب أو الملفوف هو ما نُحِتَ من قبل المُربين الناحتين ,لكن (الحوض الجيني) لسلالة النوع هو المنحوت!
إنّ فكرة الحَوض الجيني مَركزيّة في جسم المَعرفة العامة والنظرية المعروفة بإسم (النظرية التطوّريّة التركيبيّة الحديثة)!
فداروين نفسه لم يعرف شيئاً عنها .وهي لم تكن جزءً من عالَم أفكارهِ ولا الجيينات أيضاً !
في الواقع كان داروين مُدركاً تماماً بأنّ الصفات تورَّث في العائلات!
وأنّ الذُريّة تميل لتشبه أبويها وأقربائها!
وأنّ صفات خاصة في الكلاب والحَمام تُربّى وتنمو بشكلٍ صائب!
نعم كانت الوراثة بَنداً رئيساً في نظريتهِ عن الإنتخاب الطبيعي!
إنّما الحَوض الجيني هو شيء آخر!!!
إنّ مفهوم الحَوض الجيني يكتسب معناه فقط في ضوء قانون مندِل عن التصنيف المُستقِل للجُسيمات الوراثية!
في الواقع لم يعرف داروين قوانين مندل قط ,رغم أنّ جورج مندل الراهب النمساوي أبا علم الجينات كان مُعاصراً لداروين!
إلّا أنّه نشرَ مكتشفاتهِ في جريدة ألمانيّة لم يرها داروين قط!
***
خلط الجينات !
الجين تبعاً لقوانين مندل هو وجود تام أو إنعدام وجود !
فعندما (حُبِلَ) بكَ ,فإنّ ما تلقيته من صفات أبيك لم يكن مادة للخلط مع ما تلقيته من أمّك ,على غرار خلط طلاء أزرق مع أحمر لعمل إرجواني!
فلو كانت تلك حقّاً الكيفيّة التي تعمل بها الوراثة (كما كان الناس يظنّون بشكلٍ مشوّش زمن داروين) ,لكنّا كلّنا مُعدّلات متوسطة!
يعني منتصف المسافة بين والدينا!
في تلك الحالة كان التباين الوراثي سيختفي سريعاً من صفات أفراد النوع
(المجموعة السكانيّة)وليس مهماً في تلك الحالة إجتهادك في خلط الطلائَين الأحمر والأزرق ,فأنتَ لن تعيد تكوين الأحمر والأزرق الأصليين أبداً!
في الحقيقة كلّ أمريء يمكنه أن يرى بوضوح أنّه ليس هناك مثل تلك النزعة الجوهرية للتباين الوراثي ,بأن يقّل في المجموعة السكانيّة!
أوضحَ مندل أنّ ذلك سببه عندما تتحد الجينات الذكرية والإنثوية في طفل (في الواقع مندل لم يستخدم كلمة جين كونها لم تُخترع حتى عام 1909)
فهي لا تكون كمزجِ الطلائَين!
بل هي أشبه بخلط وإعادة خلط البطاقات في حزمة!
حالياً نحنُ نعلم بأنّ الجينات هي قطَع من شفرة الحَمض النووي
DNA
يُمكن القول أنّها تُخلَط الى أبعد الحدود ,مع مجموعات من بطاقات ملتصقة سويّاً لأجيال عديدة من الخلط ,قبل أن تأتي فرصة فصلها عن بعضها!
إنّ أيّاً من بيضاتكِ ( أو حيوناتك المنوية لو كنتَ ذكراً) تحتوي إمّا نسخة أبيك من جينات معيّنة ,أو نسخة أمّك! يعني ليس خليطاً من الإثنين!!!
وتلك الجينات المُعيّنة أتت من واحد (واحد فقط) من أجدادك الأربعة!
وواحد (واحد فقط) من أجدادك الثمانية الأكبر !
إنّ الإدراك المُتأخّر يقول بأنّ هذا كان يجب أن يكون واضحاً دوماً !
عندما تُهجّن ذكراً مع أنثى تتوّقع ان تحصل على ولد أو بنت وليس خنثى!
الإدراك المتأخّر يقول أيضاً أنّ أيّ شخص جالس مستريح على كرسي بذراعين (داوكنز يحّب المزاح للتخفيف من عبء العِلم) يمكنه أن يُعمّم نفس مبدأ (الكلّ أو لا شيء) على وراثة كلّ وجميع الصفات!
على نحوٍ فاتن فإنّ داروين نفسه كان مُقترباً بشكل أشبه بوميض خافت غامض من هذا ! لكنّه توّقف قليلاً فقط لعمل العلاقة السببيّة الإرتباطيّة الكاملة .فقد كتبَ عام 1866 في رسالة الى (ألفريد والاس) ما يلي:
عزيزي والاس :لا أعتقد أنّك تفهم ما أعنيه بعدم إمتزاج تباينات مُعيّنة!
فهذا لا يشير الى الخصوبة .سأوضح لك هذا الامر بمثال!
لقد زاوجتُ فراشة (السيّدة المُبهرجة)
Painted Lady
(هذه فراشة ذات علامات سوداء وبُنيّة وبرتقالية) مع فراشة الـ
Purple sweet peas
الإرجوانيّة ,واللذان هما متباينان في ألوانهما الى حدٍّ بعيد ,وحصلت من نفس السرب على التباينين كليهما بشكل كامل وبلا متوسطات!
يجب أن أعتقد بدايةً أنّ أمراً كهذا يحدث مع فراشاتك (داروين هنا يسأل والاس عن ذلك),ثم يضيف القول :
رغمَ أنّ هذه الحالات رائعة في المظهر فإنّي لا أعلم إن كانت حقاً تزيد في أيّ شيء عن أيّ أنثى في العالّم (يقصد البشر أيضاً) مُنتجة لنسل ذكور و إناث مُتمايز!
الى هذا الحدّ إقترب داروين من إكتشاف قانون مندل عن عدم إمتزاج (ما نُسميه اليوم) الجينات !
***
الخلاصة :
يقول مؤلف هذا الكتاب د. ريتشارد داوكنز :
فقط لأختم الفكرة عن الأحواض الجينيّة أقول ,أنّ كلّ فرد حيوان نراه في مجموعة سكانية هو عيّنة من الحَوض الجيني لعصره (أو بالأحرى لعصر أبويه) .لا توجد نزعة جوهريّة طبيعية في الأحواض الجينيّة لجينات مُعيّنة للزيادة أو النقصان في التكرر!
لكن عندما يكون هناك زيادة أو نقصان نظامي في التكرّر الذي نرى به جيناً مُعيناً في حوض جيني ,فهذا هو تماماً ما يُقصَد به مصطلح التطوّر!
إذاً السؤال بالتالي هو :
لماذا ينبغي أن يكون هناك زيادة أو نقصان نظامي في تكرار الجين؟
من هنا ستصبح الامور مشوّقة وسنأتي على ذلك في سياقٍ مناسب!
***
بالطبع لاحقاً سيجيب داوكنز عن أسئلة عديدة مثل توّسط لون الطفل بين أبويه وأنواع الجينات وتأثيراتها وما شابه!
لذا أكرّر دعوتي لكلّ مَن يشاء فهم نظرية التطوّر والإنتقاء الطبيعي لداروين ,قراءة هذا الكتاب الرائع الذي إستحق عنوانه :
أعظم عَرض على وجه الأرض !
كي لا ينخدع المرء بأقاويل المشايخ الاغبياء حول تلك النظرية التي باتت تمثّل الحقيقة المركزية الأولى في علم الأحياء وباقي العلوم ذات الصلة!
تحياتي لكم
رعد الحافظ
11 يوليو 2016
غداة فوز البرتغال (وكريستيانو رونالدو) ببطولة اوربا بكرة القدم !